دراسات

بناء الحكاية وفعل التصوير المنظم في قصة جحافل من السراب لفهيمة الشريف[1]

اشتغال نقدي تطبيقي على النصوص

هذه دراسة حول قصة (جحافل من السراب) للكاتبة ا. فهيمة الشريف وهي جزء من مخطوط كتابي الثالث من سلسلة مكونة من أربعة كتب حول القصة الليبية الشبابية القصيرة.

1.3.2 مدخل عن طبيعة القصة:

يعاني من يريد دراسة نص قصصي تجريبي من كون حدود المعنى غير ظاهرة بشكل واضح، ولا توجد أحداث متسلسلة متتابعة، ويستتبع ذلك كونه يدخل في ثنائية غير مناسبة؛ الأولى أن يقول في النص ما ليس فيه وهذه إشكالية كبيرة، والثانية أن يظلم النص، حيث لا يجتهد في البحث عن مغاليقه، فيظلم النص.

أضع هذه الجمل في بداية دراستي لقصة جحافل من السراب للأستاذة فهيمة الشريف، وهو نص مفتوح في تأويله ربما يصدم القارئ العادي الذي تعود على النص السهل، لهذا ستكون في دراستي هذه نوعا من المناورة؛ بمعنى أنني سأحاول أن ألحق بفكرة النص التي تبدو غائمة إلى حد كبير؛ لكن من دون أن ابالغ لكي لا اكون واقعا لا في الخطأ الأول وهو بخس النص حقه، ولا في الخطأ الثاني وهو تقويل النص ما ليس فيه.

2.3.2 حكاية القصة:

تحكي القصة عن شيخ عجوز يعيش الوحدة منذ سنوات طويلة، بالتحديد منذ خمس عشرة سنة، وهو مقيم لوحده، ويبدو انه محب لغناء أم كلثوم التي في غناءها شجن وبكاء عن الأطلال والذكريات.

الشيخ يتذكر باستمرار ماض مشرق تمّ تصويره ضمن لوحة معلقة لكن في نهاية القصة نعرف أن ذلك هو ماض الشخصية، يرسم الراوي مشاعر الشخصية والشجن الذي يعيشه متذكرا طفله وفتاة ربما تكون الزوجة أو بنته أو أمه وفي النهاية يغادر الحياة. في القصة فواعل مهمة يجب عدم اغفالها بل إن دورها أكثر مركزية من الشخصيات، ومنها بندول الساعة الذي يدور ولا يتوقف عن الدوران.

3.3.2 تصوير الراوي لحالة الشخصية عبر النص المفتوح

بعد الصورة الأولى للبندول والصورة المعلقة على الحائط وما فيها نتابع صورة العجوز الوحيد منذ سنوات طويلة، سنتابع الصورة الأولى في القصة بوضعها مع الصورة النهائية لتحقيق فهم أكبر للقصة.

في (أ) صورة العجوز وحيدا، صورة تعبر عن الوحدة، مع محاولة استحضار شجن ما من خلال الحديث عن السرير النحاسي القديم، يزداد في (ب) ليأخذ الشجن نمط خوف معه من خلال صورة الحلقات اللامعة كعيني قط مقتنص. إننا كما نرى أمام تنويع على جانب الخوف؛ بحيث يبرز بشكل واضح المكونين النفسيين في القصة: وهما جانبي الشجن والخوف، وهما الجانبان الحاضران في هذه القصة كما يلي: الشجن تعبير عن حالة الفقد التي يعيشها الشيخ لوحده، بينما الخوف تعبير عن حالة الراوي الذي يتوجس من هذه الوحدة وهذه الوضعية التي يعيشها الشيخ، ويبدو أنه يتصور الشيخ بين الشجن والخوف وهو راو مندمج مع الشخصية، محاولا التعبير من خلال الصورة الخارجية عما يدور في أعماقها من آلام وخوف وذكريات قديمة.

جانب الشجن في حياة الشيخ وكونه يعيش حياته بين ذكريات قديمة نتعرف عليه أكثر من خلال فهم أزمة وحدته منذ خمسة عشر سنة كما يبرزها مقطع (ت)، وتمكينا لحضور حالة الشجن المصاحب لحضور الشيخ فإن الراوي يبرز فعله التواتري منذ زمن طويل وهو سماعه كل ليلة أغاني أم كلثوم بحيث تصبح حالة السماع هذه أداة لإبراز الفقد الذي يشعر به.

