يجوبُ أطراف القريةِ نهارًا وسط مساحةٍ من الحقول حوَّل بعضَها عبثُ المقاتلين العابرين إلى خرائب مُحترقة..
في الظهر يتحولُ إلى شبه فزَّاعة لا تهابه الطيور، تجدُ لها مرتكزًا إلى جانبه لطولِ مكوثه.. يستمتعُ بمرآها تحطُّ بقربه حتى إن تخلَّى عن السكون الذي يستمر لساعات.. يجد في ذلك البراح راحة سرعان ما يردُّها اليأسُ خائبة في عالمه الذي تغشى الذاكرةُ فيه (حواء) وقد حوله رحيلها المفاجئ إلى بعض إنسان لا يفصله عن اللحاق بها إلا أنفاس .
ليس على ما يرام في عقول أهل القرية.. يتحاشون ملاقاته كلما حاول الاقتراب.. لكن هطول الظلام حِراب تشحذ أسنانها على جسده المُنهك.
في ليلة شديدة السواد يجثمُ على القرية الصغيرة وأزقتها الترابية هدوءٌ مُريب.. لا تكاد تسمع فيها حسيسًا.. أنوارٌ خافته داخل المنازل المُتصدعة تصارعُ ظُلمة المكان.
شيءٌ ما فاق قدرته على التركيز ..يجدُ نفسه واقفًا مستندًا على حائط يقابل منزلها.. فُتحتْ نافذته.. تبين له ظل لامرأة.. خمَّن بسرعة:
– هل هذا الظل هيَ..!؟
هل عليه أن يقتربَ أكثر..؟ لا يعلمُ كيف قادته قدماه إلى مكان تركه بكل مآسيه منذ سنوات، كيف له أن يحسمَ الأمر؟
هل يُفسحُ المجال لحالة الجنون هذه أن تلغي عقلًا يجثمُ عليه غبش الذكريات المؤلمة!؟ أم يساير حقيقة النهاية.. هبتْ ريحٌ باردة فجأة.. اعْترته قشْعريرة.. أحسَّ ببرودةٍ مُفاجئة.. صرخةٌ مكتومة ارتدَّ صداها إلى أعماقه..
صعدتْ إلى رأسه فكرة مخيفة، ماذا لو كان يقفُ الآن يتخفَّى عند منزلها، إنه الزقاق نفسه والنافذة ذاتها.. أعادَ النظر في باب النافذة الموارب.. مازالتْ تقفُ هناك غريبة الملامح.. ركض مبتعدًا.. التفتََ إلى الوراء فزعًا.. يتخيل طيفًا يلاحقه ينادي:
– لا تهرب كهروبك يوم أن استباحنا العابرون العُتاة ووطأني الفُساق.
التصقَ رأسه بوسادته شاخصة عيناه إلى أن أعلن الضوء حضوره.. قادته قدماه المرتعشتان كما قادته ليلًا.. يصعد النافذة.. يجلسُ على طرفها.. يمدُّ ذراعيه كفزاعة.. ينعق بمحاذاته غرابان قبل أن يطيرا إلى الخرائب المجاورة ينتظرانه.