النقد

قراءة نقدية في رواية (بعض ذلك المسك) للروائية خيرية فتحي عبد الجليل

الروائية خيرية فتحي عبدالجليل، تكتب (بعض ذلك المسك)
الروائية خيرية فتحي عبدالجليل، تكتب (بعض ذلك المسك)

تعد الرواية من أقدم أجناس الأدب المستخدمة للتعبير عن وتوثيق الأحداث المهمة التي تمر بها البلدان وساكنوها، ويعد الليبيون رواد هذا الجنس الأدبي بلا منازع حيث إن أقدم رواية في التاريخ قبل آلاف السنين هي رواية (تحولات الجحش الذهبي) للروائي الليبي (لكيوس ابوليوس) وهو صاحب رواية (دفاع صبراتة)، والذين ترجمهما المؤرخ الليبي الدكتور (علي فهمي خشيم)

والرواية التي بين أيدينا هي رواية لكاتبة ليبية شابة من مدينة البيضاء وهي الروائية خيرية فتحي عبد الجليل، صدرت عن دار الجابر عام 2024 وهي رواية تنتمي إلى ما نسميه الأدب المرجعي فبغض النظر عن إدراجها تحت أي صنف من هذا النوع من الأدب وسواء كانت هذه الرواية (سيرة ذاتية أو سيرة شبه ذاتية أو سيرة غيرية أو اعترافات) فهي كما ذكرنا تنتمي إلى الأدب المرجعي التوثيقي.

* الغلاف: من المعروف أن الغلاف هو أولى عتبات العمل الروائي ولما كان كذلك فإننا نجد في غلاف رواية (بعض ذلك المسك) أن العنوان تم اختياره بذكاء بحيث يعطي مدلولات منها أن ما بين أيدينا الآن هو بعض من ذلك المسك المتمثل في كل شيء طيب من تلك الحياة البعيد والوسيطة التي تناولتها الرواية.

والصورة التي تظهر في الغلاف احتوت على وسائل متعددة من الإنارة والتنوير التي وردت في الرواية تصريحا وتلميحا (الفنار- الفتيلة- الشمعة- الشعلة) كما تظهر هالة من النور وسط عتمة سواد، وتظهر كذلك صورة امرأة ترمز إلى المرأة التي بدأت منها وانتهت إليها الرواية (الجدة- الحفيدة). وترمز صورة الغلاف في مجملها إلى إحداث وحيثيات الرواية.

* ملخص الرواية: الراوية في هذه الرواية هي فتاة تسرد حكايتين اثنين، الأولى على لسان جدتها وتتناول فترة الاستعمار الإيطالي ومعارك الجهاد في منطقة الجبل الأخضر ومعاناة المواطنين من ويلات الاستعمار، وتتحدث -بالتفصيل- عن بعض الأزمات التي عايشتها الجدة التي كانت طفلة في تلك الحقبة حيث تتذكر أحداث جسام حدثت في تلك المنطقة بعيد توقيع اتفاقية أوشي لوزان عام 1912 وسياسة التنكيل التي انتهجتها إيطاليا تجاه المواطنين كما تتناول المجاعة أو ما سمي ب (سني الشر) وتصف -بالتفصيل- سير معارك الجهاد وتصف مساهمة النساء في تهريب السلاح والمؤن للمجاهدين وتسرد كذلك قصة حب عاشتها إحدى نساء النجع مع فارس ليس من نفس نجعها وتغلبت على إرادة أهلها الذين كانوا يريدون تزويجها لابن عمها وكافأها زوجها بقيامه بعدة مغامرات عاطفية انتهت أغلبها بالزواج عليها في أكثر من مناسبة وازدادت مغامراته حتى وصل الأمر بينهما إلى الطلاق قبل أن يتراجعا مجددا وتختتم هذه اللوحة من الرواية بالحديث عن الجاسوس الذي يعمل لمصلحة الإيطاليين وينقل لهم أخبار المجاهدين وتجهيزاتهم.

