الذكرى الثالثة لرحيل القاص الليبي علي الجعكي
حقول الرمل تبدو أمامي مترامية بدون أفق يحدد امتدادها، يظللها سراب ضبابي في حركة دائمة… قطع الصخور السوداء مزروعة على صفحة الرمل، وتتناثر على مسافات متباعدة مدّ البصر… هجير ورمل ساخن… صمت يطبق على المكان بثقل كوني هائل… أعواد جافة تتقصف تحت خطواتي البطيئة…
في الجهة اليسرى تنطلق الجبال الحادة بلونها الصخري الشاحب… تحوم فوق ذُراها البعيدة أسراب الغربان، وتظهر كنقط سوداء، تتحرك على زرقة السماء… عند السفح تتشبث شجيرات جافة بالحصى.. تنتحب الريح بين أعوادها، فتنتشر رائحة بخور يحملها الهواء الساخن إلى أنفي، فأنتعش قليلاً رغم ألم ساقيّ وغليان دمي.
هنا بداية الطريق التي نويت أن أسلكها منذ تلك الرؤيا التي تكررت لي سبع ليال متعاقبة. كان يحثني كل ليلة، ويرسم لي الوادي بعلاماته ومسافاته وشمسه، حتى حفظته عن ظهر قلب، ولم يعد الصوت يفارق سمعي… كلماته سكنت كل جسدي.. حروفها تتجمع في رأسي، وتملأه أزيزاً مرعباً كأسلاك معدنية تخترق دماغي… عليك أن تصل عند الغروب وقبل ظهور القمر… مع الحلول الأول ستراها تبهرك… تخرج كنجمة وحيدة على كتف المغارة… اقرأ ما علمتك دون أن تنقص ورداً واحداً… ردد بهمس حتى يتدلى العنق الطويل، ويقترب شعاعها من الطين، عندها تكون في قبضتك… اركع للرأس الحاني واقطفه… لا تترك ماءها يسقط على الرمل… لم أنسَ من التعويذة حرفاً… كان ينفثها في كياني كل ليلة… أحس بحرارتها تشعل جسدي… تنير لي الطريق في هذا الخلاء الذي لم يطأه بشري منذ القدم… تثير لديّ رغبة عارمة في أن أحلق عالياً، فوق تلك البقاع المنسية… أرحل في عمق الرمل، وشراسة الحريق المشتعل من كل شيء، حتى أصل المغارة… النجمة المتكئة على الكتف بشعاعها وألقها الغامض الذي لوث دمي منذ أن ظهرت لي أول مرة… كنت أرقبها في صمت وهي تتفتح في العتمة، وأعد نفسي بالتحول الكبير الذي ستمنحني إياه… يولد نورها من العمق، وينتشر حول شفاهها الطرية… يرسم هالة شاحبة تنير لي الطريق… سكون كوني هائل يلف الأشياء بغلاف معدني… يوقظ الرهبة في داخلي، فيتحرك كائن عنكبوتي لزج، ويلف بأذرعه على روحي المعلقة… أشعر بانقباض مرعب يشل حركتي، ويملأ كياني خوفاً غامضاً… داهمني شعور بالندم لمجاراة أوهامي التي رمت بي في هذا الفراغ… كل الأشياء من حولي ساكنة إلا من أزيز يصفّر بأذني… لماذا أنا هنا؟… سؤال أخذ يكرر حروفه داخل جمجمتي، ويخرج من فتحات رأسي صياح يتردد صداه بين أركان الوادي. تذكرت أني وحيد هنا، فأطلقت حنجرتي أصواتاً وحشية، وصراخاً قديماً سكن الذاكرة المشوشة… رائحة الزهرة الغريبة تتسرب إلى أنفي…
لم أذكر أني شممت مثل هذا البخور الملكي المعتق… الظلمة بدأت تزحف على الأمكنة المتربصة… تخرج من المغارة وينتشر سديمها الرمادي… يتحول الرمادي إلى حالكٍ قاسٍ، فيتحول كل شيء… تختبئ الرمال والصخور لتمارس في الخفاء تحولها اليومي… إحساس غريب كان يجتاحني… يمسح داخلي بنعومة… جسدي بدأ يتحول في حضرة الزهرة المتفتحة بنور بارد… ملمسها الناعم ينبض كقلب حار… أحس بدقاته المتسارعة تسري بين أصابعي، وتتوغل عبر دمي إلى كل جسدي، كنت أتنقل في عمق المغارة برشاقة طيف أثيري… تتوه خطواتي بين التعرجات الرملية المظلمة، أحياناً تتضح لي الجنبات الخربة بنتوءاتها وغبارها… عروق جافة تتدلى من السقف، فتلمس رأسي وكتفي، وينتشر الرمل تحت ثيابي. طائر ليليٌّ يرفرف بجناحيه حولي… تلمع عيناه الكبيرتان فتعكس شعاع الزهرة… ينتفض بين الجدران الرطبة ويصدر أنيناً آدمياً مخيفاً… يسقط على الأرض ويشتعل بلهب أزرق… يعض على جناحيه ويتألم… رائحة الريش المحروق تعبق بفضاء المغارة… تمتد المخالب المعقوفة تحفر خدوشاً عميقة في الرمل… يهمد الجسد المحروق… يتلاشى الدخان في الجنبات المظلمة، يعطرها برائحة الشواء المتبل… ضحكة مجلجلة يتردد صداها في العمق البعيد…
صوت مألوف عرفته من رنته الحادة… مرت في ذاكرتي تعاليمه الطويلة… عاد الصوت من الظلمة بحدته ووثوقه… أنت قريب من الكنز… اقرأ أورادك في همس ثم اركع… يكون المفتاح في قبضتك… رعدة باردة اجتاحت كامل جسدي… دوار مخدر يحرك الجدران… تقترب مني.. الرمل يضغط على صدري… يملأ مسامي وينسكب إلى داخلي… العروق الجافة تخترقني، فأتعلق بالسقف.. الزهرة تنطفئ بين أصابعي.. رائحة الريش المحروق تملأ الفراغ… لحمي يشتعل بلهب أزرق فأعض على أطرافي وأتألم… حشرجة مبحوحة تتوجع بداخلي.. تعبق المغارة برائحة البخور القديم.. برائحة الصلصال المبلل بالمطر… يتضاءل جسدي الملتهب، ويمتد منقار جارح في مقدمة وجهي… تتسع عيناي فأتمكن من رصد كل شيء… ريش عطن ينبت من جلدي وينمو كزرع شيطاني حول أطرافي… مخالب حادة تخرج من قدمي وتنغرز في الرمل. كل الأشياء تتحول في نظري… تكبر… تتغير ألوانها… كل شيء أصبح رمادي اللون… لا يمثل لي شيئاً… أشعر بحنين إلى دفء القش في أعلى السقف… أحرك جناحي في الفضاء المظلم… أنزلق بخفة بين العروق المتدلية… أستقر في العش المعلق… أتجه بعيني المدورتين إلى فراغ المدخل المطل على فضاء الوادي.
مجلة الفصول الأربعة | العدد: 126، السنة 32، يوليو – صيف/ 2020م