هذه الحالة من السبح مع غناء يدور حول الأطلال والماضي والتفكر في الراحلين وفي الخيانات وغيرها من موضوعات أغاني أم كلثوم الشهيرة يستمر كل ليلة إلى الفجر، وهو ما يمنع النوم عن الرجل ويجعله في حالة أكبر من التواصل، الأنغام تأتي من المذياع القديم.

نجد الراوي وهو يترك الفرصة للعجوز/ الشخصية ليطرح رؤيته في أغاني أم كلثوم في (ث) فهي أنغام ساحرة يتابعها كل ليلة حتى بزوغ الفجر.

“(أ) رجل يناهز السبعين يرقد في الغرفة وحيدا على سرير نحاسي،(ب) تلمع حلقاته الصفراء في النور الضعيف كعينا قط مقتنص، يصدر خشخشة تصرع سامعها كلما تقلب، (ت) منذ خمسة عشر عاما وهو ينام لوحده، (ث) أم كلثوم تشنف سمعه كل ليلة بأنغامها الساحرة، المنطلقة من مذياعه العتيق، (ج) ينطلق معها في رحلة طويلة تنتهي مع بزوغ الفجر”[2].

مكونات أخرى للصورة تزيد من تنويع أزمة الشيخ وهو يتذكر طفله/ (أو ربما الطفولة كلها) الذي رحل، يتم تصوير ذلك من خلال صورة لمسية، ثم تليها صورة مشتركة لمسية وبصرية في (ب) للطفل الذي يحبو، كما نتابع صورة شاجية، وهي صورة الدم الذي تتركه ركبتا الطفل على الأرض كوشم في ذقن عجوز. وهذه العجوز ليست إلا عجوزه القديمة، وذلك الطفل ليس إلا ولده (فيما يبدو)، وكلها مكونات تزيد من شجن الشيخ الوحيد حاليا، بينما نتابع في (ث) فعل العجوز التواتري وهو فعل ضمن دائرة شاجية تذكره بطفله وما يحلو له عمله معه. وينتقل بنا في (ج) لصورة سمعية عن بكاء الطفل وهي أداة للحديث عن موته أو ذهابه بعيدا في (ح). لنتابع ذلك في المقطع التالي:

“(أ) طفل يحبو على الأرضية المبلطة ببلاط خشن، عاري الركبتين، داميتين، (ب) لازال أثرهما باقيا عليها، كالوشم في ذقن عجوز، (ت) يتتبعها كل ضال، (ث) يحلو له رؤيته في أعقاب نهوضه من النوم وعودته من عمله، (ج) بكاؤه ظاهر في كل حجر يرن كناقوس كنيسة، (ح) يدعوه لابتهالات الرحمة على روحه الغائبة في شتاء بعيد بعد النجم عن الأرض”[3].

وهنا نجد صورة الطفل والفتاة وهما أداتين لإبراز المزيد من حكاية الشيخ

نتابع في المقطع التالي صورة الطفل الذي تشجي صورته الشيخ العجوز، كما نتابع في (ب) أم كلثوم وهي تغني ويندمج الراوي مع الشخصية معبرا عن رؤيته لها فهي تصدح بشاعرية رقيقة وهو يرفرف معها. بينما نجد في (ت) صورة للفتاة تظهر لأول مرة مع الطفل، وهي في كل ما تفعله تقدم المزيد من الفعل الذي يجعل حالة العجوز أكثر ألما أو أكثر شعورا بالفقد.

“(أ) طفل يناجي بمناغاته قلب شيخه المكلوم، مدامعه تبلل لحيته الشيباء، يداه ترتعشان وهما ممدودتان تراقصان الفراغ.

(ب) أم كلثوم تصدح بشاعرية رقيقة، دقات قلبه تزلزل صدره، يرفرف في سماوات لا مدى لها.. (ت) فتاة تعبر باب الحجرة في تأن، ثوبها الأبيض الطويل يعانق بشرتها البرونزية، شعرها الفاحم مسدل على كتفين عريضين، وقفت عند النافذة تتأمل القمر، ابتساماتها تبهر عينيه الصغيرتين، ينحدر من سريره صوبها، حركته البطيئة تبدت رشيقة سريعة كغزال هارب من براثن أسد، وجهيهما متلاصقان، أنفاسهما امتزجا معا، رفع يديه ليضعهما على يديها الناعمتين، القمر الفضي لفها بأشعته، ذابت كقطعة سكر، ظل ممسكا قضبان نافذته، محملقا في أمنياته المقطوعة الخيوط”[4].