أما اللوحة الثانية من الرواية فهي تسرد قصة فتاة وهي حفيدة الجدة بطلة اللوحة الأولى منذ اليوم الدراسي الأول في حياة الفتاة، وذهاب الجدة معها إلى المدرسة وتعلقها بالجدة وصولا إلى بلوغ الفتاة سن المراهقة وما صاحبها من تغيرات هرمونية ونفسية وعاطفية وحتى ميولاتها الأدبية والفنية والقراءات والموسيقى واللون الطربي وميادة الحناوي ومحمد حسن وتفرد الرواية في هذه اللوحة قصة حب بين الفتاة وشاب من جيلها.

حيث استطاعت الكاتبة أن توائم بين اللوحتين وتجعل نهايتيهما في وقت واحد رغم اختلاف الزمان والمكان.

* المكان: المكان المفتوح هو منطقة الجبل الأخضر وبالتحديد مدينة البيضاء فيما تتسع خارطة الرواية جغرافيا في بعض الأحيان لتسرد بعض الأحداث في المرج مثلا في إشارة إلى الزلزال الذي ضرب مدينة المرج عام 1963، وبعض الزيارات إلى بنغازي والأراضي المقدسة، فيما اشتملت الرواية على بعض الأماكن المغلقة أبرزها غرفة الجدة التي وصفتها الكاتبة بدقة متناهية،

* الزمان: نستطيع أن نقسم زمن الرواية إلى حقبتين:

الحقبة الأولى: وهي التي بدأت عام 1912 وانتهت عام 1963.

الحقبة الثانية: بدأت في نهاية السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات.

* الشخصيات: تعمدت الكاتبة ذكر أسماء بعض الشخصيات وإخفاء غيرها وهنا أقصد الشخصيات الرئيسة فهي مثلا لم تسم شخصية الفتاة والتي تقمصت دور الراوي ولا شخصية الجدة التي تروى الرواية على لسانها وهما أبرز شخصيات الرواية فيما أظهرت وصرحت بسم الشيخ (عبد الواحد) واسم العجوز (ماصدناها) وشقيقة الجدة (حبس)، و (أحمد) حبيب الفتاة و (ليلى) صديقتها، ولكن ذلك الإخفاء للأسماء لم ينقص من جمال السرد شيئا، فحين تغرق في تفاصيل الشخصية وتصرفاتها وآلامها وأفراحها وأتراحها لن تكون بحاجة للوقوف عند اسم هذه الشخصية أو تلك فيبدو اسم الشخصية حينها مجرد شيء من القشور.

* الاسترجاع والاستباق: وظفت الكاتبة الاسترجاع والاستباق عدة مرات بالرواية في الزمان والمكان المناسبين.

* التعالق : اشتملت الرواية على مجموعة من التعالقات أبرزها التعالق مع التأريخ فقد تناولت الرواية سرد الوقائع التاريخية المهمة التي مرت بها البلاد خلال المائة عام الأخيرة من صراعات وتحالفات ومعاهدات دولية وحروب إقليمية وعالمية وتحولات تاريخية وجيوسياسة مهمة.

* التضاد: تميزت الرواية بتضاد لافت وتمثلت أبرز ملامحه في التضاد في وسائل التقنية المتقدمة في عهد الفتاة وما يناظرها في عهد الجدة، والتضاد بين وسائل الإنارة المتمثلة في الفنار والفتيلة والشعلة وما يقابلها من مصابيح كهرباء بأشكالها المختلفة والشبكة العامة للكهرباء، والتضاد بين العطور الطبيعية والمسك والعنبر وغيرها من الزيوت الطبيعية والكحل والمكحلة. وما يقابلها من عطور مصطنعة وأدوات ومستحضرات تجميل صناعية ، فيما يظهر التضاد أيضا في مرحلة متأخرة نسبيا من عمر الجدة عندما اقتنت جهاز (راديو) وما يقابلها من وسائل حديثة مثل التلفاز والحاسوب وهاتف الفتاة المحمول والمحاكاة بينه وبين راديو الجدة، وقد بلغ التضاد أوجه عندما ترنمت الجدة بغناوة علم تعبر عما يختلج صدرها:

((العين طامعة في نوم// والعقل فيه دنيا شايلة )) ، فيما كان التضاد يحمل رسالة سامية عندما قامت الفتاة بوضع رسم لمنطقة (بطة) الجميلة على أغلفة كراريسها في تضاد إيجابي لما قامت به صديقتها من وضع رسم لمدينة نيويورك الأمريكية على أغلفة كراريسها، ولم يعكر هذا التضاد صفو صداقتهما ، ولعل أكثر التضاد مرارة هو التضاد الذي كان يدور في خلد الجاسوس الذي جاء إلى النجع ليقوم بالتجسس على أهل النجع فوقع في حب ابنت شيخ النجع .

