عزيز باكوش | المغرب
بين يدي الآن كتاب ” مختارات نثرية ” للعظيم ألكسندر بوشكين. نسخة من القطع الصغير في 400 صفحة صادرة عن دار رادوغا موسكو ضمن سلسلة أعلام الأدب الروسي. وكنت اقتنيت هذه النسخة من مكتبة متنقلة بالبطحاء بفاس – المغرب- فبراير من عام 1994. وعزمت على إنجاز تقديم عاشق لها خلال عطلة خريف وشتاء 2023 بكندا. إلا أن الظروف لم تكن ملائمة لتحقيق هذا الشغف الجميل. يشتمل المؤلف على مقدمة في شكل كلمة عن الشاعر ألكسندر بوشكين في الذكرى 150 لميلاده بقلم ألكسندر تفاردوفسكي، يليها أضمومة من القصص الرائعة -المرحوم بيتروفيتش بلينكين – الطلقة –عاصفة ثلجية –صانع التوابيت- ناظر المحطة -ابنة السيد – الفلاحة- دوبروفسكي – ترجمة أبوبكر يوسف ” ابنة الآمر” ترجمة غائب طعمة فرمان.
وسأركز في هذه التحويمة على قصة -ابنة الآمر- وفيها يتوغل ألكسندر بوشكين عميقا في أدغال المجتمع الروسي خلال تلك الحقبة. وينجح في لملمة تفاصيل الحياة وتناقضاتها في المجتمع الروسي. ويقدمها من منظور ذكي قابل للتفكيك والمساءلة يبدو فيها الواقع أقرب إلى الخيال. حيث شكلت الانتفاضات الشعبية أو ثورة الفلاحين بالنسبة لبوشكين موضوع قلق ذاتي خاص. فمنذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، تأكد أن فكره وتأملاته ستقوده حتما إلى انتفاضة ايميليان بوغاتشوف 1744- 1775 ولتحقيق ذلك، شرع في دراسة مواد الأرشيف. وسافر إلى الأماكن التي شملتها الانتفاضة كما تحدث إلى شهود عيان. وفي نفس الوقت، كان يكتب روايته التاريخية “ابنة الآمر” والمؤلف التاريخي “تاريخ تمرد بوغاتشوف”
ويأتي خريف 1836 حين تكتمل رواية “ابنة الآمر” التي سيقول عنها الكاتب الروسي العظيم نيكولاي غوغول “أفضل عمل من النوع القصصي. وسيضيف إنها النقاء والخلو من التصنع ارتفعا فيها إلى أسمى درجة حتى أن الواقع نفسه يبدو متصنعا وكاريكاتوريا ” وليسمح لي القارئ كي أضيف كعاشق متيم بالأدب الروسي أن هذه القصة تتجلى فيها عبقرية بوشكين الملهمة في تحليل النفس الإنسانية وتفكيكها عبر سبر أغوار الشخصيات والتغلغل في أعماقها في ارتباط واع بالسياق التاريخي للأحداث. حيث يتقاطع الخير والشر الوفاء والخذلان الحرب والسلام الصفاء والغدر في حياة الناس. ثمة قدرة مذهلة لبوشكين على الوصف وتطعيم خيال المشاهد. وترجيح سخرية المواقف بالزخم والحماس وإبرازها بذكاء لا يقاوم
تحكي -ابنة الآمر – قصة رجل يدعى أندريه بيتروفيتش المستقيل من الجيش برتبة نقيب. عاش في قرية سيمبيريسك بعد أن تزوج ابنة نبيل معدم. وأنجب معها تسعة من البنين والبنات مات أغلبهم في الطفولة. وكانت الأم حاملة حين سجلوا الإبن ” بيتر” رقيبا في الجيش. لنا أن نتصور مقدار الاستهتار والبيروقراطية في العمل الإداري الذي يسجل وليدا برتبة عسكرية وهو لا زال في بطن أمه. وذلك بوساطة من رائد الحرس الأميري. وفي سن السابعة عشرة، سيسافر بيتر إلى أورونبورغ للعمل في الجيش تحت امرة صديق لوالده. على أمل ألا ينقطع حبل الود بين بيتر ووالديه عبر المراسلة والإخبار بكل المستجدات طوال إقامته هناك.
