نجاح زائد
“آفة حارتنا النسيان” هكذا تحدث نجيب محفوظ الذي رأى في النسيان بداية الطريق إلى العدم، فجعل الذاكرة وسيلة لمواجهة الفناء، بذات الأسلوب يشتغل الكاتب في أطلال الذاكرة على قيم الذاكرة والتذكر من خلال تجديد المُتَذكر وتخصيبه فيضعنا في مواجهة مباشرة مع هموم الذات والآخر والوطن.
حَمَلني الكتاب رأساً إلى كتاب (الأيام) لعميد الأدب العربي طه حسين، ولم أجد صعوبة في تتبع التقاطعات بينهما، لا على مستوى اللغة والأسلوب السردي للسير الذاتية فحسب، بل لأن كلاهما كُتِب بذاكرة خصبة للغاية.
في أطلال الذاكرة يُتوّج (الحنين) بطلاً في كل النصوص، الحنين إلى ماضي مَرّ وانقضى سواء كان هذا الماضي أماكن أو أشخاص أو حتى وقائع، ورغم أن الكاتب (حسب علمي) لم يفارق وطنه لفترة طويلة، إلا أن الشعور بالاغتراب والحنين يبدو حاضراً وبقوة في نصه الأول عن (قرود عِرادة وزيت الخجلة) وفي معظم نصوص الكتاب التي شهدت حنينه لوطن آمن ومعافى.
في روايتها (ذاكرة الجسد) تقول أحلام مستغانمي “إن أصعب شىء على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها، يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث عنها في مواجهة اصطدامية مع الواقع” ورغم أن الكاتب في بعض نصوصه يُدخلنا في مواجهة اصطدامية مع الواقع كما في نصه عن(لعبة الرشقة والمؤامرة الدولية) حين يقول “وبمجرد الدخول في مضمار اللعبة أو الحياة كما تحب أن نسميها، تجد نفسك تتجول بين مدن وطنك، وتقف على المحاكم التى تلزمك أحياناً بدفع غرامات مالية، أو قد تدخل السجن برمية غير محظوظة”.
مع ذلك وفي نصوصه الأخرى يتجاوز الكاتب تذكر الماضي كما كان بالفعل، إلى محاولة إعادة تشكيله وتحليله في ضوء خبرتنا المعيشية ففي نصه عن (البوكشاش ونهقة الحمار) على سبيل المثال يختم بإسقاط ذكي على الحاضر متعجبا : كيف أمكن لسلوك طفولي برىء أن يتحول إلى سلوك ومنهاج لضعاف النفوس ممن قتل البشر ودمر الحجر ؟!.
اللافت في نصوص أطلال الذاكرة هو الحضور الباذخ (للجدة) ليس فقط كشاهد على التاريخ يروي القصص، وإنما بوصفها هي ذاتها تاريخ كامل موازي للتاريخ الذي ندرسه، يقول في مقالته(جدتي لأبي والقرقوش) “كانت حنّاي وكما تحب أن أناديها دائماً خزانة في الأدب والشعر، وكانت ركيزة صلبة في بناء أسرتنا، كانت تصنع من اللاشىء شيئا” إنها الجدة الشاهدة على التاريخ إن لم تكن التاريخ نفسه.
في نصه (رقراقيات مغربية) تحدث الكاتب عن رحلة العلم والدراسة في المغرب، وأسهب في سرد ذكرياته في براح جميل من الأمنيات، وبعيداً عن محموم الذكريات _ كما يقول _ براح ضم الأشخاص والأماكن والأحداث طرحها الكاتب نثرا أوشعرا يقول فيه :
بأرض المغرب الأقصى حللنا
ضيوفا نطلب العلم ابتهاجا
ونرجع للبلاد كريم فضلٍ
ونحمل من شهائدنا نتاجا.
العلم رحم بين أهله، ومن هذا الرحم كان للكاتب إخوة وأقارب في بلد الدراسة، كما كانت نصوصه عنهم من باب صلة الرحم والقربى.
