المقالة

قطرة مطر على عين حارس المدينة الأعور

من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر
من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر

حتى هذه اللحظة، وبعد مرور عام كامل على ذوبان مدينة الصحابة في البحر كما تذوب صبخة الملح في ماء المطر، وبعد مرور 365 ليلة تقريباً، وأنا عاجز عن كتابة حرف واحد في حق أرض الصحابة، تتقلص أطراف أصابعي لتصبح كأصابع حيوان الكوالا، وتنكمش خجلاً أمام آية الله في درنة الحبيبة.

وكلما قررت أن أتحول إلى كوالا لأصف معنى هذه الآية، أكتشف أن الحروف وحدها لا يمكن أن تصف الحالة ولا تعالج أصابعي.

أشعر بغصة في صدري، وكأن مسمارًا يخترق حنجرتي من الداخل، وتنكسر الدمعة في عيني كالزجاج، تهبط قطعاً دون أن تغسل كفن حارس المدينة الأعور.

الغصة كانت عذراً في محله، أليس كذلك؟ فعلاً أنا ملك الهروب! اعلم متى اهرب وكيف اهرب والى أين أهرب.

ربما كانت تلك تذكرة هروبي من أن أصرخ وأنبش القبور في مقبرة شهداء درنة بحثًا عن كلمات عن حكاية كل فرد فيهم تلك الليلة ،ولكن هيهات أن تهرب من أبواق الموت. قد يكون صوتًا أو رائحة تجرك من أنفك لتفك حزام بنطالك للكوالا وتبدأ من جديد في فرقعة أصابعك.

بصراحة، اليوم هو 11 سبتمبر، وبينما كنت أحضر نفسي في الصباح لمواجهة نزال الشوارع، ومع كل نفس من “مسمار الصباح” في عقلي، وانا اتأمل زرقة السماء من نافذتي الصغيرة ،سمعت صوت أبواق السفن في ميناء طرابلس. ولم تمضِ لحظات حتى عرفت أنه حداد على أرواح شهداء درنة، وفقاً لما نقلته بعض صفحات الأخبار في الهاتف.

نفس عميق يُثبّت المسمار، ثم أنفث دخان سيجارتي الصباحية، وأرى دخانها يتجه عبر نافذتي الصغيرة إلى السماء الزرقاء، وكان مليئًا بصور الأطفال والنساء وقبور الصحابة. كانت رائحة الدخان حنة وياسمين وسدر.

يقطع الدخان من صوت أبواق السفن في الميناء نواحاً على ارواح درنة، على الجنين وحبله السري ونبضات قلبه بعد ان فرَّ هلعا من أحشاء أمه لهول المنظر بينما انتقلت الأم الى (يوم يفر المرء من أخيه).

وتمر على أنفاسي رائحة الموت ويجلسُ في أنفي حارس المدينة الأعور مرتدياً بدلة نقل الجثث البيضاء وكمامات وتنبعث منه رائحة جرذان متعفنة.

أضع يدي على قلبي، وأحاول مجددًا أن أصف الآتي:

آية الله

بحسب ما يُكتب في الأخبار والتقارير، فإن عدد شهداء غزة اليوم منذ بداية حرب 7 أكتوبر قد يتجاوز الأربعين ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، وهذا دون الحديث عن عدد الجرحى الذي يفوق خمسة وتسعين ألفًا.

وقد استغرق ذلك قرابة العام، وكلف بني صهيون بلايين الدولارات، والكثير من القنابل المحرمة من نابالم وعنقودية وقبب حديدة ورادارات وجيوش العالم الاولى تصدرت وحلقت حول غزة حتى انهم استعانو ببعض اخوانهم من العرب لحصار الغزاويون برا وبحرا  ، لقد فعلو  ما يمكن أن يُحرِّمه الشيطان شخصيًا على نفسه ليقتل به أطفال غزة وأطفال درنة. كل ذلك الجهد والمصاريف والذمم لقتل اربعين الف بين اطفال رضع ونساء وقطف الياسمين والحنة وكان فلما بطول احد عشر شهرا من الدم على كل جدران العالم وشاشات الهواتف المحمولة. 

ولكن لا اعتراض على حكم الله، فكل ما نراه اليوم هو آيات الله.

إن ما سبق هو فقط من باب المقارنة بالأرقام: مقارنة الوقت والعتاد والقدرة على الإعجاز والقهر من الله عز وجل.

والآن دعوني ألفت انتباهكم إلى الجندي المجهول:

قطرة المطر.

نعم، أخبرني الله العام الماضي أنني سأُرزق بطفلة في شهر سبتمبر. ثم أخبرني أن مطر سبتمبر يستطيع أن يزيل جبال الملح لتعود كما خُلقت أول مرة في كبد البحر.

 مطر سبتمبر  يستطيع أيضًا أن يملأ سد وادي الموت في درنة بقطرات الماء وذنوب المساكين وينفجر ليغمر المساكين في قاع الوادي وهم نيام، ويسوقهم إلى كبد البحر.

وأخبرني الله أيضًا أنه لا يعلم عدد الشهداء والمفقودين إلا هو.

ومع ذلك، استطاع بعض البق في فراش حارس المدينة الأعور وبعض المختصين  أن يقدروا عدد الشهداء بـ 12,000 شهيد، وعدد المفقودين قد يفوق ضعف هذا العدد.

