سلمان زين الدين |لبنان
لعل الدرس الأهم الذي يخرج به قارئ رواية “ما بين البرزخين” للكاتب الليبي عبدالله الغزال هو أن الاستعمار والاستبداد وجهان لعملة واحدة. وإذا كان الأول يحتل الأرض، والثاني يستعبد الإنسان، فإن تحرير الأرض من الاستعمار يبقى ناقصاً ما لم يستكمل بتحرر الإنسان من الاستبداد، ذلك أن المعركة واحدة وإن اختلفت أطرافها وأسلحتها.
هكذا يستهل عبدالله الغزال روايته “ما بين البرزخين” (مؤسسة الانتشار العربي 2024) تلميحاً، في سياق المتن، وتصريحاً في نهايته. فالكهل الذي يتصدى، منذ عقد، لاستبداد النظام الليبي السابق ومرتزقته، خلال اقتحامهم مدينته مصراتة، يتحد جسداً وروحاً مع جده الذي تصدى للاستعمار الإيطالي، منذ قرن من الزمان، “لقد صار كياناً واحداً مع جده. التحما في روح واحدة وجسد واحد جليل”، على حد تعبيره (ص 249). والغزال روائي وقاص ومهندس وأستاذ جامعي ليبي، سبق له أن نال جائزة الشارقة للإبداع العربي في عام 2004 عن روايته “التابوت”، وجائزة راشد بن حمد للإبداع عام 2020 عن روايته “أجنحة الماء والطين”، ويشغل موقعاً متقدماً على خريطة الرواية الليبية. أما الرواية فهي السابعة له، بعد “التابوت” 2003، “القوقعة” 2006، “الخوف أبقاني حياً” 2008، “كناش الخوف” 2018، “أجنحة الماء والطين” 2020، و”كيف تقتل امرأة” 2024، والحبل على الجرار.
بالدخول إلى الرواية من عتبة العنوان، نشير إلى أن البرزخ في الأدبيات الدينية هو العالم الفاصل بين الموت والقيامة، أي إنه عالم انتقالي بين عالم الحياة الواقعي، وعالم القيامة الافتراضي، وهو ما يجد تجسيده في المتن الروائي الذي ينطلق من وقائع تاريخية مادية، تتمظهر في مقارعة الاستعمار الإيطالي ومقاومة الاستبداد الليبي، في لحظتين تاريخيتين مختلفتين، يفصل بينهما قرن من الزمان، إلى سيناريوهات حكائية غرائبية متخيلة، تتمظهر في حكاية بطل الرواية والشخوص الأخرى المتعالقة معه. أما البرزخان في المتن فهما العشق والحرب (ص 39)، وما بينهما “تيه محيط والنجاة منه عسيرة” (ص 84). وهما، على ما بينهما من بعد، “يلتقيان في لحظات خارقة حميمية مهما غامت الصور ومهما كان حكمنا على الأشياء” (ص 188). وبين هذين البرزخين تتحرك الشخصية المحورية في الرواية والشخوص المتعالقة معها، ممن يدور حولها السرد منتقلاً من شخصية إلى أخرى، وفق إيقاع محدد تتحقق بموجبه روائية الحكاية.
شخوص وأفكار
“ما بين البرزخين” رواية شخوص وليست رواية أحداث، ذلك أن الأخيرة، على ندرتها، هي مجرد منطلق للكلام على الشخصية وكيفية تفاعلها مع أحداث سبق لها أن عاشتها أو سمعت بها، فيأتي السرد ليصور ما بعد الحدث ومفاعيله على هذه الشخصية أو تلك، ناهيك بأن الرواية هي رواية أفكار أيضاً، من خلال التنبؤات والرؤى والوصايا التي تجترحها بعض الشخوص الغامضة، غير الواقعية، في الرواية. وبذلك، يفرد السرد صفحات كثيرة للشخصية المحورية في الرواية، ويرصد حركتها في الخارج، وتوغلها في الداخل، ويأتي على حركاتها والسكنات، ويصف كل ما يتعلق بها بتفاصيله والجزئيات، فيبدو كأنه يدور في حلقة مفرغة، لا سيما حين لا يكون هناك أحداث تنمو، ما يجعل حركته أفقية، ينتقل فيها السارد من شخصية إلى أخرى، دون الاهتمام بحبك أحداث وبلوغ ذروة واجتراح حل، مما نقع عليه في الرواية التقليدية. ولعل هذا ما يفسر أن الرواية تبدأ من حيث تنتهي، على المستوى الوقائعي، وتنتهي من حيث تبدأ، على المستوى النصي. فالبداية النصية هي النهاية الوقائعية، والعكس صحيح.
البداية والنهاية كلتاهما تقدمان لنا الشخصية المحورية في وضعية حرجة، على شفا الموت، فالكهل، المحارب/ العاشق، منطرح على الأرض، في الدار الحجرية التي بناها معلمه وأبوه الروحي الكاهن العظيم، تحت سفح جبل النار. يئن أنيناً وحشياً، ويعجز عن الوقوف، ويبصق الدم المتخثر، ويعاني جرحاً قديماً جراء مشاركته في معركة شارع طرابلس ضد مرتزقة النظام، وجرحاً جديداً أصيب به في إحدى معارك الصحراء. يترجح بين اليقظة والغيبوبة، ويستحضر في غيبوبته وجوهاً أحبها، ويشارف الموت. وتقدمان لنا حبيبته الراهبة، ابنة الكاهن العظيم، تضمه إلى صدرها بجنون، وتلقي عليه ضفائرها، وتنتظم في بكاء مرير، وتنشج نشيجاً يشبه النواح، وترجع الألحان الحزينة، في مشهد وداع مؤثر.