وفي بيت فاسيليفيا ايغوروفنا زوجة الآمر ايفان كوزميتش التي تنظر إلى الخدمة العسكرية كما تنظر إلى الخدمة المنزلية، بمعنى أنها تدبر شؤون القلعة على النحو الذي تدير به منزلها. دعي بيتر أندري بيتروفيتش للغذاء. وهنا سيتعرف على ماشا (ماريا إيفانوفنا) وهي فتاة في نحو 18 عشرة من العمر مدورة الوجه موردة الوجنتين شعرها الأشقر الوضاء قد سرح بنعومة وراء أذنيها المتوهجتين. لم تعجبني في النظرة الأولى يقول بيتر. فقد نظرت إليها بتحفظ. لأن شفابرين ضابط في القلعة وصف لي ماشا ابنة الآمر كفتاة حمقاء تماما وجبانة. فهي تكاد تفارق الحياة من شدة الخوف من صوت المدفع . وكانت أسرتها والد ووالدة ماشا يعيشان على وقع مصيبة واحدة. وهي أن ماشا في سن الزواج تقول فاسيليا إيغوروفنا زوجة الآمر. ولا نملك لها مهرا. وسيكون من اللطف لو وجدنا لها رجلا طيبا، وإلا ستظل عانسا طوال عمرها “
في هذه الاثناء، تردد في المدينة أن “الباشكيريون” يستعدون للهجوم على قلعة بيلوغيرسك. وسرعان ما تخلت ماريا ايفانوفنا عن خجلها، فوجد فيها بيتر فتاة متعلقة ورقيقة المشاعر. فتعلق بها كما بأسرتها ولأن الخدمة في القلعة لم تكن مرهقة، فقد وجد بيتر الوقت الكافي للقراءة والتمرن على الترجمة ونظم الشعر. لكن شافابرين كان يعاكسه كما كان يعاكس ماشا قائلا “إذا كنت راغبا في أن تأتيك ماشا عند هبوط الظلام فقم بإهدائها زوجا من الأقراط بدلا من الأشعار الركيكة. لكن بسبب مشاحنة حول أغنية كتبها بيتر دعاه شافابرين للمبارزة وراء أكداس الدريس القريبة من القلعة. وأثناء المبارزة، أحس بيتر بوخزة قوية في الصدر أسفل كتفه الأيمن. وسقط مغشيا عليه. ليجد نفسه طريحا في بيت الآمر. وماريا ايفانوفنا تحييه بصوت ملائكي وتقبله. وتملكه شعور عذب آنذاك. وأحس بقبلتها الحارة الغضة. وقال لها ” يا عزيزتي ماريا ايفانوفنا الطيبة، كوني زوجتي واقبلي أن تسعديني ” كانت تحبه وملكت هذه الفكرة كل كيانه.
نسيت أن أخبر القراء بأن مربي وخادم السيد أندري بيترو فيتش قد رافق بيتر في رحلته وترتيب شؤون عيشه ومراهقته وتحضيره للعمل في الجيش. وكان حاضرا لحظة المبارزة. فكتب لوالد بيتر رسالة جوابية مؤثرة هذه بعض تفاصيلها “جناب السيد اندريه بتروفيتش، أبانا الرحيم. تلقيت رسالتكم الكريمة التي أبديتم فيها سخطكم علي، أنا عبدكم، لأن من العار ألا أنفذ أوامر سادتي لست بالكلب الهرم، بل خادمكم الوفي أطيع أوامر سادتي، وقد خدمتكم بحماس دائما وقضيت حياتي معكم حتى ابيض شعري. لم أكتب لكم عن جرح بيتر اندريفيتش خشية أن اخيفكم دون فائدة، وقد سمعت أن السيدة امنا افدوتيا فاسيليفنا قد وقعت مريضة من شدة الفزع. سأصلى للرب ليمنحها الصحة. لقد جرح بيتر ابنكم اندريفيتش في الصدر تحت عظم الكتف الأيمن مباشرة، كان يرقد في بيت الأمر، وقد نقلناه إليه من شاطئ النهر، وعالجه حلاق القلعة ستيبان بارامونوف، وبيتر اندريفيتش معافى الآن، والحمد لله، وليس عندي ما أكتبه عنه غير الأخبار الحسنة. وسمعت أن الضباط راضون عنه، وهو عند فاسيليسا يغوروفنا بمثابة ابنها. أما أن تحصل له تلك الحادثة غير المتوقعة فلكل شاب هفوة، فإن الحصان يكبو وهو ذي أربع قوائم. أما ما كتبتم من أنكم سترسلونني أرعى الخنازير، فإن ذلك رهن بإرادتكم كأسياد. وانحني لكم عبدا عبدكم الأمين ارخيب سافيليف.”
