سيدة بن جازية | تونس
عتبة النص:
العنوان ورد مركبا إضافيا وظيفته مبتدأ خبره النص فهل وجدنا الظل أو المرأة في متن النص؟ ما مدى تناسب العنوان مع المحتوى المتني؟
ظل امرأة؛
الظل ليس الصورة المنعكسة على المرآة حتى نبحث في ملامحها أو تفاصيلها أو ألوانها…الظل ليس الحقيقة ولا الواقع بل لعبة ضوئية مخاتلة حسب موقع الجسم وانعكاس الضوء، هو ارتسام الظلام /السواد، دون وضوح، دون تواز فقد يطول ويقصر بحسب الظهور وقد يختفي إن اختفى مصدر النور، والظل رغم ذلك كان دوره كبير في حياة الإنسان فضبط المواقيت والمواعيد… فلا نستهتر بالظلال لأنها تخفي دائما حقائق كبرى وموجودات ربما لم نعرها اهتماما.
والمرأة في العنوان هي الأنثى /الحبيبة/الأم/الأرض/الوطن.. حسب ما فهمت في تقصي العلاقات…
يبحث عن ظل امرأة، إذا يبحث عن مصدر الضوء/الظلام.
فهل المرأة هي الحقيقة المضيئة أم المضاءة؟
هل هي السواد العاتم أم نقطة النور في الوجود؟
لماذا يبحث عن ظلها ولم يبحث البطل عن حقيقتها؟ النص يكشف أسرار العنوان ويفتح مغلقاته.
المتن:
نغوص في متن النص ونعرج إلى تقنيات الكتابة:
تنوعت التقنيات في تناغم حتى أحكمت بنية الحبكة ليكشف لنا الخط السردي من عمق الذات البشرية إلى العالم الخارجي
من المعنوي نحو العالم المادي.
من الخيال نحو الحقيقة.
1-البناء التدويري:
الانغلاق في دائرة مفرغة، حيث يستهل نصه بالحديث عن أطراف القرية وعن الخراب والعتاة المفسدين للعباد والبلاد دون رسم منفذ إلى الداخل أو الخارج، ليصف عجز المظلوم أمام الطغيان، ينغلق كذلك النص بذات الصورة المشهدية القاتمة معلنا عجزه، وقد استحضر صورة الغرابين كما في الموروث الديني لكن دون درس أو موعظة غير اليأس والعجز والخنوع.
دائرة الصراع المغلقة:
صراع هو/هي
حضور / غياب
ظلام / نور
حركة/ سكون
حلم / واقع
ظالم/ مظلوم
تطبع / مقاومة
أمام هذه المضادات يقف البطل عاجزا حائرا خانعا تائها، فالكل في واد وهو منفرد في واد ثان يسبح عكس التيار الواقعي.
2- تقنية الحلم:
نتتبع حركة البطل، نجده لم يبرح مكانه، يلتصق بوسادته(الحلم/الأمل) ينتظر الضوء تلقائيا ذاك النور الرباني الوهاج.
متى دارت الأحداث؟ أين..؟
الزمان من الظهر حتى الضوء في فراشه يرسم خط الرحلة التي سيقدم عليها نحو الأزقة، البيت، النافذة، الحائط، هنا، هناك، بين الحقول، ربما يكون بعد عودة من المنفى أو السجن أو التهجير أو الهروب أو المقاومة أو الخيانة والخذلان والعار. المكان، بفراشه بسجن ما أو مكان ما مطلق غير محدد. دارت الأحداث في خيال البطل، فيظهر كأنه في حالة هذيان، جنون، انفصام، صدمة، يقول غبش الذكريات، ليس على ما يرام، لا يحترمه أحد، لا تهابه الطيور، بعض إنسان، شبه فزاعة…. يفتقد للإدراك ربما رفض للواقع، في موقع آخر يقول السارد العليم هبت رياح باردة فجأة…. اعترته قشعريرة، أحس ببرودة مفاجئة… هو في مكان غير البيت والزقاق، لذلك يردف بعد أن خامرته فكرة ” ماذا لو كان يقف الآن يتخفى عند منزلها.
إذن لم يكن خارج بيته /لم يزر المكان قط لكنه بعد طول تفكير وتراكم الخيالات قرر تنفيذ ما خطر له من خواطر لعله يجد تلك المرأة على قيد الحياة رغم الدمار والخراب.
