تلك النّطفة المهرّبة لجعل الحياة والتّاريخ أقرب دلالة
تنتاب الكتابة المعتمدة على المصادر والمراجع صعوبة إضافيّة غير تلك الصّعوبة الّتي تكتنفُ الكتابة بشكل عامّ، ففي هذه الحالة هناك التّعدد في الرّؤى والمرجعيّات والرّوايات، فإذا ما كتب الكاتب عملاً ما فإنّه سيقع في حيرة من أمره، فعلى أيّ المصادر يعتمد، وأيّ الأفكار يتبنّى، وأيّ منها سيكون أكثر احتراماً لذاته والتّعبير عنها. إنّ هذه العمليّة انتقائيّة بالضّرورة، وما دامت كذلك فهي صعبة في التّأويل والانحياز. ولكن ما حيلة الكاتب الأسير الذي ضاقت أمامه سبل الانتقاء والاختيار؟ إنّ مهمته ستكون أعظم ومصاعبه أكبر.
لقد اعتمد باسم خندقجي في روايته “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظّلال الحرّة” على مجموعة من المصادر التّاريخيّة أثبتها في نهاية الرواية، وكانت خياراته محدودة نوعاً ما، والنّاظر فيها، فإنّها لم تكن مصادر تاريخيّة بالمعنى الحرفيّ، فقد كانت إمّا كتباً أدبيّة أو مراجعات فكريّة للفترة العباسيّة، وتحمل وجهة نظر كتّابها، ومع ذلك استطاع الكاتب أن يبلور من خلال تلك المصادر رأياً روائيّاً متماسكاً برؤى فكريّة وفلسفيّة واضحة المعالم. واستطاع الإفلات من التّحكّم القيديّ بآراء الكتّاب الآخرين، مع أنّه لم يقع في فخّ الخيال المغرق في البعد عن الرّواية التّاريخيّة كذلك. وهنا يجب أن نتأمَّل صعوبة العمل الرّوائيّ والإمساك ببؤرته الّتي تؤكّد حضوره الفنّيّ اللّافت للنّظر.
ثمّة صعوبة أخرى تحيط بالكتابة داخل المعتقل، هنا لا أحد يتحدّث عن طقوس خاصّة للكتابة، فالكاتب هنا لا يكتب بعزلة اختياريّة ليكون بمواجهة القلم والورقة والذّات، إنّه يكتب ضمن ذلك الجو الصّاخب والمتوتّر والعنيف، والمباغت الّذي قد يقلب الأوضاع المستتبّة المتأرجحة في كلّ لحظة، هنا تقلّ خيارات الكاتب الكتابيّة وأدواتها، وتصبح محدودة جدّاً، بل إنّها ستخترع أدواتها الخاصّة بها لتتلاءم مع ظروفها الاستثنائيّة. وهنا يجب أن نتأمّل المشهد جيّداً كم من إرهاق محفوف بالمخاطر والمخاطرة وأنت تكتب، فقد يودي بالعمل – كما حدث مع بعض الكتّاب- ويضيع ويتلاشى وتتمّ مصادرته. إذن فالكاتب الأسير يعيش أجواء غاية في التّعقيد والصّعوبة تجعلنا نحن الخارجين من وعن هذا السّياق ونكتب بأريحيّة ومزاج عالٍ مع فنجان من القهوة ونستخدم أقلاماً فاخرة وأوراقاً ملوّنة، ومكاتب فارهة وحواسيب متطوّرة، تجعلنا نعدّ الكتابة في مثل ذلك الطقس غير العاديّ ضرباً من العبث أو نوعاً من الإعجاز.