يخاطب أندري بيتروفيتش ابنه المتهور بيتر قائلا ولدى بيتر. تلقينا في الخامس عشر من هذا الشهر رسالتك التي تطلب فيها مباركتنا الأبوية وموافقتنا على الزواج من ماريا ايفانوفنا، ابنة ميرونوف. ليس في نيتي أن أمنحك مبارکتي ولا موافقتي، وفضلا عن ذلك انوى أن أعاقبك على نزواتك كما يعاقب الصبي، رغم رتبتك كضابط، لأنك برهنت على أنك غير أهل لحمل السيف الذي وهب لك للدفاع عن الوطن لا للمبارزة الطائشين من أمثالك. سأكتب إلى أندريه كارلوفيتش راجيا إياه أن ينقلك من قلعة بيلوغورسك، إلى مكان أبعد يفرغ الحماقة من عقلك. مرضت أمك حين سمعت بمبارزتك وبجرحك، وهي الآن طريحة فراش. ماذا سيكون منك؟ أدعو الله أن يهديك أبني لا أجرؤ على الأمل في أن يشملك برحمته الواسعة “
وينقلنا بوشكين بسلاسة إلى إحدى الأمسيات. حيث كان بيتر أندوفيتش يجلس وحيدا في مسكنه يطل من النافذة ويستمع لعويل الريح. وينظر إلى السحب المتراكضة حاجبة القمر، حتى سمع أمرا عسكريا إنهم يستدعونه باسم آمر القلعة. توجه على الفور، فوجد هناك شفابرين وايفان وضابط الصف القوقازي ولم تكن هناك فاسيليا يغوريفنا زوجة الآمر، ولا ماريا ايفانوفنا اللتين ذهبتا الى منزل القس لحضور قداس الأحد. كان القلق باديا على الوضع. لأن رسالة سرية من الجنرال إلى السيد آمر قلعة بيلوغورسكايا النقيب ميرونوف قلبت الأوضاع رأسا على عقب. وهذا مضمونها “أحيطكم علما بأن القوقازي من منطقة نهر الدون والخارج على الطائفة اسمه ايميليان بوغاتشوف الهارب من السجن. قد جمع شرذمة من الأشرار مبديا وقاحة شنيعة بانتحاله اسم الامبراطور الراحل بطرس الثالث. وأثار اضطرابات في قرى منطقة يايك. واستولى وعاث بعدة قلاع مقترفا في كل مكان أعمال النهب والقتل. وبناء على ذلك اتخذوا يا حضرة النقيب حال تسلمكم هذه الرسالة التدابير اللازمة، لدحر هذا الشرير والقضاء عليه كليا إن أمكن إذا تطاول على القلعة التي عهد بها إلى عنايتكم “
لكن ومنذ ذلك الحين تغير وضع بيتر. وكفت ماريا ايفانوفنا عن التكلم معه تقريبا، بل وراحت تتفاداه بمختلف الاعذار. وأصبح بيت الآمر غريبا عليه. وشيئا فشيئا تعلم ملازمة مسكنه وحيدا إ وصار لا يرى ايفان كوزميتش والد ماريا إلا حين تقتضي الخدمة العسكرية ذلك. ونادرا ما كان يلتقـي بشفابرين لا سيما وقد لاحظ أنه يضمر له كرها، وذلك ما أكد شکوکه. وأصبحت حياته لا تطاق. وانغمرت داخل بيتر أفكار سوداوية كانت تغذيها الوحدة والفراغ. وكان حبه لماريا يتأجج في العزلة، حتى فقد الرغبة في القراءة والأدب. وخارت عزیمته. وخشي أن يفقد عقله، أو ينغمس في الفجور. إلا أن أحداثا غير متوقعة تركت أثرها على مجمل حياته فيما بعد، بعثت في نفسه هزة شديدة نافعة”