فزيارة المكان كان في الفقرة الأخيرة/ خاتمة النص، عودة الواقع بكل ثقله ومرارته، قادته قدماه… كما قاده ليلا (في خياله). الواقع تشاركه فيه شخصيتان حيوانيتان رمزيتان الغرابان…. وهذا دليل كون المكان خال من المرأة وبالتالي غياب هذا الظل…
أصابه الجنون لأثر الصدمة فأصبح الكل يسخر منه.
3- تقنية الشخصية النامية:
بدت شخصية البطل نامية بنائيا، تتكشف وتتوضح جزئيا من خلال الحلم والاسترجاع والخيال (الأماكن، الشخصيات الثانوية المعرقلة، العلاقات، التضاد، الأطر، السيكولوجية، تشخيص الهواجس، لينهض في الأخير من فراش المرض الفصامي نحو المواجهة بالغوص في الواقع وقوفا على القدمين وإن بدتا مرتعشتين إلا أنهما قادتاه إلى المكان الفوبيا بل تمكن من المشي ثم القفز إلى النافذة ففتح اليدين كحركة رمزية نحو التحرر ونزع المخاوف من الطغيان… مذكرا إيانا ببيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي:
ألا انهض وسر في سبيل الحياة / فمن نام لم تنتظره الحياة
المشهدية بينت كون القضية قضية الجموع في ذلك المكان، كشف النص أنه ليس الوحيد المذنب المتخاذل بل شاركه الأهل والأجوار والأصدقاء ووو..
4- تقنية الاسترجاع:
توسل الكاتب بالحلم كي يسترجع ذكرى حبيبة لكن الذاكرة لم تسعفه بغير المآسي والخذلان إذ لا مكان للفرح والتضامن والصمود.
لم يبق غير ذكرى مرأة حبيبة/أم تربطه بحبل سري لهذا المكان الخرب وكأنه تلميح لكون الإنسان لا وجود له خارج هذه الثنائية لإعادة تعمير المكان وهزم العدو. وهزم الفناء، يعود بحثا عن المرأة مصدر الأمان والحب والثبات لكن الحرب قتلت كل شيء جميل حتى العاطفية. حولته إلى عاشق مجنون..
الاسترجاع عمق مرارة الحياة. حولت الإنسان جسدا خاويا من الروح، من الشرف، من إنسانيته، مشيئة وصفه بشبه فزاعه. ونعلم دور الفزاعة في حماية الأرض كجسد دون روح دون وعي دون قرار، ترقب المكان في صمت.
5- تقنية الخيال في صراعه مع الواقع:
في النص ورد كل شيء فاقد للحقيقة، فالإنسان أصبح بعض إنسان، حواء هي ظل وخيال وطيف، هي ذكرى، وهم، سراب، خراب الأهل، لم يعودوا أهلا بل أعداء يحتقرونه يرونه ليس على ما يرام، الطيور لا تهابه، لا تهرب منه، تشعره كونه لا شيء، لا وجود له، الغرابان رمز الشؤم أصبحا هاديين /صديقيه في ذاك الخراب، الحياة استحالت مقبرة للأحياء دون حياة.
الليل تحول نهارا قام فيه بكل ما كان يرغب القيام به (خيالا ) والنهار تحول ليلا يخيفه لفظاعة الواقع. الأفعال في النص على كثرتها لم تحل إلى الحركة والنشاط بل إلى الخمول الذهني والعجز والخذلان فلم يظهر فاعلا حقيقيا غير المخربين والمغتصبين والعتاة كما ورد في الجملتين الوحيدتين أول النص وآخره ليبرز أن لا فاعل غيرهم في ذاك الوطن، بينما البقية مسلوبي الإرادة والقدرة على رد الفعل والدفاع عن الشرف والمقاومة.
الحقيقة المرة أذهلت البطل فاستحال مجنونا مصدوما طريح الفراش. هاربا نحو الخيال والمناجاةٍ.
