أسامة فاروق | مصر
في ليلته الأولى في سيينا الإيطالية، حلم هشام مطر بالغرق، بل الاضمحلال، حسب تعبيره الأدق. أنه تعمق بعيداً في البحر وابتعدت اليابسة حتى غدت المدينة هي الأفق، فزادت دقات قلبه وبدأ يشعر بأنه يتلاشى ويضمحل… “أتسرب إلى الماء”. وهو بالتحديد ما جرى له خلال أيامه التالية في المدينة، تسرب إليها وقاده التيار للغياب في عمق شوارعها وأزقتها ومتاحفها وحتى مقبرتها.
في كتابه “شهر في سيينا” الذي سجل فيه تفاصيل الرحلة كاملة، نعرف أنه حَلم بهذه الزيارة زمناً طويلاً، بعدما فتن بالمدرسة السيينية للرسم في التاسعة عشرة من عمره عندما كان طالباً في جامعة لندن، بالتحديد في العام الذي فقد فيه والده، وهي حكاية مؤلمة فصّلها في كتاب “العودة” لكنه يوجزها هنا في سطور معدودة “كان يعيش في المنفى في القاهرة، وذات أصيل اختُطِف، زُجَّ به في طائرة بلا معالم وطارت عائدة به إلى ليبيا. أودع السجن، وشيئاً فشيئاً مثلما يذيب المرء ملحاً في الماء اختفى أبي عن الأنظار”. داوم بعدها لأسباب ما زال يجهلها على زيارة المعرض الوطني بلندن، يختار كل مرة لوحة واحدة فقط للتأمل. في البداية عندما واجه تلك اللوحات لم يفهمها، شعر وكأنها “تنتمي إلى عالم متوحد من الشفار والرموز المسيحية” فكر في أنه ربما يحتاج لترجمة، أنه غير مستعد بعد.
الوقت المناسب
تعمق الفضول على مدى عقدين ونصف حتى أضحت الصور بمثابة “ضرورة” كما يصفها، لكنها ظلت عصية على الفهم. خلال هذه العقود، عاد هشام مطر إلى ليبيا في رحلة للبحث عن والده وثقها في الكتاب الذي سبق أن أشرنا إليه وحصد جائزة بوليتزر. بعدها مباشرة قرر القيام بالزيارة الحلم إلى سيينا التي يقول إنها تمّت في نقطة الالتقاء بين حدثين متناقضين “الإنجاز المشرق المتمثل في الانتهاء من كتاب، والاكتمال القاتم للإمكانية التي بات لا مفر منها الآن، وهي أنني سأعيش بقية أيامي من دون أن أعرف أبداً ما حل بوالدي، كيف مات أو متى، وأين يمكن أن يكون رفاته”.
رغم ذلك كان الوقت المثالي للزيارة، فوقتها فقط فهم اللوحات أو فلنقُل عرف المدخل إليها. احتاج نحو ثلاثة عقود وتجربة فقد بالغة القسوة ليدرك أن “حياة المُشاهد الشخصية مطلوبة لإكمال الصورة”. لذا فإنه وعلى امتداد صفحات الكتاب لا يشاركنا تصوراته حول ما يراه فقط، ولا يفسر اللوحات بالتفسيرات الشائعة أو يستعرض المعلومات التي يمكن الوصول إليها من الكتب أو الانترنت وغيرها من مصادر المعرفة، بل ما يفكر فيه ويحلم به مهما كان بعيداً أو غير ذي صله، يقارب اللوحات ذاتياً، يشرح تأثيراتها اللحظية عليه ورسائلها المضمرة إليه ويطبقها في الوقت نفسه على حياته…علاقته بزوجته وبوالده ووطنه، وهو ما يجعل الكتابة قريبة وحميمية.
الاتصال بالمحبوب
علاقته بديانا زوجته التي يشكك في إمكانية وصفها، ترسم مسار الرحلة، يفسر على إثرها تجربته كلها “أصبحت أشك… في ما إذا كنت سأكتب شيئاً أو سأتمكن من كتابة شيء أبداً لو لم أحب قط”، فوحدهما الحب والفن هما ما يحققا الخلاص أو الاستيلاء الكامل في نظره، أن يلج وجهة نظر شخص آخر، من هنا يقرأ “آثار الحكومة الصالحة” للورنزيتي أو “داوود ورأس جالوت” لكارفاجيو وكل ما يراه في سيينا، أو ربما تاريخ الفن بمجمله “إشارة أمل وكذلك إشارة رغبة، كشف توق الروح السري إلى الاتصال بالمحبوب، إلى رؤية العالم بعينه”.
يتساءل مثلاً كيف بدت لزوجته لوحة “آثار الحكومة الصالحة” في معرض حديثة عن زيارته لقصر بالازو يبليكو الذي يضم قاعة التسعة، حيث يجتمع مجلس الحكام للفصل في المهام التنفيذية ومناقشة قضايا الحكم، وهي القاعة التي نفذ فيها أمبروجيو لورنزيتي جداريته الشهيرة. ويحكي في الوقت نفسه حكاية المدينة المتفردة التي آثرت الحكم المدني حتى قبل أن تصبح إيطاليا دولة، حينما كانت تتألف من ولايات مستقلة يحكمها ملوك يؤثرون نفوذ الأرستقراطيين والكنيسة الكاثوليكية. أنشئت المدينة في العام 1125 واستمرت طوال الأربعمئة سنة التي شهدت ازدهار المدرسة السيينية. كانت مركزاً حيوياً للتبادل الاقتصادي للبضائع، واستفادت من النجاح الزراعي للأراضي المحيطة بها وأصبحت مركزاً مصرفياً، محققة عوائد طائلة من إقراضها البابوية. كانت حكومة سيينا العلمانية هي التي تدير خيوط الحكم متمتعة بدرجة عالية من الاستقلال عن السلطة الكنسية. أخذت تحدد ضرائبها الخاصة بنفسها وتحصلها، وتسن قوانينها الخاصة وتفرضها. كانت المدينة غنية، حسنة الإدارة، وديموقراطية وفق معايير ذلك العصر.
في قاعة التسعة رسم لورنزيتي جداريته “آثار الحكومة الصالحة” و”آثار الحكومة الفاسدة”: إحداهما تحاكي كيف سيغدو العالم إن اتبعت نصيحة اللوحة المركزية، والأخرى تحاكي كيف سيغدو العالم إن لم تتبع النصيحة. في الأولى تظهر مدينة عادلة ومزدهرة وآمنة ومتآلفة، في حين تظهر الثانية غياب العدالة وسيطرة الطغيان الذي صور على أنه شيطان خنثوي “ذكرني برسوم الغرافيتي التي غطت الجدران في كل مكان في أنحاء طرابلس ساخرة من الديكتاتور الليبي المهزوم معمر القذافي”. استعداء يجر في أذياله ذكريات أخرى، فيتذكر هشام والده كثير الأسفار الذي يجيد الإيطالية ولا يجد مشكلة في إسعاد نفسه، وفى الوقت ذاته يشعر بالامتلاء، وأنه بالتجول في تلك الأماكن ومطالعة تلك اللوحات قد سبقه وتفوق عليه وأن “التلميذ بَزَّ معلمه”.
أمل
زاوية الرؤية تشغله على امتداد الكتاب، يتوقف أمام لوحة “مادونا دي فرنشيسكاني” التي يُعتقد أن دوتشو رسمها قرابة العام 1290 قبل أن يصبح فنان المدينة الأعظم، ويضع تصوراته عن اللوحة التي تجسد العذراء مريم وابنها يسوع، فيقول إن ثوب الأم العذراء الأسود “شيء من حيز ثانوي في الفضاء الأوسط، كأنها مدخل إلى واقع آخر، أو تميط اللثام عن فضاء خاص، فضاء يحمل ميزة وجودها بعينها، هشاشته البائسة التي تقارن هنا بقوة ابنها العظيم، الذي مع أنه ما زال طفلاً، يدرك ثقل كيانه وقوته”.
ثم يتساءل كيف كان سينظر للوحة لو كان مسيحياً؟ وماذا لو كان مسيحياً تجاوز إيمانه وأبقاه خلف ظهره. بل يمد الخيط فيتأمل كيف أن أحدهم قد يعتبر افتتانه، وهو العربي المسلم القادم من الشرق باللوحة، نوعاً من الخيانة! خصوصاًً في هذا الزمن الذي ظل مدة طويلة مشغولاً بالفروق والإدانات والدوافع السيئة “كأن هدف التاريخ هو أن نثبت أننا محقون، أننا نحب الله أكثر، أننا أصدق وأكثر إنسانية، كأن الروحانية ليست شأناً خاصاً بالقلب”. من هنا تحديداً يقرر أن ينفض عنه هذه الأفكار كلها، وأن يتعامل مع اللوحة وكأنها رسمت من أجله، كأن أخاً له رسمها “ليس فقط لأن دوتشو مثل كل الرجال والنساء أخ من بني البشر، بل أيضاً لأنه كان واضحاً لي أنه لم يقصد أن تقرأ لوحته من وجهة نظر الانتماء أو الولاء، بل بالأصح من الموقع البسيط لكون المرء إنساناً”. وهي الفكرة التي كان قد بدأ بها الكتاب حيث اعتبر المدرسة السيينية مفعمة بالأمل وتعمق الإيمان بأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا.
متحف خيالي
تصبغ الرؤية الفلسفية العميقة غالبية مشاهداته في المدينة، فيصبح السور الذي يطوقها حجاباً روحياً لا حاجزا لصد الجيوش الغازية فقط، وساحة “دل كامبو” التي تتوسطها وكأنها وعد بسعادة منتظرة، مكاناً تستطيع من خلاله رؤية كل شيء وأن تُرى في الوقت نفسه “مكاناً للكشف المتبادل”، ومشاركة رمزية في رقصة متخيلة ممتدة عبر العصور “فن يرمي إلى تذكير جميع الكائنين في عزلة بأنه ليس محبذاً ولا ممكناص أن يخبروا الوجود في وحدة مطلقة”. كل تلك الرؤى والمشاهد الشخصية تشكل في مجموعها غرف في متحف خيالي “صورة آسرة لحياة فرد أو مجموعة من الأفراد الذين تشابكت مساراتهم تشابكا متينا كاعتراش الكرم”.
بحث هشام دائماً عن الرفقة، تجول مع معلمته من مدرسة اختارها لتعلم الإيطالية، وزار عائلة عربية وجالس مهاجرة عابرة تحلم بزيارة الوطن، ولم تفتنه الوحدة إلا في مقعده السري بمقبرة المدينة حيث جلس ليراقب المشهد المفتوح على الوادي، حينها فقط أدرك أنه لم يأت إلى سيينا لمشاهدة اللوحات فقط “لقد جئت أيضاً لأحزن وحدي، لأتأمل الأرض الجديدة ولأعرف كيف يمكنني استئناف الطريق من هنا”.
(*) هشام مطر
ولد في نيويورك لأبوين ليبيَين. عاش طفولته بين طرابلس والقاهرة، ويقيم في لندن. له ثلاث روايات هي: “في بلد الرجال” التي وصلت للائحة القصيرة لجائزة مان بوكر، و”أصدقائي” التي وصلت مؤخراً للائحة الطويلة للجائزة نفسها، كما حصدت جائزة “أورويل”. ورواية “اختفاء”. له سيرتان: “العودة” التي حصدت جوائز عديدة منها بوليتزر، و”شهر في سيينا” وهي سيرته الثانية وصدرت ترجمتها العربية مؤخراً عن دار الشروق بترجمة زوينة آل تويه.
المدن | الأربعاء 2024/09/04