إن التعريف الشائع لهذه السرقات يقصد به أخذ نص بحد ذاته من كاتب آخر دون أن يشير الكاتب إلى المصدر أو الانتحال وادعاء نسبة الفكرة إلى ذاته ، ولعمري إني لأجد خلط واشتباه كبيرا في هذا التعريف، وخاصة أن الاتهامات التي يتم ترويجها عن الكتاب كمثل يوسف زيدان أو أدونيس أو الصادق النيهوم أو الكوني، هي باطلة وغير صحيحة بالمرة، فلو أعدنا النظر في الفكرة التي انبثقت في ذهن الكاتب لوجدنا أن لها أصول وجذور فكرية أخرى استلهم الكاتب منها فكرته الأخيرة وأسقط هذه الفكرة على واقعه مما يغير من مجرى اكتمال الفكرة واختلافها عن الفكرة الأصلية، فالأفكار لا تولد من العدم، ولا شيء دال على أن الأفكار تولد من عدم، ولو تتبعنا سير المعرفة البشرية على مر الحضارات والعصور، واشتباه النظريات والمعلومات فيما بينها، لن نكف أبدا عن الرجوع إلى الفترة التي ولدت الفكرة فيها، ولا يخلو الأمر من توارد وتشابه في التجارب الحسية والعقلية والشعورية ما بين الكتاب والعلماء والفلاسفة وغيرهم، ولو أننا قرأنا لميكافيليي على سبيل المثال سنجد أنه في مواضع كثيرة قد يتشابه ما كتبه بما كتبه ابن خلدون في المقدمة والصراعات الداخلية التي تدور في داخل الممالك والامبراطوريات القديمة وأيضا لو رجعنا نحو الخلف أكثر لوجدنا أن مستشار هندي يدعى بيدبا قد كتب كتابا عن ادارة الحكم وأخلاقيات السيطرة لأميره مثل ما كتب ميكافيلي، ولكن يختلف الطرح في كل منهما عن الآخر فتجربة بيدبا والصراعات التي عاصرها في زمن الحضارة الهندية، مختلفة في كثير من الجوانب التفصيلية عن الصراعات بين الممالك الأوروبية المسيحية في عهد ميكافيللي، وأيضا بدرجة مختلفة عن تجربة ابن خلدون والصراع على الخلافة اعتمادا على العصبيات القبلية، وبالرجوع أيضا إلى ديكارت وهيوم وأفكارهم التي طروحها في نقدهم لنظرية السببية، سنجدها في تشابه لا بأس به بينهم وبين أبو حامد الغزالي، الذي كان له دور في شن حملة نقدية على أعمال الفلاسف المسلمين الذين تتلمذوا على كتب فلاسفة اليونان، وانطلاقا من هذه القاعدة وتتبع سلسلة توارد الأفكار المتشابهة، لا نستطيع أن نقف عند أبو حامد الغزالي، وندعي أن الفكرة الأصلية وابتدعها الغزالي من العدم، دون أن يكون له اطلاع على أعمال الفلاسفة، فهو ينتقد الفلسفة بناءا على الخلفية المعرفية الهائلة واستقراءه وابتلاعه للفلسفة اليونانية والإسلامية أيضا وخاصة ما كتبه ابن سينا والفارابي وغيرهم.
وأيضا من الناحية الروائية الأدبية لو قرأنا عن البحث في الزمن المفقود للروائي الفرنسي مارسيل بروست، هل يمكن الزعم كلية بأن الروائي الليبي ابراهيم الكوني قد سرق هذا العنوان وكتب عنوان البحث في المكان الضائع، بالرغم من أن صياغة كل منهما لعمله الروائي مختلفة عن الأخرى وكذلك محتوى الرواية في حد ذاتها غير متشابه أبدا فذاك يسرد روايته وذاك عن المكان يروي لنا عن الصحراء، بعضهم يقول هناك من يأخذ الفكرة ويحورها ويضيف عليها هي سرقة ولكن هذا غير صحيح.
وبشكل تفصيلي عن بروست، فهو يتحدث في روايته عن صراعه مع الزمن، كما أن أسلوبه الطويل والتفصيلي في الوصف يختلف عن اسلوب ابراهيم الكوني، في كشف جماليات الصحراء والشمس والرمال والعواصف والواحات والألغاز الأسرار وتناولها في قالب روائي صوفي نابع من تجربة ذاتية، ربما تأثر بشخصية أدبية غير مارسيل بروست وهكذا على سبيل المثال.