وهذا يؤشّر إلى ملاحظة مهمّة، لا بدّ من الالتفات إليها ونحن نتحدّث عن أدب الأسرى والمعتقلات، فلا شكّ في أنّ هذا الأدب ذا خصوصيّة وأهميّة بالغة الدّلالة، ليس فقط في ذلك البعد التّوثيقيّ للمسألة الوطنيّة، على أهميّته، ولكن لما تشير إليه من دلالة نفسيّة للأسير القابع خلف القضبان، ويعاني ما يعاني من إجراءات تعسفيّة غير إنسانيّة، فإذا ما كانت الكتابة بحدّ ذاتها لكلّ كاتب نوعاً من المقاومة، فإنّها تأخذ بالنسبة للكاتب الأسير شكل المقاومة الشّرسة، مقاومة لكلّ عوامل الموت والضّياع والتّهميش والحصار الفيزيائيّ الماديّ والمتيافيزيائيّ، وهي بذلك جزء من عمليّة الثّورة والتّمرّد على الواقع الّذي وضع فيه الأسير. تتّجه أوّل ما تتّجه نحو كسر إرادة السّجّان، وكلّ من كتبوا داخل السّجن كانوا يتمتّعون بقوة إرادة غير عاديّة، وهم بذلك يتميّزون عن أولئك الكتّاب الّذين كتبوا تجاربهم الاعتقاليّة خارج السّجن. وفي هذا السّياق المتّصل بالمقاومة يمكن تفسير ظاهرة لدى الكتّاب الأسرى، وهي أنّ الكثير منهم قد توقَّف عن الكتابة خارج السّجن، وربّما هذا ما يؤكّد ذلك الإصرار الّذي يتمتّعون به من إرادة حبّ الحياة، ويشير إلى الحيويّة والرّوح المعنويّة العالية لديهم.
كما أنّ تجربة الكتابة داخل المعتقل تشير إلى امتلاك هؤلاء الكتّاب موهبة متميّزة وخاصّة، تستحقُّ التّوقُّف عندها مليّاً ومناقشتها باستفاضة، وهنا أنوّه، على نحو خاصّ، بالبحث الذي قدّمته الباحثة جميلة عماد النّتشة وناقشت فيه موضوع “الأسير الفلسطيني روائيّا“، ووقفت عند مجموعة من الأعمال الرّوائيّة للكتّاب الأسرى. مؤكّداً توصيتها الخاصّة بضرورة دراسة النّتاج الأدبيّ للأسرى بقراءات نقديّة ومقارنة وترجمة بعضها. وهنا يمكن أن ننظر إلى النّاحية الفنّيّة لتلك الأعمال نظرة خاصّة، ليس تبريراً لتدنّي مستواها، ولكن لربطها بذلك السّياق المشار إليه أعلاه، مع أنّ رواية باسم خندقجي “مسك الكفاية” تحقّق فيها كثير من الشُّروط الفنّيّة والإتقان لدرجة قد تشكّ أحيانا أنّها كتبت داخل المعتقل، فلا تكاد تلحظ أي توتُّر للّغة أو اعوجاجاً في تراكيبها، أو أيّ خلل في البناء الفنيّ للرّواية، بل على العكس تماماً، جاءت الرّواية في صورة فنيّة يُغْبَط عليها الكاتب، فقد اعتنى بالعمل بجوانبه كافّة؛ لغة وسرداً وهندسة في البناء الرّوائيّ.
هذا العمل الرّوائيّ على صيغته تلك، نال الكثير من الحفاوة والتّقدير من القرّاء والكتّاب والنّقاد، فقد تناولها بالتّحليل العديد من الكتّاب، بدءا من الأستاذ محمود شقير الّذي احتفى بها على نحو استثنائيّ، فكتب مقدّمة للرّواية، معتبراً الرّواية “تجربة لافتة للانتباه“، فهي كما كتب تنقل الحدث التّاريخيّ من مجرّد كونه رواية تاريخيّة إلى جعله “عالما مشخّصاً من طموحات البشر ومن مكائدهم ودفاعهم عن ذواتهم“، وإلى ما تناولته أقلام الكتاب من أمثال: جوني منصور، وخالد جمعة، ويوسف الشّايب، ورائد الحوّاري، ومحمّد جبعيتي وطارق العربي، وعلي عبيدات، وأنور سابا، ونوميديا جروفي، وحسن العربي، وغيرهم، وحضور الرّواية كذلك في الصّحافة الثّقافيّة المكتوبة والمرئيّة، العالميّة والعربيّة والفلسطينيّة، ولقاءات المناقشة والتّعريف والإطلاق، ما شكّل مع متن الرّواية نصوصاً موازية، ذات قيمة في حركة النّقد العامّة الّتي تولي عنايتها بهذه النّصوص.
