في مواسم الشِّتاء، مع أطفال شارعنا، كنتُ أنا وشمس أختي التي تصغرني بثلاثة أعوام، نلون عيوننا بقوس قزح، نمدّ أيدينا نتسلق امتدادات تقوساته، تصطبغ خداها بحمرة الخجل، تقول لي :
– اختر لونك
– الأحمر.
– وأنتِ ؟
تصمت قليلاً ثم تقول:
– البرتقالي.
نركض غزالين شاردين تحت المطر، نحتفي بهطوله، نفتح أكفّنا نصافح كل قطرة تزورنا من غيمة مسافرة حطّت على رؤوسنا، بللت ملابسنا، روت أجسادنا، نهتف في آنٍ واحد حين يشتد عزف الرِّيح على وجوهنا بقطراته، نتذوق بشفاهنا طعم السماء، وعندما تطفح السيول، تحفر مساراتها في أرض شارعنا الترابية، أصنع سفينة من ورق، تقول لي وهي تمسح ضفائر شعرها المبتل :
– فلتصنع لي مثلها، أريدها أن تبحر، وترسو مع سفينتك.
– تغترف بكفيّها ماء المزاريب، تنثره شلالات على وجهي ثمَّ تجري مبعثرة ضحكتها عبر الشَّارع قبل أن تسبقني إلى البيت، وتنال حصّتها من توبيخ أمنِّا بعبارتها المكررة :
– ماذا دهاكما ؟ بللتما ملابسكما. ليس لكما غيرها، سأحبسكما في الحجرة حتى تجف…
تلك الليلة سمعتُ أبي يخبر أميّ بأنه لم يعد يحتمل البقاء في هذه البلاد، عجز عن توفير اللقمة، يتمزق قلبه لأنين أخي الصغير، مرضه مزمن، طرق مكاتب المسؤولين، لم يلتفت إليه أحد، قرر الرَّحيل مثل زميله في العمل، سارقت النظر من وراء اللحاف، أبصرتُ وجه أمَّي شاحبًا، ظلت واجمةً بينما واصل أبي حديثه :
– اتفقتُ مع أحدهم أن يرتب لنا إجراءات السفر على متن قارب إلى إحدى الجزر الإيطالية، دفعت له المبلغ، غدًا صباحًا سنتحرك.
فجر اليوم التالي ايقظتنا أميّ. جهزّت حقيبة دفنت داخلها ملابسنا المهترئة، وصرّة معقودة على ما تبقى من طعام، وزجاجات ماء.
قدمت الحافلة تقافزنا إلى جوفها المحشور بأجساد ضامرة نتأت منها رؤوس لوجوه شاحبة محفورة بعيون يسكنها النعاس. شعرتُ بخوف ينتابني، علّقت بصري بأمِّي التي احتضنت أخي الصغير بينما التصقت بها أختي شمس مثل قطّة. أما والدي جلس إلى جانب السائق صامتًا ينظر إلى البعيد.
عبرتني المسافات، أدخلتني إلى عتمة الليل.. حين وقفت بنا الحافلة بقرب رصيف قديم، ثمة رجال ملثمون يحركون أيديهم طالبين منَّا الإسراع ليتلقفنا قارب مطاطي شبه دائري بدا لي مثل فم حوت مفترس يعج بعشرات الأسماك المنتفضة، لها وجوه رجال، نساء، أطفال.. التصقت بأمّي، وأخي، وشمس، طوقنا أبي بذراعيه حمايةً لنا من ضغط الأجساد المتلاصقة، تمايل القارب مهتزًا وسط الأمواج، تقيّأت شمس في حجر أمّها، شعرتُ بدوار، سماء وبحر، الموج يهدر، دوامات من الزبد، فجأةً علا الصياح، أعقبه عويل أشخاص يتناثرون وسط البحر، الماء المالح يملأ فمي، شعرتُ بالاختناق، أغوص إلى القاع. عندما فتحتُ عينيّ، لم أكن في القارب، ولا في بيتنا، أجساد على أسِرّة، ملاءات بيضاء، تلفّتُ حولي، رأيت أمّي على السرير المجاور، سألتها بصوت مبحوح :
– ماذا حدث ؟
– تمتمت بوهن :
– الحمد لله على السلامة.
– أدرت ُبصري حولي، سألتها :
– أين أبي، أخي، أين شمس ؟
– لم تجب، انتبهت إلى أن أمّي تخبئ في عينيها ما يشبه المطر.
تتعاقب المواسم، يضئ الأفق بأقواس قزح، شمس غائبة، انتظرتها فلم تأت. بحر عميق يتعقبني، القارب الحوت يشق أحلامي بأمواجه، يطاردني بفكّيه المشرعين، ظللت مهووسًا بالمراكب، والسفن الورقية، في المدرسة أسحب الكتب، الكرَّاسات من أدراج التلاميذ، أحولها إلى سفن، ومر اكب، في البداية نشرتها في كلّ الشوارع، وبعد أن أخذوني إلى هذا المكان بأسواره العالية علّمتُ رفاقي – الذين لا أعرفهم – كيف يصنعونها، ويطلقونها تبحر عبر سيول المياه المتدفقة من صنابير أفتحها لهم، تبتل مناماتهم البيضاء الموحدة، وعندما تزورني أميّ أطلب منها أن تحضر لي معها في كلِّ زيارة كمية من الورق.
لم أعرف لماذا انقطعت زياراتها منذ فترة ؟!
لكنني ظللت أصنع عشرات السفن الورقيّة، أطلقها مع تيارات المياه العابرة، أتابع الغيمات، أفتش السماء لعلّ أبي يعود برفقته أخي، أرنو إلى أقواس قزح، ألاحقها ربما تكون شمس مختبئة خلف أطيافه، تخضّب أناملها باللون البرتقالي، وتغزل جدائل شعرها بألق الضوء، لعلّها تجيء في سفينة من سفائني المبحرة، أو مع الغيم عند تساقط المطر.