ومن جهة أخرى لا يمكن أن نعزل الكاتب عن تأثره بكاتب آخر، سواء في الأسلوب أو في طريقة الطرح، ومن جهة أخرى لو قرأنا لفريدريك نيتشه واعماله وخاصة كتاب “غسق الأوثان” وكتاب “هذا هو الانسان” وفي “جينالوجيا الأخلاق” “هكذا تكلم زرادتش”، سنجد أن نيشته ترك أثرا عميقا عند الكتاب ما بعد نيتشه، كمثل ميشيل فوكو، وجبران خليل جبران في قصصه القصيرة وتناوله لحياة المسيح بقراءة أدبية فلسفية مختلفة عن قراءة القساوسة الكلاسيكيين، وهو بهذا الطرح القصصي عند جبران تتشابه ضمنيا مع ما طرحه نيتشه حول الأخلاق المسيحية، وكسر هذه الأخلاق ومحاولة تجاوزها، كذلك نيتشه نفسه في عبارة قد قرأتها له مسبقا، إذ تشابه نص نيشته مع نص موجود في يوميات غونكور للكاتب غافارني، ولنا أن نلاحظ التشابه بين النصين في مقارنة بسيط.
يقول نيتشه في كتابه غسق الأوثان: هناك اعتقاد بأن المرأة عميقة – لماذا؟ لأن المرء لا يلمس لها قاعا، المرأة ليست حتى بالمسطحة.
يوميات غونكور يقول: إن المرأة شيء لا يمكن سبر أعماقه، لا لأنه عميق بل لأنه خاو!
إنني بصراحة لا أبحث عن التبرير بالقدر الذي أبحث فيه عن الاشكال الواقع بين المتشابهات في السرقات الأدبية المزعومة والتي يقذف بها الكتاب بعضهم بعضا، كما أن كما كبيرا من الاتهامات الباطلة في حق الكثير من الأدباء تلقى جزافا في الأوساط الثقافية، موجهة إليهم بالخصوص دون معرفة، للتقليل من شأنهم أو النيل منهم، ومن نافذة أخرى موسعة حول سباق الحضارات ما بين الشرق والغرب، نرى اتهامات متبادلة بين المستكشفين والمخترعين والفلاسفة والعلماء والأدباء، وكل منهما يتهم الآخر بأنه قد سرق أعمال الآخر، فالمسلمين يقولون بأن علماءنا هم الذين اكتشفوا كروية الأرض ودورانها، وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن كوبرينكوس وجاليليو هم الذين نسبوا هذه النظرية لهم زورا وبهتانا، بالرغم من أن كلى القولين في نظري يقعان في خطأ الانتساب، فلو أمعنا النظر ودققنا بشكل موضوعي بعيدا عن صراع الحضارات، لوجدنا أن أقوال فلاسفة اليونان ذكروا ذلك وبالأخص المدرسة الفيثاغورية، كانت لها فرضيات طفيفة سبقت كيبلر وكوبرنيكوس والعلماء المسلمين أيضا، وفلاسفة من حضارة سومر وبابل وأشور وغيرها ذكرت في مواضع غير مكتملة، لكن نتيجة للتراكم المعرفي عبر التاريخ، توسعت النظرية أكثر، وصار لها أثر تم الأخذ به واستبداله عن النظريات السائدة، هكذا تجري العملية على صعيد أوسع، فهل يمكن أن نعيد النظر في مسألة السرقات الأدبية والعلمية من منطلق تشابه التجارب البشرية وتراكماتها، وتأثيرها على بعضها بعضا، أولئك الذين يتهمون كتابا بالسرقات وكأنهم في معزل عنها، عن نفسي لا أرى أن هناك سرقات وانما تجارب وتوارد للخواطر في جانب كبير من جوانب الحياة والبحث عن الحقيقة المفقودة، ولا أنكر بأن هناك سرقات بالمطلق، لكن علينا أن نضع معايير أخرى مختلفة عن المعايير التي نستعين بها للطعن في أعمال كتابنا وعلماءنا وفلاسفتنا، ليس على المستوى المحلي، وانما على المستوى العالمي. فالكاتب مثلا لا يلد الفكرة ويعصرها عصرا من العدم، وانما هي وليدة قراءات وتجارب واحتكاك بالوسط الثقافي أصدقاء أقارب مشاهدات وأحداث جرت أمامه، واستماعه لكتاب ومفكرين، ساهموا في ولادة أفكار له، فمن يا ترى ننسب له الفكرة إن تقصينا البحث عن المصدر بناءا على مبدأ أنها سرقة؟ لن نتوقف أبدا في البحث إلى حين ولادة أول إنسان على وجه هذه الأرض.