وبعد كلّ هذا المتقدّم أصل إلى الرّواية ذاتها، وأختار هذا المقطع الوارد في الرّواية ص (321)، إذ إنّه يلخِّص الفكرة الأساسيّة للرّواية وما استند عليه وإليه الكاتب في تبئير رؤيته الفلسفيّة للمرأة محور هذه الرّواية.
يقول السّارد: “لقد أخضعتِ العرش ليحيى، وأخضعت يحيى إليها وأمّا هي، هي لا تخضع لمشيئة أحد سوى حلمها الّتي نجحت من خلاله أخيراً بأن تصبح امرأة مستترة بحجابها تحكمهم، تحكم البيت الّذي نبذها وأذلّها عندما كانت جارية، وخضع لمقامها وهيبتها عندما أصبحت سيّدة حرّة أنجبت للبيت العباسيّ خير الخلفاء وأعظمهم سلطاناً وتاريخاً، فمن ذا الّذي لا يلين في وجه عزيمتها الّتي لا تلين، فهي زوجة الخليفة وأمّ الخليفتين ومعجزة دهرهم المحتجبة“.
هنا، إذن اكتمال الرحلة، رحلة (المقّاء بنت عطاء بن سبأ) بوصفها الإنسانيّ أوّلاً قبل الوصف المحدّد بالمرأة، رحلة ممتدّة من الحرّيّة الفطريّة إلى الحرّيّة المكتسبة، وما عاشته ويعيشيه الإنسان المعاصر من استعباد ورقّ، ووصولها لأن تترك بصمة في مسيرة الدّولة العباسيّة، تلك الدّولة العظمى على مرّ التاريخ العربيّ الإسلامي، ليس لأنّها – أي المقّاء- أنجبت خليفتين وزوجة لخليفة عظيم، فهذا ليس ذا دلالة خاصّة ربّما، بل لأنّها جسّدت الإرادة الحرّة، وحقّقت ما تصبو إليه، وهنا رسالة الرّواية المهمّة الّتي تدفع دفعاً حرّاً اختياريّاً كلّ إنسان، وخاصّة المرأة، أن تبحث عن حلمها، وتبني عالمها لتكون سيّدة النّور والظّلّ معاً.
مع أنّ المقطع السّابق، والرّواية عموماً، أبقى المقّاء امرأة ظلّ، ولم تصل لتلك المرتبة المطموح إليها، وربّما جاء ذلك مراعاة للصّدق الفنّيّ، إذ يراعي الكاتب طبيعة اللّحظة التّاريخيّة، والنّظرة السّائدة تجاه المرأة في ذلك العصر، دون أن يؤثّر ذلك سلبيّاً في رسالة الرّواية البليغة في تحرّر المرأة المعاصرة. لتأتيَ الرّواية في سياقها الطّبيعيّ متناسقة في الرّؤى مؤكّدة قدرة المرأة على الحكم وممارسة أعمال السّلطة، كاملة الأهليّة في ذلك، وأنّها ليست مخلوقاً ضعيفاً أو هامشيّاً، وكيف تكون المرأة كائناً هشّاً، وهي ذات قدرة على امتلاك عقل الرجل وقلبه، تلك المرأة التي تهزّ السّرير بيمينها قادرة في كلّ عصر على هزّ العالم بيسارها إذا ما أرادت إلى ذلك سبيلاً.