كان الجاني بوغاتشوف قويا، بينما رجال قلعة الآمر بالكاد يتجاوزون مائة وثلاثين شخصا. وبعد يومين أخبر ضابط الصف الآمر أنه رآى ألسنة من النيران في السهب على بعد 60 فرسخا من القلعة. وأن قوة لا مثيل لها تزحف على القلعة. ولما كان هجوم بوغاتشوف على القلعة متوقعا بين لحظة وأخرى. قال بيتر للآمر متمثلا في نفسه مصير حبيبته ماريا ايفانوفنا «إن من الواجب الدفاع عن القلعة حتى آخر نفس، لكن ينبغي التفكير بسلامة النساء.” أرسلهن إلى أورونبورغ أذا كان الطريق إليها ما يزال مفتوحا أو إلى قلعة بعيدة أكثر أمانا لا يستطيع الأشرار الوصول إليها. لكن زوجة الآمر فاسيليا يغوروفنا ترفض الهروب وتصمم على البقاء والدفاع عن القلعة. في حين تقرر إرسال ماريا ايفانوفنا مع عرابتها إلى أورونبورغ. وقد بدت المسكينة شاحبة جراء فراق حبيبها بيتر. وفي عينيها آثار البكاء. وعند الباب استقبلته ماريا وسلمت عشيقها بيتر السيف الذي تعمد نسيانه. وقالت له بعينين دامعتين “وداعا يا بيتر أندروفيتش إنهم يرسلونني إلى أورونبورغ أرجو لك السلامة والسعادة. من يدري؟ قد يمكن الله علينا بأن نلتقي مرة أخرى إذا لم ….”وانفجرت باكية. رسم على شفتيها قبلة حارة وخرج مسرعا”
تتسارع الأحداث ويطوق أناس مجهولون القلعة، ويصل بوغاتشوف ويجهل مصير ماريا إيفانوفنا بعد أن قطع المهاجمون الطريق إلى أورونبورغ. كانت القلعة محاصرة والوضع سيء. وخاطب الأمير جنوده قائلا ” يا أبنائي، لنثبت اليوم في سبيل أمنا الإمبراطورة. ولنظهر للدنيا كلها أننا مقدامون حافظون للإيمان التي أقسمناها. وأبدى الجنود حماسهم، وصدرت الأوامر لايفانيفيتش بأن يوجه المدفع إلى حشدهم. وطارت القذيفة الأولى دون أن تلحق أي ضرر بالعدو. وظهر وراء المرتفع الواقع على بعد نصف فرسخ من القلعة تجمعات جديدة من الخيالة، وسرعان ما انزرع السهب بعدد كبير من المسلحين بالرماح والأقواس والنبال. بينما سار بينهم فارس على حصان أبيض في قفطان أحمر يمسك في يده سيفا مجردا كان ذلك بوغاتشوف القيصر نفسه. وقال الآمر لزوجته” خذي ماشا، ها هي ذي بين الحياة والموت. لا مكان للنساء هنا. فأخذ الرصاص ينز قرب الآذان، وانغرست السهام في الأرض. وقال الآمر بعد أن رسم علامة الصليب على جبين ماشا ثلاث مرات بصوت متغير” لتكن السعادة من نصيبك يا ماشا صلي للرب، ولن يتخلى عنك. وإذا وجدت زوجا طيبا، فانا أدعو الله لكما بالحب والوفاق عيشا مثلما عشنا نحن فاسيليا يغوريفنا وأنا والآن وداعا”
