المقالة

محنة دستور 1951 (3)

ودستور جديد مبرقع بالترقيع

دستور ليبيا
دستور ليبيا

ملاحظة عابرة:

يصل هذا البلد إلى طريق مسدود من صنع يديه وما جناه عليه أحد ويتعايش في هذا المأزق حين قبل بشرعية الإنقلاب العسكري وقَبِل بالغاء الدستور الفعلي دون خريطة معتمدة، ولفتح مغالق هذا الطريق فعليه أن يتعلم التواضع وعدم المكابرة ويبحث وبا قصى السرعة عن مستقبل يملك مفاتيحه بين يديه الآن، دستور 1951م، والناس (الرأسمال البشري)، والنفط (أحد مصادر التنمية والنمو) وتوظيف الهندسة الاجتماعية لبناء العنصر البشري وعلى أنْ يتخلى بملء ارادته عن الجهل المركب الذي يغذيه من وراء استار الغالبية الصامتة ويتيقن بان الكلمة الاخيرة بيده لصنع مستقبله.
إنّ أخطر ما يجده المرء يسري في ليبيا من واقع مخيف يهدر دم وكرامة الإنسان هو أمر ٌ يعني كل المواطنين بالدرجة الأولى، كما يعني أنّ القبول بالغاء دستور البلاد عشية صباح الإنقلاب العسكري كلّف هذا البلد الكثير، والإصرار المتعسف على الإستمرار في الغائه لا ينذر بالفرج ولا بالإنفتاح السياسي والفكري وتحقيق العدل والإنصاف، بل ينذر بالانفراد بالحكم وتهميش الناس وتحويل البلد إلى مزرعة رعايا مغيّبين يسيرها دستور جديد مبرقع بالترقيع وعن يقظة انقلابية لتحقيق الطاعة والانصياع.

فمن قبيل الاستمرار في هذا الحديث، يمكن تبيان ازدواجية العسكري الإستبدادي والمدني العشائري من عدة أوجه وفي صيغ متداخلة، ازدواجية ليست في مصلحة أحد:

أحدها : أنّ صياغة دستور جديد فكرة مُتقنة تعمل على اسقاط دستور 1951 تشبثاً بعقيدة التفرد الفئوي، بل هي فكرة لا تستند إلى أيّ بعد تاريخي أو استفتاء عام تحسمه صناديق الرأي المتعددة واصوات الناس وليس عبر آليات الحسم المدخولة بمعارف فضاء الفيس بوك ونجومه عبر النقل والتكرار في دوار اجوف وعبر ادواته ووسائطه وعالمه الصاخب والمثير المسكون بخلط الأوراق والأدوار وعبر هذا السيل المتدفق من الشعارات والخطب المنهمرة تباعاً بما يغير من وعي المتلقي وتجعله يواجه عالمه الغامض والمتغير أبدأ.

الثّاني : في هذا الوضع ليس بوسع دستور جديد من خارج المخزون التاريخي والمستودع المعمد بالدم – وإنْ تخضب بلغة الإعلام الفضفاضة – أن يكون ذو حظ من ” ارادة شعبية” لا يُعبر عنها اقتراعياً في مقابل الإرث التاريخي أي في مقابل دستور 1951 حتى بشهادة جميع الفضائيات العربية وابتسامات مذيعاتها الحسان وثقافة مذيعيها العباقرة أنصاف المتعلمين المتخصصين في تلهية الناس وترسيمات الفيسبوك المكرسة لإشباع اللحظة المعلوماتية العابرة وتعميم التهميش الفكري، والحال هذا فليس من العجيب أو المستغرب أنّ هذه الفضائيات المتنكرة تحت عباءة الحداثوية تمتلكها حكومات وانظمة سياسية متخلفة تخلفاً لا يضاهيه تخلف آخر في هذا العالم بل ولا تمتلك دستوراً في منزلة وحجم دستور 1951، وغالباً ما يطغى هذا المال المنظم بخطابٍ مزخرفٍ في هذه الفضائيات على صوت الناس القائم في الواقع والذي يسعى لهدم البؤس اليومي بمعاول حقيقية، وهذا شأن الثقافة الجديدة وما طرأ على عقل الإنسان من تحولٍ مترددٍ لا يثبت ولا يستريح في فضاء سديمي يبتلع الفرد ويفنيه ويجعل منه مخلوقاً مضطرباً من تفاهة حياته وعدم جدواها وبالذات بين جموع عشائر الفيس بوك المنكودة والتي تتوهم أنها تبصر الحقيقة.