خربشة تأويلية:
القصة مربكة، وتعدد القراءات يكشف قدرة الكاتب على التكثيف والاكتناز عمد إلى تنويع التقنيات والإسقاطات والتخفي كل ذلك جعل من الحبكة متقنة السبك، نسجت بيدي نساج ماهر إذ قفل متاهات الخيال داخل متاهات الواقع فتلبس هذا بذاك، مع صعوبة الفصل بينهما أو الحذف.
الأمكنة لاحت واقعية لكنها غير محددة، هي مطلقة تنطبق على أي وطن عاش ويلات الحرب (بيت، نافذة، حائط، حقول، أزقة.. )
حتى الحرب لم يتعمق في وصفها ومعجمها كفى به بعض جمل كشفت باقتضاب وكأن حالته الصحية تمنعه استرجاع ما حدث.
الزمان غير مدقق بعض المعجم؛ في النهار، الظهر، هطول الظلام، الضوء، هي رحلة الإنسان من بدايته حتى نهايته وفي رؤية صوفية تكون النهايات رمز الخلاص ويكون الموت بعث جديد نحو التطهر من دنس الحياة.
نجح في إخفاء ماضيه وركز على لحظة الحاضر وكأنه يقول لا فائدة من ذكره فكلنا لنا ماض عريق يهابه العدو ويحاول طمسه، لكن الواقع والمستقبل هو شغلنا الشاغل.
ابتعد بكل ذكاء عن أي رمز ديني أو عقدي أو سياسي ليكون نصه عالميا يسرد قصة الإنسان في صراعه مع الطغيان شرقا أو غربا، شمالا أو جنوبا، حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا بعد استفحال الفخاخ الرأسمالية واستعباد البشر وامتهانهم.
*المرأة * في النص هي الظل هي الحياة هي العزة والشرف هي الأم والحبيبة والوطن هي الأرض والتراب. وردت معاتبة للرجل الحامي الحارس المقاتل المقاوم… مما كشف تلك العلاقة الأزلية النكدية بين الجنسين، آدم يشعر كونه دائما مسؤولا عن حماية حواء لضعفها وهشاشتها، الواقع كشف/فضح الحقيقة المزعومة فهو في حد ذاته يبحث عمن يأخذ بيده، يحميه وذاك السر يؤرقه بعد أن سلبوا شرفه.
المرأة في النص وطن يعاتب مواطنيه يستحثهم للمقاومة لذلك لم تظهر أي امرأة في الواقع بشكلها البيولوجي ومفاتنها وو! بل وصف آثار الدمار والتخريب.
*الرجل* كان شاعرا بالغبن بينما أهله لم يقاسموه نفس الهم لخذلانهم، ما سكت عنه في النص رسالة موجهة لمن خذل الأوطان ولم يقاوم فالكل مسؤول عن حماية الشرف لا قلة قليلة، كحالنا اليوم أهل غزة يقاوم والبقية تراقب وتلوم و تنهش وتقبض الثمن و تتخفى وتتلبس. .
ربما النص نابع من الواقع” الليبي” حين اقتحمه المخربون من الداخل والخارج ولم يبق غير قلة قليلة تقاوم وسط ازدراء الأهل والأجوار، فيكون الكاتب قد عالج واقعه بحرفية عالية الجودة تنبع من وطنه وتتوزع على جميع من داهمه الربيع العربي المنكوب.
في المجمل أجد الكاتب المبدع قد نحت واقعا بل عراه بقلم عالمي بعيد عن المحلية الضيقة، صور مأساة الإنسان في صراعه مع الوحش؛ الزمن والآخر، الهواجس، الحرب، النفاق، الأهل، الخذلان… لذلك استعمل في مواضع صيغة المضارع المرفوع ليصور استمرارية هذه الحالة وهذه الأحداث من الحاضر إلى مالا نهاية بينما استعمال صيغة الماضي تجعل الحدث قد انقضى في الوقت الحاضر (يجوب، يجثم، يتحول، يجد، تحط، تغشى، تبين…)
ليقول الإنسان خلق ليبتلى بين الحب والحرب قبل أن يسطع نور اليقين ويركن إلى مثواه الأخير.
________________________
هذه القراءة تمت المشاركة بها ضمن برنامج (ضيف وقصة)، للقاص عاشور حمد عثمان، وقصته (ظل امرأة)، بالمنتدى العربي للنقد المعاصر بمشاركة العديد من النقاد؛ 14/8/2024م.