في تلك اللحظة، وصل المتمردون واقتحموا القلعة وألقى جنود الحامية السلاح وجرح الآمر في رأسه وخاطب بوغاتشوف الأهالي” ستنالون جزاءكم بسبب عدم خضوعكم. وجروا الناس ونكلوا بهم في الشوارع. وفجأة صاح الأهالي إن القيصر في الساحة ينتظر الأسرى. ويتقبل يمين الولاء. ونصبت مشنقة في الساحة على عجل. وقدموا الأسرى بيتر والعجوز الآمر ايفان كوزميتش إلى بوغاتشوف القيصر الجديد. الذي خاطبه ” كيف تجرأت على مقاومتي أنا قيصرك «لكن الآمر العجوز أجاب بصوت قوي “لست قيصري، بل أنت لص ودعي ” وما هي إلا دقيقة حتى كان الآمر المسكين مشنوقا معلقا في الهواء”
ولما جاء دور الفتى بيتر كرر نفس كلمات الآمر، لكن بوغاتشوف قال على الفور “اشنقوه، ثم وضعوا الأنشوطة على عنقه. وأخذ بيتر يقرأ الصلاة في سره وهم يسحبوه تحت المشنقة، وإذا به يسمع صرخة مربيه العجوز سافيليتش فجـأة «انتظروا يا ملاعين وقد ارتمى على قدمي بوغاتشوف. وراح هذا المربي المسكين يقول له “مولاي العزيز، ما حاجتك إلى أن تقتل سيدا صغير السن. أطلقه وسيعطونك فدية عنه” ثم لماذا لا تأمر رجالك بشنقي انا العجوز للعظة وبث الرعب.” ولما طلبوا من بيتر تقبيل يد بوغاتشوف كان يوثر أفضل إعدام على تقبيل يد هذا الحقير السافل الذي يدعى القيصرية وهو لص ليس إلا «. وفي تلك اللحظة، ارتفعت صيحة نسائية. كان بعض الأشقياء يجرون إلى المدخل زوجة الآمر فاسيليا يغوروفنا شعثاء الشعر مجردة من الثياب. وقد قع نظرها على زوجها معلقا في المشنقة وصاحت في أشد لحظات الغضب “أيها الأشرار ماذا فعلتم به؟ ياضيائي يا ايفا كوزميتش أيها الرأس المحارب. لم تنل منك حراب البروسيين ولا رصاص الترك. لم تصرع في معركة نزيهة بل قتلك مجرم هارب” لكن بوغاتشوف سيكون أكثر قسوة مما سبق «اسكتوا هذه الساحرة العجوز، وفي هذه اللحظة، ضرب قوقازي رأسها بالسيف، فوقعت صريعة على درجات المدخل؟
وتتطور الأحداث ويظل مصير ماريا ايفانوفنا يعذب بيتر اندريفيتش. أين هي وماذا حصل لها؟ وهل تمكنت من الاختفاء؟ وهل المكان الذي اختفت فيه مأمون؟ دخل بيت الآمر فوجد كل شيء فارغا المقاعد والمناضد والصناديق محطمة والأواني مهشمة. ودخل غرفة ماريا حبيبته كان سريرها قد عاث به اللصوص وخزانتها مكسورة، والسراج لا يزال مشتعلا. أين هي ربة هذا الخذر الوادع العفيف؟ وتصورها بين أيدي الأشقياء. وانكمش قلبه وبكى بكاء مرا. فيخرج مسرعا نحو بيت القس وهناك يسأل بقلق” بحق الرب أين ماريا ايفانوفنا؟ فتجيبه زوجة القس إنها عزيزتي راقدة في سريري بسلام والحمد لله “واتقاء لأي خطر محتمل تم تقديمها للجناة كأنها ابنة أخ العجوز. لقد شنق اللصوص الجميع، ايفان كوزميتش، وفاسيليا ايغوريفنا زوجته. وايفان اغناتيفيتش . ورأفوا بك يا بيتر يا إلاهي كيف يحصل هذا؟