* التناص: احتوت الرواية في بعض تفاصيلها على تشابه مع رواية (شوق الدرويش) للروائي السوداني الشهير (حمور زيادة)

هذه الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة المرشحة لنيل جائزة البوكر للرواية العربية، حيث إن هذا التشابه اقترب في بعض الأحيان إلى التناص، بالأخص في جزئية المجاعة التي تعرضت لها منطقة أم درمان خلال حروب الدولة المهدية حيث إن إحدى النساء أقدمت على أكل ابنتها الميتة من فرط المجاعة القاسية وهذا بالضبط ما أوردته الكاتبة في رواية بعض ذلك المسك -تحديدا- في الصفحة (101)، وهذا ما يؤكد أن المعاناة الإنسانية جراء الحروب الطاحنة واحدة مهما اختلفت التضاريس والامصار ومهما تبدلت الأجناس والاقطار.

* تداخل الأجناس: اشتملت الرواية على تداخل جميل لأجناس الأدب المختلفة وتمثل ذلك في توظيف الكاتبة لنصوص شعرية وأبيات واشعار وألوان من الموروث الثقافي المتمثل في غناوة العلم وقذارة الرحى والشعر الغنائي والموسيقى والاغاني الطربية بالإضافة إلى أن بعض حكايات الجدة هي عبارة عن جنس اخر من الادب السردي وهو القصة القصيرة فمثلا حكاية الغريب الذي جاء وبنى خيمته بالقرب من النجع هي عبارة عن قصة قصيرة مكثفة نستطيع أن نستلها من جوف الرواية ونقرؤها بشكل مستقل كأقصوصة متكاملة تندرج ضمن الجنس الأدبي المسمى (القصة القصيرة).

* الخاتمة: رواية بعض ذلك المسك هي رواية تاريخية اجتماعية عاطفية رائعة سلسة تتداعى احداتها بسلاسة ويسر ودون تكلف ممل وبلغة رشيقة وواضحة، رواية بعض ذلك المسك خطت بمداد من الق وابداع من كاتبة تمتلك ادواتها وتتمتع بثقافة واسعة وراسخة وتشق طريقها بثبات وتحجز لنفسها مقعدا ثابتا في منصة السرد الليبية، رواية بعض ذلك المسك من الروايات التي سعدت بقراءتها والتعايش مع شخوصها وتفاصيلها ولأن الرواية عمل بشري وكما هو معروف ومسلم به أنه لا يوجد عمل بشري خال من الهفوات والزلات وحتى الأخطاء، -على الأقل- من زاوية القاريء التي يرى منها هذا العمل أو ذاك، وهنا أود أن أسجل في ختام هذه القراءة أن رواية بعض ذلك المسك من الروايات التي تميزت بقلة الهفوات والأخطاء وهي هفوات شكلية على أية حال، هفوات مطبعية وهفوات تنسيقية، وهذه الهفوات لا تنقص من جمال وروعة الرواية لذا سأكتفي بالتنويه عنها دون ذكرها لأنني على يقين أن الكاتبة قد لاحظت هذه الهفوات وستعمل على تلافيها في الطبعات التالية لأنني على يقين أيضا بأن هذه الطبعة لن تكون الأخيرة، أخيرا وليس آخرا: شكرا اديبتنا الجميلة خيرية على كل هذا الألق والابداع…

مقالات ذات علاقة

الوظيفة السامية للتخريف

محمد الترهوني

قراءتي في رواية توقف نمو

المشرف العام

قراءة في رواية (رياح الحرب) للروائي عبدالرسول العريبي

المشرف العام

اترك تعليق