قصة

الجار المجهول

مقاومة (الصورة: من اختيار الكاتب المكي أحمد المستجير)
مقاومة (الصورة: من اختيار الكاتب المكي أحمد المستجير)

جالسًا أمام داره الفسيحة، كعادتِه، يرصُدُ أصواتَ المارِّين والقارِّين، وأحوالَهم، مُتلصِّصًا على أخبارِهم. وهو الشيخُ الضرير، الذي يرى بأُذُنَيه، ويُفكِّر بقلبه، ويتأمَّل بفؤاده الفارغ.

مُقامه وحيدا في داره، ونُدرةُ زائريه؛ جَعَلته -جُلَّ يومِه- مُهتمًّا بجارِه الجديد، المُحاذي له، ومُصغيا إلى الصَّخَب المُنبعثِ من منزلِه العامرِ بالزائرين.

– “فخفخة! …. وُفودٌ تترى، كأنَّه مَلِكٌ مُتوَّج!” قالها الشيخ الضرير، وهو يحُكُّ قَذَالَه بأطراف أصابعه، في عادة جديدة، لا يدري متى اكتسبها.

استحوذَ الجارُ الجديد، على فؤادِ الشَّيخ الضرير، فلم يعُد للشيخِ اكتراثٌ إلا به، ولا حديثٌ إلا عنه، وعن زائريه، وهو الفضوليُّ، المنفردُ بنفسه، المُفتقرُ إلى ما يشغَل فراغه الطويل.

في باكرِ صباحٍ مُشْمِسٍ، أيقظَت الشيخَ الضريرَ، جَلَبَةٌ عند جاره:

– “بسم الله، يا إسلام الله” قَفَزَ الشيخُ الضرير من نومِه، مُردِّدا هذه الكلمات، التي يحفظها منذ صِباه.

لم يشأ أن يُظْهِرَ لزائري البُكور، أنَّه يتجسَّسُ عليهم، بخروجه إليهم، وآثر ألَّا يتحرَّك من مكانه، مُستَرِقًا ما يصِله من هَمْهَمَات. لاحَظَ أنَّ وَقْعَ مشي الزائرين بطيء. وتُسْمَعُ من حَرَكاتهم أصواتُ خَشْخَشَةٍ غريبة! كأنَّ لِباسَهم مختلفٌ عن مُعتاد الناس! وتعجَّبَ -كذلك- من أصواتهم؛ فهم يُحادثون بعضهم بصوت غائر، كأنَّهم يتكلَّمون من وراء قِناع! ومُتجاهلين صاحب المنزل! فأيُّ زيارةٍ تلك التي لا يتحدَّث فيها ربُّ المنزل مع ضيوفه؟!

مَرُّ الأيَّام على الشَّيخِ الضَّرير مع تردُّد الزيارات على الجار؛ زادَ من لَظَى الفضول لديه، يلتهِمُه على مهل. يقول في نفسه، وهو متوكِّئٌ على عُكَّازِه، أمام داره، وراحةُ يدِه اليُسرى خلف رأسه:

– “مَن هذا الجار الغامض؟! ومَن يكون زُوَّارُه؟! وهل من الحكمة أن أذهب للسلام عليه أو الأولى أن أنتظر زيارته إيَّاي ليُعرِّفني بنفسه؟!”

وبينما هو كذلك، يموج بأفكاره؛ مرَّ أمامَه شبحُ إنسان، ثقيل الخُطى، كأنَّه يحمل الجبال على كاهليه. مرَّ ولم يُلقِ السَّلام عليه. تبيَّن عند وصوله بابَ جاره أنَّها امرأة. عرفها من بُكائها، لمَّا سمِعها تبكي بحرارةٍ وأسى. لا يذكر الشَّيخ الضَّرير على امتداد عُمُره العريض، أنَّه سمع بكاءً بمرارةٍ مثل هاته. أيقظ بكاؤها في فؤاده حزنا كامنا. انقبض حاله، وغالب عَبرته، وازدادت حَيرته، وهَمَّ باعتراض المرأة عند إيابها.

بعد حين، خرجت المرأة من منزل الجار، بخُطى سريعة، وهي أحسنُ حالا، ولم يَسمع منها بكاء. كانت تُتَمْتِمُ بكلمات لم يفهمها. ولعلها ألقت السلام حين مرَّت.

قَلَّ فضول الشيخ الضرير، مع مرور الأيام، وتناقُص الزيارات على جاره. لم يكُن في نِيَّتِه الخروج من داره اليوم، فالعَجاجُ منذ البُكرةِ يعصِف بالمكان، وازداد مع الأصيل اِضطرابا. فاجأه صدى قومٍ يقرأون شيئا، جماعة، بصوتٍ خافتٍ، ولحنٍ حَسَن.