إن الشبه بين بوغاتشوف ودليل بيتر في رحلته إلى القلعة للعمل بالجيش كان مذهلا. إنها الدهشة فعلا لقد أيقن بيتر أن بوغاتشوف ليس سوى دليله في رحلته وهو مجرد نصاب ولص. وقد أهداه معطفا . وفهم السبب في الرأفة التي شمله بها . فما كان بوسعه إلا أن يتعجب من تشابك الظروف. معطف صبي أهداه إلى متشرد أنقذه من حبل المشنقة. وفي أثناء ذلك، رأى خادمه سافيليتش يخرج من الحشد ويتقدم من بوغاتشوف بورقة تتضمن قائمة المسروقات التي غنمها اللصوص من بيت سيده بيتر، وضمنها معطف. تلا الرسالة أمام الجميع. فيرد بوغاتشوف بوحشية” كيف تجرأت التطاول علي؟ ثم يجب أن تدعو الله لي ولفتياني طوال عمرك أيها المتذمر الهرم؟ لأننا لم نشنقك أنت وسيدك. ساريك المعطف. هل تعرف أنني سآمر بسلخ جلدك حيا لأصنع منه معطفا؟ فيرد خادم بيتر “كما تريد، ولكنني رجل مأمور ومسؤول عن أمتعة سيده “
ويدخل بيتر مرحلة عصيبة من صراعه النفسي ضد الدعي بالتشوف الذي أصبح مسيطرا على القلعة من جهة، ثم إن البقاء في القلعة وهي تحت سيطرة الشرير بوغاتشوف أو مسايرة عصابته في القتل والنهب والاعتداءات الإجرامية على الأهالي لم يكن يليق بضابط في حجمه. ومن جهة ثانية كان حبه القوي لماريا إيفانوفنا يدعوه بقوة إلى أن يبقى بجانبها وأن يكون حاميها وحارسها.
في هذه الأثناء يعقد بوغاتشوف مجلسا حربيا جرى الحديث فيه عن الغارات ونجاح الانتفاضة وعما يتوجب القيام به. وتباهى اللصوص في اقتراح الخطط الهجومية والعمليات المقبلة. وفي هذا المجلس الحربي البوغاتشوفي ونكاية في بيتر، سيتقرر الزحف على أورونبورغ. وقال بوغاتشوف مخاطبا بيتر «اسمع، سافر الساعة إلى أورونبورغ. وابلغ عني الوالي وجميع الجنرالات، بأن ينتظروني هناك بعد أسبوع. انصحهم بأن يستقبلوني بحب الأبناء لأبيهم وبالطاعة. وإلا فسينتظرهم عقاب صارم. سفرة ميمونة يا صاحب السيادة؟ ولم يكتف بذلك بل قلد اللعين شافرين منصب القيادة على القلعة.
وتتناسل الأحداث وتتشابك، وتشاء الصدفة أن تجمع بيتر بفتاته الحبيبة بقلعة تحت سيطرة بوغاتشوف كانت مريضة. ولم تستطع التعرف عليه. رغم محاولة القس غيراسيم وزوجته إدخال الفرحة إلى قلبه. وفي أورنبورغ تم اتخاذ تدابير عسكرية لحماية القلعة تحسبا لهجوم طارئ من بوغاتشوف ورجاله.
لكن جنرال القلعة لم يجرؤ على اتخاذ قرار مسؤول لأن الأمر يتعلق بسلامة الأقاليم التي وضعتها الامبراطورة الموقرة في عهدته. لذلك أخذ بغالبية الآراء. وتقرر التحصن داخل المدينة في انتظار الحصار وصد العدو بقوة المدفعية وفي حالة الإمكان باشتباكات محدودة.
يقترب بوغاتشوف من أورنبورغ. وهنا يصف الكاتب الحالة الاجتماعية المتردية داخل أسوار القلعة بسبب تراخي القيادة المحلية. والحصار الذي كان وبالا على الأهالي الذين عانوا الجوع ومختلف الويلات. وبوسع المرء أن يتخيل أن الحياة في أورونبورغ لا تطاق. وكان الجميع يتوجع من غلاء الأسعار وتردي المعيشة.