وبين البداية والنهاية، مجموعة من الشخوص الروائية، تتمحور حول شخصية الكهل المحورية، وتتعالق معها، بصورة أو بأخرى، على أن محورية الكهل هي كمية بحيث تشغل المساحة الأكبر من السرد وليست نوعية باعتبارها تتأثر بالشخوص الأخرى أكثر مما تؤثر فيها، على رغم أن الكهل محارب شجاع يلعب دوراً قيادياً في التصدي لقوات النظام والدفاع عن مدينته مصراتة، ويبدي تجلداً في مواجهة المصائب التي تنزل عليه. ولعل السبب في تأثره بالشخوص الأخرى أكثر من تأثيره فيها يعود إلى طبيعة هذه الشخوص المختلفة. في هذا السياق، تبدو العلاقة بين الكهل والكاهن العظيم علاقة بين باحث عن اليقين ومرشده الروحي، لا سيما أن الأخير شخصية غامضة، فوق واقعية، زاهد في الدنيا، معتزل الناس، يقيم في داره الحجرية في جبل النار، ويعلم المستقبل، ويجترح النبوءات، ويحيط الكهل برعايته واهتمامه، ويطلق على مسامعه الأقوال حمالة الأوجه التي تؤثر في الكهل وتوجه تصرفاته. لذلك، نراه يخشى الوقوع في الحب، ويهرب من الانغماس في التجربة، وحين تزل به القدم، ذات لحظة إغواء، يبادر إلى الفرار، ويرزح تحت شعور ثقيل بالذنب. ولعل الأفكار الكثيرة التي يجترحها الكاهن العراف، في حوارات متخيلة مع الكهل، والأسئلة التي يطرحها حول الله والوجود والدنيا والإنسان والحياة والموت والنفس والظاهر والباطن والذات والوجه والقلب وغيرها، مما يحتمل التفكير الفلسفي هي التي تدفعنا إلى وصف الرواية بأنها رواية أفكار إضافة إلى كونها رواية أشخاص.
في السياق نفسه، تبدو علاقة الكهل بالشيخ الأعمى العراف الذي يطلع له في السوق، وهو شخصية غامضة بدورها، ويرشقه بمجموعة من التوقعات، تنويعاً على علاقته بالكاهن، مع فارق أن هذه العلاقة الأخيرة كانت عابرة فيما علاقته بالكاهن ترافقه حتى النهاية، سواء بصورة مباشرة أو باستحضار وجهه في رؤى بعينها. وفي الحالتين، يبدو الكهل في موقع المتلقي، الذي يحفظ الوصايا، ويسترشد بها في حياته. أما علاقته بالراهبة التي تختزل برزخ العشق في الرواية، فلا تخرج عن العلاقتين السابقتين، من حيث التأثر والتأثير، فيبدو هو في موقع من يقع عليه الفعل، تدفعه نبوءات الكاهن والعراف إلى الإحجام عن الفعل، وعدم التعبير عما يعتمل في كيانه من مشاعر الحب والعشق، بينما تبدو هي في موقع الفاعل الذي يمسك بزمام المبادرة، والقدرة على الإقدام. لذلك، لا تتورع عن إغوائه، في لحظة عشق، حتى إذا ما سقط في براثن إغوائها، واكتشف هول ما وقع فيه، يولي الأدبار، ويترجح بين الاصطلاء بدفء العشق والاحتراق بنار الشعور بالذنب. وعليه، إن الكهل الذي يعبر برزخ الحرب بنجاح، ويبلي فيه البلاء الحسن، يفشل في عبور برزخ العشق ويغرق في وحول الشعور بالذنب المتحركة.
حكائية وروائية
بين حكائية غرائبية وروائية مقتصدة، تتموضع “ما بين البرزخين”، وهي نتاج العلاقة الجدلية بين هاتين الخصيصتين اللتين لكل منهما تمظهراتها في النص، ودورها في تشكيل الرواية. أما الحكائية فتتمظهر في العنوان غير الواقعي. وفي الأزمنة الروائية غير المحددة. وفي الأمكنة الروائية العامة من قبيل: الجرف الصخري والدار الحجرية والشعب الغائر وجبل النار والمدافن، وغيرها. وفي الشخوص الروائية الغامضة الغريبة غير المسماة بأسماء العلم من قبيل: الكهل المحارب والكاهن العظيم والعراب الأعمى والراهبة الصبية، وغيرها، وفي طبيعة المادة المسرودة من قبيل: الرؤى والأحلام والكوابيس والوقائع والذكريات، وغيرها. وفي نسبة المادة المروية إلى الرواة وأهل الخبر ورواة السير. أما الروائية فتتمظهر في المسار الأفقي، ونسف الحبكة الروائية، وكسر خطية الزمن، وتوزيع المادة المروية على الفصول المختلفة، وتعدد مستويات اللغة، وتنوع طبيعة المادة المسرودة، وتسمية الأماكن الروائية بالاسم العلم، والاحتفاء بالتفاصيل والجزئيات، والتحرك بين الخارج والداخل وغيرها. وبنتيجة التفاعل بين التمظهرات المختلفة، استطاع عبدالله الغزال أن يقدم نصاً روائياً مختلفاً، تتعب قراءته، لكنها تمتع في الوقت نفسه.
إندبندت عربية | الثلاثاء 20 أغسطس 2024م