– “الذِّكر يشرح لي صدري” ردَّدها الشيخ الضرير، وهو في طريقه إلى الخروج من داره، والجلوس أمامها، للتنصُّت على المارِّين. وغلب على ظنِّه أنَّ قولَهم الجماعيَّ ذكرُ الله، وإن لم يَستبن كلماتِهم.

كان الذاكرون في زيارةٍ لمنزل جاره. وسمعهم يقرأون شيئا من القرآن. كانوا يتحدَّثون مع صاحب المنزل، هَمسا. قال أحدهم له:

– “ستنتقل قريبا من هُنا، وتعود إلينا”. لم يُطيلوا الزيارة، وانصرفوا قبل الغروب.

خطرت ببال الشيخ الضرير خَطَرات كثيرة، مع وحشة عاتيةٍ فوجئ بها، وهو يسمع نبأ رحيل جاره:

– “من يكون هذا الجارُ العامرُ منزلُه بالزائرين والذاكرين؟! أيُعقل أن يرحل عنِّي، ولم أزره، أو أسمع قصَّته؟”. عزم الشيخ الضرير على زيارة جارِه يوم غد، ليتعرَّف إليه، ويستفهم منه عن أخباره وعن أحوال زُوَّاره.

في الصباح، تهيَّأ الشيخ الضرير إلى الخروج لزيارة جاره، وجلس أمام داره يتلمَّس حِذاءه. سمِع خطوات تدنو منه، وتعجَّب من الزائر المُبكِر. حين اقترب الخطو، عرف أنَّها المرأة الباكية. تعرَّف إليها من صوتِها، وهي تُحادث فتاةً معها.

– “السلام عليكم” بصوتٍ غضٍّ، ألقت فتاةٌ -يظهر من صوتها أنَّها دون الاثني عشر عاما- السلامَ، وهي تمُرَّ أمام دار الشيخ الضرير.

رَدَّ من فوره مسرورا، وهو يكاد يطير من مكانه:

– “وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، ومغفرته”. كان الشَّيخ الضرير يقولها وهو يشعر للمرَّة الأولى -منذ زمن- بالحياة، وببهجةٍ تتسلَّلُ إلى فؤاده، ظنَّ أنَّها غادرته أبدا.

واصَلوا مسيرَهم، ولم يلتفتوا إليه، حتى بلغوا منزل جاره:

– “وصلنا إلى بابا” قالت المرأة لابنتها.

ثمَّ استطردت الأمُّ بكلام طويل، لم يسمعه الشيخ الضرير. لكنه اختلس كلمات منه، فإذ هو بين تبريح وشجن، وبكاء واصطبار. لاحظ الشيخ الضرير أنَّ الأمَّ تحادث ابنتها بلغةٍ فوق عُمرها، حديثَ النَّاصحِ للنَّاضج. ولم يفهم أسباب ذلك.

بعد زمن، خرجت الأم وابنتُها من منزل الجار، وحين مَرُّوا على الدار الفسيحة للشيخ الضرير، سألت الفتاةُ أمَّها:

– “ماما، من صاحب هذا القبر، المجاورِ لبابا؟ ولماذا لا يوجد عليه اسم؟!”

ردَّت الأم بنبرة كلها حسرة:

– “هذا قبر شيخ كبير في السن، قالوا: إنَّه ضرير. هو أيضا وجدوه في مقبرة جماعيَّة مثل بابا، ولكنَّهم لم يتعرَّفوا إليه بعد. فلندعُ له”.

(النهاية)

إهداء إلى صديقي الأديب الطبيب، الذي اُختطِف من منزله بطرابلس، لنجد رفاته بعد سنوات في مقبرة جماعيَّة، وسط صحراء قاحلة، وبقبر بلا هُويَّة ولا زائرين. وإلى كلِّ ضحايا المقابر الجماعيَّة، والجُثث مجهولة الهُويَّة في ليبيا، من 1969 إلى اليوم.

مقالات ذات علاقة

بقلاوة باللوز

المشرف العام

خصوصيّة !!

أحمد يوسف عقيلة

رئيس العمال الجديد

أحمد يوسف عقيلة

2 تعليقات

د. عماد 22 أغسطس, 2024 at 20:10

لغة بديعة وسرد ممتع ونهاية مدهشة. أظن والله أعلم أن هذا النص يصلح أن يكون مادة دسمة للنقد الأدبي من زوايا عديدة. سلم مدادك.

رد
المشرف العام 23 أغسطس, 2024 at 04:40

نشكر مرورك الكريم…

رد

اترك تعليق