ويتسلم بيتر رسالة من ماريا ايفانوفنا تخبره فيها أنها عندما تماثلت إلى الشفاء، أجبر اليكسي ايفانوفيتش الذي احتل مكان أبوها في آمرية القلعة الأب غيراسيم على أن يسلمها له بعد أن هدده بوغاتشوف. وهي الآن تعيش في بيتها تحت الحراسة. واليكسي ايفانوفيتش يلح عليها بالزواج منه ويقول إنه أنقذ حياتها.
لكن فكرة غريبة ستطرأ على رأس بيتر. فخيل إليه أن العناية الإلهية التي قادته ثانية إلى بوغاتشوف أتاحت له تحقيق مبتغاه. فقرر أن يغتنمها. فأجاب عن سؤال استكشافي لبوغاتشوف قائلا “خرجت الى قلعة بيروغوريسك لأنقذ يتيمة «يقصد ماريا إيفانوفنا حبيبته ” تتعرض للإهانة هناك. برقت عينا بوغاتشوف فصاح غاضبا ” من يجرؤ من رجالي على إهانة يتيمة لن يفلت من محاكمتي مهما بلغ من النباهة، قل لي من المذنب؟ رد بيتر على الفور ” شفابرين المذنب، إنه يحتجز تلك الفتاة التي رأيتها طريحة الفراش عند زوجة القس غيراسيم ويريد أن يتزوجها بالإكراه.
كما حدثته ماريا ايفانوفنا عن كل ما وقع منذ الاستيلاء على القلعة. ووصفت كل الفضاعات والمحن التي ذاقتها على يد شفابرين المقيت. لقد كان من المستحيل أن يتركها في قلعة يسيطر عليها بوغاتشوف ويدير شؤونها شفابرين اللعين.
ورغم إسهاب المؤلف في وصف الحياة في القلاع والأقاليم وسيكولوجية الأهالي والتغلغل في أعماق هم بدقة غاية في الروعة والجاذبية، إلا أنه لا يريد أن يصف لنا تفاصيل ما حدث منذ عودته إلى قلعة الجنرال والده، ونهاية الحرب ضد بوغاتشوف. واكتفى بسرد بعض الأحداث قائلا ” لقد مررنا خلال تلك الفترة بقرى خربها رجال بوغاتشوف وانتزعنا طوعا أو كراهية من أهاليها البائسين كل ما بقي لهم بعد نهب اللصوص. كان هؤلاء لا يعرفون من يطيعون. فان الإدارة لم تبق في أي مكان. واختبأ أصحاب الأراضي في الغابات. وعاثت عصابات اللصوص في كل ناحية. وكان رؤساء بعض الكتائب المرسلة لمطاردة بوغاتشوف الذي توجه في فراره إلى استرخان في ذلك الحين يعاقبون على هواهم المذنبين والأبرياء على حد سواء. وتردت إلى درجة مريعة حالة الإقليم الذي تفشى الحريق في أرجائه. عسى الله الا يرينا عصيانا روسيا لا معنى له، ولا رحمة فيه. إن الذين يدبرون مختلف الانقلابات عندنا إما أنهم شبان لا يعرفون شعبنا، أو أناس قساة القلوب، لا يهتمون البتة بخسارة رؤوسهم أو رؤوس الآخرين
وتنقلب الأوضاع رأسا على عقب. فيهرب بوغاتشوف يطارده ایفان ايفانوفيتش ميخلسون. وبعد وقت قصير علمنا باندحاره التام. وأخيرا تلقى غرينيف من قائده نبأ القبض على الدعي بوغاتشوف، ومعه أمر بالتوقف. وسنحت لي الفرصة أخيرا للسفر إلى قريتي. كنت في غبطة شديدة، إلا أن شعورا غريبا عكر غبطتي.