الثالث: أنّ هناك نسيان متعمد لدى النخب السياسية ” المنتخبة” ديمقراطياً للعلاقة العلنية بين التاريخ الخلاق للتأسيس لدستور 1951 وبين حقيقة ولادة الكيان السياسي الجديد آنذاك وبين الحراك الثوري الآني وما يكتبه التاريخ ويخطه، فيبدو أنّ تورط الساسة في فكرة استحداث ” دستور جديد” هو عينه استحداث عملية انقلابية ذات ذهنية تسلطية راسخة الإعتقاد في الواحدية اليقينية التي لا تستند على التقليد الإرثي الدستوري المتجسد فعلياً في دستور 1951 بل وتستند على الانفصال الحاد معه، والتي في آخر المطاف قد لا توافق استعداد قبول ابية الناس بها والتي قد لا ينفعها ترميم فيما بعد ولا ترقيع.

وهي على كل حال برقعة ترقيعية لصياغة دستورجديد صعبٌ أنْ يقبل بها شعب يحترم نفسه ومتعطش للحرية. إذ ذاك فإصرار هيئة التأسيس الملفقة على أن تتصرف بمزاجها الهلامي في دستور 1951 من دون استشارة الناس ومعرفة آرائهم في هذه القضية، إنما هو دليل لا لبس فيه على نزعة الإستئثار والتسلط وفرض حكم مستبد لا يتناسب مع العدالة.

الرابع: إنّ القناع يخفي أكثر مما يقول ومن السهل الوقوع في مصائده لذلك ينفرد الساسة في هذه الهيئة البائسة بقرار استحداث صياغة دستور جديد على اعتبار انّ دستور 1951 إنْ هو إلا وثيقة تاريخية للموتى وصنيعة استعمارية وليس لها من سند تاريخي أومن وزن سياسي في عالم الأحياء الآني وفي هذه الظروف السياسية والمجتمعية والفضاءات الاتصالية التي نعيشها بالضرورة، وثيقة عفى عنها الزمن ومضى ويجب أن يحل محالها دستور جديد في مقدوره مواجهة المليشيات المتشلشلة بالسلاح وبالدروع الشلشلية.

الخامس: إنّ ثمة من رماة مهرة وخاصة أرباب نظرية المؤامرة يتهيأون شغفاً باستهداف هدف اصابته وشيكة، إذ شأن هذا الإستهداف ابتداع دستور رعايا منصتين يألفون الخرس والصمت والقبول بفتات كلمات المتعالين عليه، يقال لهم الكلام وهم يستمعون لكل شفرة من شفراته ليس في تحاورٍ مع الكلم بل فرحين بما لديهم، منصتين تحفهم شمائل الإستقامة والرضا والقبول مع اسقاط تكاليف النقد والتمحيص من أجل نشدان السلامة ونيل السكينة ومباهج الفردوس.

السّادس: إنّ مجرد نظرة سريعة عبر كلّ هذه الفضائيات العربية والليبية المعلقة في الهواء الطلق الفسيح والمزدحمة بالثرثرة المملة المتكررة عن المواطنة والمجتمع المدني والديمقراطية وتداول السلطة وصياغة دستور جديد تكفي بالتدليل على أنّ الإصرار في الإستمرار في الغاء دستور 1951 لن يغير من حقيقة بديهية أنّ العَلمَ الذي يرفعه الجميع ويعترفون به ويزينون به مكاتبهم وجلابيبهم إنْ هوإلا نص منصوص عليه في هذا الدستور، فكيف اذاً تتزين اصلاً بعلمٍ ترفض هويته الدستورية نصاً وروحاً؟ غطرسة غبية لا تستحق التجاهل.