في قراءة متأنية لما تصطاده الذاكرة الإنسانية عادة وتحتفظ به لاستدعائه عند الضرورة _ كما يقول الروائي السوداني أمير تاج السر _ استوقفتني السّير الموجعة أكثر من تلك المفرحة، فما يبقى طويلاً في الذاكرة هو ماآلم صاحبها، أو أحدث صدمة بداخله مثل معاصرته لحرب أهلية، أو مجاعة، أو كارثة، وهو ما بدا واضحاً في نصوص الكاتب التي تحدثت عن السجن أو عن ظروف الحصار أو الظروف الأمنية.
عن الموت مثلاً يقول في نص(فراق عزيز وخيمة عزاء ونياحة) “وكان عنوان الموت منذ ذلك الوقت واضحا عندما نرى ذلك الصندوق أو مايسمى نعشا، وقد وقف الجميع للصلاة على ذلك الشاب، ثم تنكّب زملاؤه أسلحتهم ليودعوه بإطلاق الرصاص الذي سمعنا ذويه لأول مرة واختفى في حياتنا حتى صار مألوفاً في كهولتنا التى لم يعد للموت فيها أى معنى، وقد بردت حرارة المواساة وغصت لوعة المعزين، فالفقيد أصبح وطناً لابواكي له “
تتسع دائرة الوجع وتضيق، فتُراوح ما بين العام والخاص، ما بين الوطن والذات، ومن وطن لا بواكي له، إلى ذات يبكيها ويبكي همومها يقف الكاتب متأملا لذاته في(رحلة الأربعين) وينظم لنا أبيات تثير الذاكرة وتهيج البواكي، يقول فيها :
فاضت دموعي على ماض قضيت به
عمرا ووقتا سرى كالطيف مرتحلا
سعيت أسعد مكنون الفؤاد به
وقد قطعت بمأمول الرجا الدولا
ومن يحقق من دنياه أمنية
تبقى المنية رجع القلب إن عقلا.
أقف مطولا أمام هذه الأبيات، وتسعفني الذاكرة للرد بأبيات للشاعر عبد الله العنزي يقول فيها :
آمنت بالله لم أكفر به أبدا
قلب الذي في زوايا الصدر قد سجدا
تنهال من ظُلمة المجهول أسئلة
والغيب باب بقُفل الشك قد وُصدا
من أين نمضي ؟ أين الطريق ؟ متى ؟
أكاد أبكي لوجه الله منفردا
ياومض ماتُومض الأقدار هل قدرٌ
على الضياع بأن نجتازه قِددا
ضمآى وجوعى بدربٍ لا انتهاء له
وأوشك الزاد يا رباه أو نفذا
أصيحُ طيرا وهذا الأفق منحَدَرٌ
حريتي أن أموت اليوم مُتقِدا
حتى تدُر رمال الصبر ريح سُرَىً
على الفيافي فيسري نفحه ابدا
من أول الدرب والدنيا تُراوغني
أنىّ التفتُ أرى من لهفتي بلدا
وقفت والعمر لم يُبْطىء فأرعبني
أني أموت وقلبي بعد ما ولدا.!!
في مقالته الأخيرة(فيض رؤى وحاكم من حلم)، يؤكد الكاتب حضوره كجزء لا يتجزأ من الوطن ولا ينفصل عنه، فهو يكتب عن وطن ممتد في الآفاق لا حدود له في الخيال، وعن حلم يزاوج بين الحضور والغياب.
يقول الروائي السعودي عبد الرحمن منيف “وطن الإنسان حيث يكون قوياً ومؤثرا وقادرا، الوطن ليس التراب أو المكان الذي يولد منه الإنسان، وإنما المكان الذي يستطيع فيه أن يتحرك “
بهذا المفهوم عبر الكاتب عن ذاته وانتمائه عند تعبيره عن هذا الوطن مجازاً واستعارة، ومعاناة وحلم سوّى بين الخيال والواقع.