4.3.2 ترابط فعل التصوير في القصة (الصورة الأولى والصورة النهائية والفواعل والمكونات)

سنقوم هنا بدراسة الصورة الأولى في القصة والفواعل والمكونات التي فيها، ونربطها بنهايتها؛ حيث هناك علاقة مميزة بينهما نتابع هنا بداية القصة:

“(أ) بندول الساعة لا يتوقف عن الدق في بحر الليل الواسع موذنا بتقدم الزمن، ماحيا لحظة الحزن وعساها تكون خاتمة الأحزان’’.

(ب) نور خافت صادر عن قناديل مرتعشة، تكابر جبروت الظلمة، (ت) لوحة معلقة على الحائط الجبري، مرسوم عليها: (ث) طريق متعرج تحفه أشجار عيد الميلاد، (ج) نهايته بيت ريفي صغير، (ح) سماء صقيلة كوجه مرآة، (خ) شمس ناشرة خصلاتها الذهبية في الأفق، (د) عصافير محلقة تشدو للحياة!، (ذ) الجو الربيعي يفيض من اللوحة جمالا، (ر) تناسق الألوان يغري متأمليها، (ز) أبدع فنانها المجهول في ترك بصمة سوداء بحجم رأس الدبوس في أعلاها، بالكاد ترى! ليس اعتباطا منه وضعها”[5].

تابعنا في (أ) الحكمة من خلال صورة البندول ووطأة الزمن وهي وطأة يشعر بها ذلك المقيم لوحده منذ زمن طويل، بينما نتابع الأشياء الواهية الضعيفة التي يشعر بها الراوي ويصورها، وتعبر عن مشاعره الشخصية وهي يعيش لحظات أخيرة حيث القناديل ترتعش والظلمة جبارة.

بينما نجد اللوحة السابقة التي ظهرت في (ت) مكونة من عدة أقسام في (ث) طريق تحفه أشجار عيد الميلاد ويبدو أقرب لطريق العمر، ثم البيت الريفي الذي يعيش فيه الشيخ في (ج) ونستمر متابعين الصورة ويبدو انها تعكس المشاعر في زمن قديم؛ حيث السماء صقيلة كوجه مرآة، وتستمر الصورة الدالة على الشباب الذي ذهب في (ح، خ، د) وعن الجو الربيعي الرائع في (ذ) ثم نجد حديث مباشر عن اللوحة وهي لوحة الحياة فيما يبدو وتناسق الوانها في (ر) لدرجة تغري بالتأمل، ثم في نهاية الصورة في (ز) نجد البصمة السوداء التي أبدع الرسام في تركها بحجم رأس دبوس في أعلاها وهي تعبر عن الألم الضروري في الحياة.

تابعنا فيما سبق بداية القصة من خلال مقطع فيه تنويع لعدة مكونات، هذه الصورة التي حللناها ترسم ما يمكن أن يُرى في لوحة معلقة، سنجد في نهاية القصة ما في اللوحة الأولى ظاهر على أنه واقع حي وليس مجرد لوحة معلقة مكون من نفس المفردات والفواعل، لكن مع تغير حال تلك المفردات، أي بصورة واقع مختلف عن الصورة المشرقة الأولى التي تعبر عن زمن شباب ما، هنا نحن مع العجوز في شيخوخته ووحدته لنتابع تبدلات الصورة:

“(أ) ريح خفيفة تداعب أشجار عيد الميلاد، تتغنج بين كفي الطريق التي زاد تعرجها، (ب) الشمس اكفهر وجهها، غيبته كالنعام في تربة ميثاء ، (ت) اغتيلت العصافير بضباب سميك، تزاحمت الغيوم منذرة بغيث عميم، (ث) بيته الريفي بدا كقارب يمخر العباب بلا هدف، (ج) انقلب ربيعه شتاء، (ح) عمره في ثوان غاص خلف جحافل من السراب، (خ) صاحت به على حين غرة، قفز إليها ملبيا؛ ليكون لا شيء، (د) مجرد نقطة سوداء، (ذ) تموت الأغنيات (ر) ويستمر البندول في الدق !!”[6].

في (أ) نبدأ بمعرفة كيفية التغير الذي حصل الأن بين الصورة في الماضي والصورة في الحاضر، حيث يحدث تغيير قرب نهاية حياة الشيخ، في (ب) الشمس اختفت وقد كانت في اللوحة السابقة في (خ) ناشرة خصلاتها، لكن هنا تخفي راسها كنعامة في تربة رطبة سهلة (ميثاء). وبدل الصور السابقة في اللوحة الأولى، حيث السماء صقيلة في اللوحة السابقة في (ح) والعصافير طليقة في (د) والجو ربيعي في (ذ)، نجد هنا كيف اكفهرت السماء في (ت) وتسببت في اغتيال العصافير، بينما البيت الريفي السابق الجميل في اللوحة السابقة نجده صار في مهب العباب بلا هدف في المقطع التالي في (ث)، كما انقلب الربيع شتاء في (ج) عكس الماضي حيث الجو ربيعي جميل. بينما نتابع كيف أمضي عمره فيما يشبه الثواني في جحافل من السراب في (ح)، وأنطلق إلى النداء الأزلي وتوجه إلى الأخرة في (خ).