والمدهش أنْ تبصر في هذه النسخة المزورة ذاك الذي يتزين بهذا العلم بعد أنْ كان يستهجنه ويستهجن ممن كان يرفعه صدقاً واخلاصاً عندما لم يكن يرفعه أحد. إن الإستجابة لدستور1951 ليس في جعله مصدراً من مصادر دستور جديد مبرقع بالترقيع والإمتهان كما تنوي ” الهيئة” بناموسها الجديد ولا يستقيم أن تكون هذه الإستجابة البائسة المزورة للضحك في الأكمام خجلاً، ولكن الاحترام والتقدير لذلك الإرث بعرضه على الناس للتصويت عليه إما تقبله وإما ترفضه، فالناس ليسوا برعايا لا يملكون من صفة المواطنة إلا ما تمنحه العشيرة والقبيلة لهم تحت قبة القبو السعيد المكلل بفضفضة ” الجزيرة” وغرغة ” العربية” .

التّاسع: في مثل هذا المناخ الليبي المتناحر والمتصادم صار واضحاً أنّ تعدد هذه التشكيلات والجهات المتنازعة، والتي ليست في تعدد سياسي ديمقراطي بل تعدد فئوي وعشائري ميليشياتي، تعكس التباعد الزمني الواقعي بين ثورة 17 فبراير وبين من دفع ثمنها دماً غالياً وبين اهدافها، فالغالبية الصامتة مستبعدة وتعيش في غيبوبة والجماهير الثائرة تُحرم من سلطتها الحقوقية المتمثلة في اداة الإستفتاء العام- المجاور للفيس بوك- حول الدستور التاريخي، ثمة انفصال وقطيعة دستورية تاريخية بين دستور 1951 وبين هذا البلد بدأها الإنقلاب العسكري وبشكل مغاير تقوم النخب السياسية المنتخبة عشائرياً بالاستمرار في نفس الاتجاه وبنفس التوجيه وعلى ذات المسارات حذو النعل بالنعل مسار تحرسه المليشيات الداعمة للإستبداد والعسكرة المتعطشة للسلطة.

ومع ذلك:

استمدت ليبيا دستور الإستقلال من إرادة الناس وتاريخ الأمة المرير ومن الإنسان الليبي الحقيقي وليس من “شخصية ليبية “ميتافزيقية معلقة في الهواء الطلق والتي لم تكن واعية بذلك الدستور أصلاً، كما ولم يكن صنعية استعمارية أو مؤامرة يهودية كما يدعي دعاة الجهل المركب، ولم يكن فرضاً على الناس كما يدعي أولياء التخوين عبدة الإيديولوجيات واصنامها المتعددة وما كان بوسع أحد أن يدعي تمثيله من دون ارادة الناس، ولم يكن خياراً لفئة أو مجموعة أو ملكاً بل كان عنواناً لإرادة بلد بكامله، دستور استغرق انتاجه التاريخي زمناً ولم يكن حصيلة سهلة لجهد عابر هزيل، بل كان ثمرة صراع مرير وطويل وجهد كبير مضني قام به عينة من الأكفاء الليبيين، دستور فتح أُفقاً تاريخياً جديداً للبدء في بناء دولة عصرية مستقلة، وكان نهجاً أُريد به أن يكون محور مسار الأجيال اللاحقة من حيث انتهى الجيل السابق عليهم، وها هو هذا البلد يسعى إلى وأده دفعة واحدة بتلقائية مريبة ومقلقة في آن واحد لا تأتي من فراغ بل بكيفية منظمة مزودةً بالوقود اللازم للدفع به في سراديب النسيان وبثمن بخس دون استناد إلى صوت الناس أو هوية هذا البلد التاريخية.

مقالات ذات علاقة

ملخص المفاهيم الرئيسية لنظرية الاتزانية

المشرف العام

الحقيقةُ البلاغيةُ والخِلافُ اللفظي

يونس شعبان الفنادي

تحديات الدولة الواحدة على أرض واحدة في فلسطين العربية

رمزي حليم مفراكس

اترك تعليق