كانت تلك آية الله بقطرة مطر في أقل من ساعة ، من انفجار سد الموت حتى غرق مدينة كاملة بكل ما تحمله من هموم وفرح، وبكل ما تحمله من أفراح وأحزان، من أطفال وشيوخ، بكل عرائسها وعرسانها وكل الياسمين والحنة.

امتطت المدينة  قطرة المطر وغاصت لتتطهر في قلب الأزرق، ثم ترى بأم عينك عمارة الأوقاف وقبور الصحابة، أكواخ المساكين وبيوت الفقراء تسير صفًا صفًا في مشهد مرعب، كأنها ذاهبة إلى الله القهار وتسجد تحت عرشه فوق الماء.

وفي مساء اليوم الثالث خرجت من باب منزل صديقي الدرناوي صفوت أشرف الذي استضافني وفريق الصحفيين في منزل العائلة طيلة فترة زيارتي للمدينة وعلى بعد تقريباً عشرة امتار من باب منزلهم القريب جدا من حافة الوادي ، تجلس صخرة كبيرة على حافة وادي الموت مقبلة على البحر وتدير ظهرها للسد اللعين، جلست على الصخرة وشرعت في دق المسامير في عقلي وانفث الصداء من صدري جلست وحيداً وكنت جداً وحيداً مع الصخرة حتى شعرت بخنقة وحاجة للانفجار باكياً امام مشهد المدينة و اثار آية الله. وانفجر سد عيني ملحً بينما كان عقلي وقلبي يرتجفان في حالة تأرجح بين الخوف و الحزن و الهلع في آن واحد. و كان عليا انا ابوح لأحدٍ ما ، وكان على أحدٍ ما ان يطلبني تلك اللحظة بالذات ليقول لي ها انا هنا اسمع نواحك. ولكن هذا بالطبع لن يترك قصص السنما ليجلس على الصخرة بجواري ، وكعادتي اقضي اسواء حالاتي وحيدا بعيدا.

بكيت و مارست عادة التدخين كما لم امارسها من قبل على تلك الصخرة، ثم بكيت حتى نطقت الصخرة من تحتي وقلت لي .. أرجوك يا سيدي لا تموت البكاء هنا فوقي فالمدينة قد لا تسع جثثك المثقلة بالذنوب ولتفهم آية الله. لعلي فعلا مازلت احاول فهم آية الله حتى اللحظة، فشهداء غزة اليوم ماتو بقنابل اليهود و صواريخ الامريكان والانجليز واعظم جيوش الارض. والله يمدهم في طغيانهم يعمهون. ولكن لماذا اختار الله درنة ؟ هل تعتقدون انه اختار درنة ليثبت ان حارس المدينة هو الاعور الدجال ؟

قد لا استطيع ان الف هذا حول عنقي.

كنا نسمع صراخ المساكين كل ليلة في الوادي، اعتقدت في اول ليلة ان مسامير درنة طرية وقد يخيل لي من التعب انه هناك من يصرخ ويطلب الرحمة من الله في قلب الوادي في قلب الليل! الا انني اكتشف ان ذلك الصراخ هو صراخ حقيقي كل ليلة وانه يدعى بصوت الغيلان . ذلك لم يكن صوتا لي اي غول. وان سمع الغول هذا الكلام ربما مات من الخجل لان ذلك الصوت لا يخرج الا من روح مكلومة.

حسنًا، هذا كل ما أستطيع أن أصفه.

اعذروني يا إخوان.

فإن لم تستطع أن تتمكن من ان ترى هذه الآية بأم عينك ،  وتصلّي على النبي، فاعلم أنك ترى بعين واحدة. واعلم أنك الدجال.

فالدجال يرى من زاوية واحدة، وكذلك حكومة ليبيا ترى بعين واحدة، وحارس المدينة بعين واحدة فهم أشخاص ختم الله على قلوبهم، ولم يعلمهم الحساب. لن يستطيعوا أبدًا أن يحصوا عدد الأرواح أو الكلفة لخوض حرب بكل ما حرمه الشيطان على نفسه لقتل أطفال ونساء غزة، ثم يقارنوها بما يمكن ان تفعله قطرة مطر من الله.

الساعة الا ربع التي سيق  فيها  قومًا كاملاً إلى البحر في ليلة يتيمة من ليالي سبتمبر، بينما كان حارس المدينة الأعور يلف قناديل الحشيش فالمربوعة  في باب طبرق يسمع صراخ الأبرياء في الوادي طالبين الرحمة من الله، وهو يتصبب عرقاً بعد ان انقطع كهرباء المدينة كله وانسجن هو فالمربوعة قبل أن تجمع زوجته حقائب الهروب، هروبا من موت الأحياء القادم حافي القدمين من اسفل الوادي في اليوم التالي.

وفي محاولة يائسة للهروب بميزانية صيانة سد الموت، حتى أنه لم يخبر شركاءه أو يستشير رئيسه المباشر.

وسؤالي هنا هل تعتقدون ان قطرة المطر لن تبلل اسراي،ل و لا تسطيع ان تغرق حارس المدينة الدجال؟

وبعد كل هذا لازلت عاجزاً عن شحن الحزن في قلبي الى صدر اي كان يقراء كلامي هذا، هذه المرة الآية كانت بشكل مباشر صوتا وصور وروائح.

اللهم اجعل القادم غيثا نافعا.

وانعم اهل درنة والغزاويين في جنات النعيم.

11/9/2024

مقالات ذات علاقة

شاعر فاطمة والوردة

يونس شعبان الفنادي

تيوسنا الثمينة

منصور أبوشناف

حول ثقافة المسؤولية

أمين مازن

اترك تعليق