يستمر الراوي رابطاً اللوحة في البداية بنهاية القصة؛ حيث نجد النقطة السوداء الصغيرة بصمة تعود في نهاية القصة التي كانت في اللوحة في (د)، بينما نتابع في (ذ) موت الأغنيات التي كانت تشجيه، فما عاد من داع لها، وهو قد ترك المكان مستجيبا للنداء، بينما نجد الراوي المميز هنا يقفل القصة على دائرة أولها بندول وأخرها بندول والزمن لا يتوقف لموت أحد، أو لشجنه، أو للخوف عليه، وعود على بدء نتابع أن البندول الذي كان أول صورة في القصة لا زال يدور في نهايتها لنتابع ذلك هنا:

“(أ) بندول الساعة لا يتوقف عن الدق في بحر الليل الواسع موذنا بتقدم الزمن، ماحيا لحظة الحزن وعساها تكون خاتمة الأحزان’’.

(ب) تموت الأغنيات و يستمر البندول في الدق !!”[7].

نتابع كيف ربط الراوي بداية قصته بنهايتها وضمّنها القصة الرمزية للشيخ. وهو قد تم عبره تقديم صورة إنسانية مميزة، كما تماهى الراوي مع حزنه وشجنه ووحدته ورسم خوفه أو خوف الكاتبة خلفه عليه.

5.3.2 خلاصة:

في جحافل السراب أزمة يعيشها شيخ كبير السن يقيم وحيدا، تحاول القاصة أن تقدم قصة انسانية، وذلك ببناء قصتها الرمزي، وتصويرها المفتوح، بالإضافة لدور حالة الشيخ الذي يعيش الوحدة، والارهاق النفسي الذي يعيشه في تحقيق ذلك البعد.

الرمزية في القصة عالية؛ حيث الراوي وضعنا أمام أزمة شخصية تعيش الوحدة والفقد، وتعاني من مكونين مهمين كانا حاضرين على طول النص وهما: مكون الشجن الذي يشعر به الشيخ، ومكون الخوف الذي يبدو أقرب ما يكون للراوي، وبينهما مضت تلك القصة تمضي وئيدا والراوي يعرفنا شيئا فشيئا بحالة الشخصية ووضعها. اللغة كانت مميزة، والتصوير معبر عن حالة الشخصيات، والسرد طيب يظهر بين ثنايا الوصف وبين الكلمات الرمزية والفواعل الكثيرة المختلفة.

القصة من ذلك النوع من القصص ذات البعد التجريبي؛ حيث المعنى مفتوح، والأزمة غير محددة بدقة كبيرة، لكن كان بإمكاننا من خلال ربط لوحة البدايات المعلقة (كما يدعي الراوي على الحائط) بلوحة النهايات التي تعبر عن حالة خروج الشيخ من الدنيا أن نفهم أن المقارنة هنا بين الماضي الربيعي الزاهر وبين الحاضر الذابل؛ حيث البندول لا يتوقف عن الحركة معبرا عن صيرورة زمن لا تتوقف بموت أحد أو بميلاده، وحيث النص يتناوبه الشجن والخوف.

ساهم في انفتاح النص لغته المغلقة ورمزيه فواعله المختلفة خاصة البندول الذي يؤكد الديمومة، واللوحة التي تحيل إلى عالم أخر قديم زمن شباب الشيخ، ويتحقق حضور للوحة (بشكل مختلف) في آخر القصة؛ حيث كان التعبير عن أزمة الشيخ الذي يعيش الوحدة – بعد زمن طويل من فقد الأحبة – وتحولات حياته، ناجحة ومميزة جدا.


[1] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[2] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[3] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[4] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[5] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[6] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.
[7] فهيمة الشريف، جحافل من السراب.

مقالات ذات علاقة

الصحافة كفضاء عمومي للمبدعين

ميسون صالح

مفردات سريانية في العاميّة الليبية (4/ 8)

عبدالمنعم المحجوب

حركة نشر الكتاب في ليبيا خلال الفترة (2012م – 2019م)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق