قصة

المكالمة

من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

على صوت المحمول استيقظ مراد، مستغربا تمكن هاتفه من التقاط الإشارة، فالتغطية في مقر الشركة سيئة جدًا، وكثيرًا ما كانت مقطوعة..

كان رقمًا لم يعرفه، رد على مهل وجاءه صوت جار لهم لم يسمع عنه منذ سنين قائلًا:

– مراد أنا جاركم منصور، سامحني عالفجعة! لكن را هلك كلهم ماتوا الفجر، ولعت فيهم النار وما طلع فيهم حي!!!

وكأن الصوت قادم من بعد آخر، انتفض جسده وشعر بالعالم يسقط على رأسه! لم يجد لسانه الكلمات التي تصلح للرد، انهالت الذكريات تغمره… الفزع يسدد له اللكمات، فلا يدري أي عضو فيه يؤلمه… غصة واختناق، شعور بالدوار وغياب عن الواقع… يد تهزه وأخرى تلتقط الهاتف، صوت يردد: شنو فيه… دموع تنهمر ليس مصدرها عيناه وحسب… سقط على ركبتيه… الصوت يردد: في منو يا مراد في منو؟… صوت آخر: ألو يا سالم، شن صاير عندكم؟ مراد في حالة راه…

هنا ينقطع كل شيء… كأن الروح التي كانت تنسحب منه… قبل ثواني عادت لتصدمه بقوة… هل قال سالم … قلت سالم .. نهب الهاتف من يد صديقه: ألو سالم… أتاه صوت شقيقه متلهفا يقطر خوفا: خيرك يا ولد شن فيه؟ شيطت ريقهم الجماعة …

لم يعلم مراد هل هو في حلم؟… هل كان الاتصال حلمًا؟… خنقت الدموع صوته وسبقت عبرته كلماته، أخذ وقته قبل أن يتمكن من النطق:

– اتصل بيا منصور..

– الله لا تربحه خيره المريض والله إلا بنقتله غير نروح..

– منو منصور؟

– منصور الأشهب جارنا… تي قالي حوشكم كله ولعت فيه النار، وما زاد منهم حد… الله لا تربحه الله يقطعه..

رد سالم مستغربا:

– بلكي غلطان ما يديرهاش منصور انظني .. خلي نشوف الموضوع ونقولك …

ما قيل في المكالمة غير هذا، كان هذيان لا يذكر مراد منه إلا رائحة أخاه، عطره المالح الذي يعانقه ما أن يدخل غرفته، تختلط مع رائحة تبغ لم ينجح عطره الذي يأخذ نصف مرتبه في إخفاءها عن أمهما خليط محبب يخبره بأن أخاه هنا لا يزال.. لا زال كتفه سنده لا زالت ضحكات أخواته الصغيرات تملأ دارهم .. لا زالت شجرة الحناء تنشر عبيرها ومواء قطتهم الكسلى على جدار الفناء.. يقف في أعلى الدرج الذي يقود لوسط البيت فيرى جزء كبير من شارعه… إن الفقد مر.. فقد والده حين كان مراهقا.. بكى كثيرا وبقيت هذه الفجوة وسط قلبه تغور كل عيد وكل لقاء مع أهله… لا شيء يحل محلهم لا شيء… صوت المحمول مجددا … رقم سالم الحبيب … رد بلهفة ليخبر قلبه بأنهم لا زالوا هنا .. قال سالم بصوت حنون … اللي كلمك عتيق الهبل راه مش عمي منصور … قال يبي يديرلك مقلب … ضحك مراد ملء قلبه ضحك كما لم يضحك يوما … ضحك وهو يسير مسرعا …سيحصل على إجازة اليوم سيذهب ليحتضن أمه ليحتضن أخاه ليعانق أخواته ليشم رائحتهم لقد فقدهم لثواني وكاد يموت لا شيء سيشفيه إلا وجودهم لا شيء.

مقالات ذات علاقة

الإمــكـان

محمد الزنتاني

وادي لبخوت

آية الوشيش

يس …. يم

عزة المقهور

اترك تعليق