“عشية الرحيل ذهبت الى والدي. وركعت على قدميهما على عادة ذلك العصر طالبا منهما مباركة زواجي بماريا ايفانوفنا. أنهضني والي الشيخين وأعلنا عن موافقتهما بدموع الفرح. جئت بماريا ايفانوفنا إليهما وهي شاحبة ترتجف فباركانا …وأنا لا أريد أن أصف ما شعرت به آنذاك. فمن كان في وضعي سيفهمني دون حاجة إلى وصف. ومن لم يكن فلا يسعني إلا الإشفاق عليه. ونصحه بأن يعشق مادام الأوان لم يفت وأن يحظى بمباركة والديه.”
وبإجماع النقاد يعتبر ألكسندر بوشكين شاعرا قبل كل شيء، إلا أنه أبدع نثرا جميلا لا مثيل له. وكان ليف تولتسوي يقدر أعمال بوشكين النثرية إذ قال “هل قرأت نثر بوشكين؟ اعمل معروفا واقرأ كل قصص بلينكين من جديد. يجب على كل كاتب أن يدرسها ويدرسها. لقد فعلت ذلك قبل أيام ولا أستطيع أن أصف لكم التأثير الذي الخير الذي تركته هذه القراءة في نفسي “
قال عنه نيقولاي غوغول “بوشكين ظاهرة هائلة في النفسية الروسية لعلها فريدة فهو الإنسان الروسي في تطوره في الصورة التي يكون فيها ربما بعد مائتي عام فيه الطبيعة الروسية والروح الروسية والطبع الروسي معكوسة بنفس النقاء وبنفس الجمال المصفى مثل انعكاس المنظر الطبيعي على السطح المحدب لعدسة مرئية”
أما إيفان غورتشانوف عنه “تكمن في بوشكين كل البذور والبراعم التي تطورت منها فيما بعد كل أنواع وأشكال الفن في فنانينا جميعا”
أما ألكسندر تفارودوفسكي” لكل منا بوشكينه الذي يظل واحدا للجميع إنه يدخل حياتنا جميعا منذ بدايتها ولايفارقنا حتى النهاية. لقد عرفت بوشكين في تلك السن يلذ لك فيها أن تقرأ بنفسك إن “ابنة الآمر «كانت أول كتاب قرأته في حياتي. وأنا أتذكر شكل الكتاب ورائحته وأتذكر مبلغ سعادتي من اكتشافي لهذه القصة بنفسي. ولم أكن أعرفها بالسماع. لقد استولت على فكنت أطيل الجلوس عند نافذة البيت حتى حلول الظلام. وعندما وصلت إلى وصف زوبعة الثلج في سهل أورونبورغ تراءى لي أن الثلج راح يتساقط وراء النافذة. وقد صار ذلك انطباعا لم ينمح حتى الآن، وكأنه قوة سحرية منبعثة من صفحة بوشكين هذه. ومنذ ذلك المساء صرت قارئ كتب وأنا أعتز اعتزازا لا حد له من أنني مدين بذلك لبوشكين ومن ذا الذي لا يدين له بفرحة الاهتداء منذ فجر حياته إلى الينبوع الذي يرشف منه فيما يعد طوال الحياة “
ورغم المشاكل التي واجها بوشكين في بعض الفترات من حياته، إلا أنه استمر في الكتابة وذاع صيته بسرعة. وبعد اغتيال القيصر ألكسندر الأول في عام 1825. اعترف القيصر الجديد نيكولاس الأول بشعبية بوشكين وقام بإلغاء قرار نفيه. ليعود إلى سانت بطرسبورج . وهناك سيقع في حب الجميلة ” ناتاليا نيكولاييفنا جونتشاروفا “وكانت على قدر من الجمال وتنتمي إلى عائلة أرستقراطية وتزوجها عام 1831. في هذه الأثناء ،ألف بوشكين أشعارا و مسرحيات و قصصا قصيرة منها تراجيديته التاريخية الشكسبيرية “بوريس جودونوف” 1831.و”موزارت و ساليرى” و “ملكة البستونى” 1834 و بنت البحار” عام 1836.