المقالة

الشخصية الليبيـة

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي
من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

بالرغم من تعدد نظريات تفسير إنتماء الإنسان الى جمع من البشر، والى مكان وايضا الى نظام معين، وبالرغم من اختلاف تلك النظريات بعضها عن بعض، فإن ذلك الإنتماء يظل حقيقة حية في علاقات الناس.

واذا كان احساس الفرد بحتمية علاقة الأخذ والعطاء بينه وبين بشر أخرين هو مايمكن ان نسميه بالإنتماء البشري، فإن للفرد إحساس بعلاقة أخذ وعطاء اخرى تربط بينه وبين المكان الذي يعيش فيه، وهذه يمكن أن نسميها بالإنتماء المكاني أو الإنتماء الى المكان.

ونلاحظ أن كلا الإنتمائين المكاني والبشري يتفاعلان معا داخل بُعد زماني أساسى هو عمر الفرد، وبُعد زماني مضاف وهو مزيج من تاريخ من ينتمي اليهم ذلك الفرد وتصوره، وتصورهم لما يأملونه ويتوقعونه في قادم الأيام.

وإذا ماتجاوزنا دوائر الإنتماء الإنساني الأضيق كالاسرة والقرية والمدينة، وصرفنا النظرعن دائرة الإنتماء الأوسع للإنسانية كلها، فإننا نقع على أهم دوائر الإنتماء وهي الإنتماء الى الوطن، الذي تظهر فيه علاقات الفرد أخذا وعطاء بالبشر والمكان في أوضح صورة لها.

نعم قد تختلط هذه العلاقة التي نسميها بالإنتماء الى وطن، بعلاقة أخرى هي الإنتماء الى أمة عندما تشمل الأمة كما نفهما أكثر من وطن، ولكن الواقع الإنساني اليوم بجعلنا نضع علاقة الإنتماء الأولى في مقدمة كل الإنتماءات الإنسانية الأخرى.

إن الإنتماء الى الوطن هو أبرز وأهم الإنتماءات سواء كانت اكثر ضيقا أو اكثر اتساعاً، فالعالم منقسم اليوم الى أوطان ترتكز كلها عل علاقة الفرد بالوطن الدولة أكثر من ارتكازهاعلى أى من علاقات الإنتماء الأخرى الأضيق والأوسع، ومن هنا فإن الشخصية الوطنية تعني نسيج إحساسات الفرد بأنه مرتبط بأرض معينة وشعب معين ارتباط أخذ وعطاء، وتظل هذه الإحساسات هي المحور المحرك لنشاط وطموحات المواطن.

وإذا كان تحقيق نهضة حضارية في أى وطن يستلزم خلق مواطنين قادرين على التقدم، فإن حمل أؤلئك المواطنين على الفعل يستوجب الى جانب أشياء اخرى شحذ همة كل مواطن وكل مواطنة وذلك بإيقاظ شعور الإنتماء الوطني لدى كل منهما.

إن الدعوة الى الشخصية الليبية تعني نسيج أحاسيس الإنتماء لدى المواطن الليبي والمواطنة الليبية، أى الإنتماء الى ليبيا البشر والإنتماء الى ليبيا المكان.

لقد أدرك الكثيرون من مثقفي الوطن وحملة الرأي فيه ان شعور الإنتماء لدي الفرد الليبي قد شابه الكثير من الفتور، الأمر الذي أخمد من طموحه وخفف من احساسه بما حوله وصرفه عن التطلع الى مشروع وطني ينقله من دائرة التخلف الى حضارة القرن العشرين، فقد ساد خصوصاً لدى الشباب شعوراً بعدم المبالاة، وعزوفاً عن الإهتمام بالشؤن العامة، ولم يكن لدى الأغلبية رؤيا للمستقبل ولا طموح الى إقتحام أبواب حضارة العصر.

الأمر يبدو لأول وهلة أمراً شديد الغرابة، فلشعب ليبيا العربي المسلم خصوصية يتصف بها، فهو وريث تجارب باهرة ومريرة من أجل الحرية والإستقلال والرخاء، فبالاضافة الى انه صاحب تاريخ حافل بالمعاناة دون هوادة، وعلى ارضه ولدت أهم حركات البعث الإسلامي في التاريخ الحديث، ققد عاصرت وحالفت الحركة السنوسية حركتي المهدية في السودان، والوهابية في الجزيرة العربية. إنها تلك السنوسية التي خاضت بالليبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حروباً لانهاية لها ضد زحف الإستعمار الفرنسي الى الشمال، كما كانت السنوسية أبرز الكتائب في معارك الكفاح الدامي ضد الغزو الإيطالي للبلاد. ولم يغب شعب ليبيا حتى عن المعارك الدبلوماسية الدولية، فقد ضرب في اعقاب الحرب العالمية الثانية مثلا في التكتل والإصرار أدى به الى كسب استقلاله بقرار من هيئة الأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949 بسابقة ليس لها مثيل.

ولأن الليبيين قد خبروا معنى الفقر أكثر من غيرهم، فقد صنفهم تقرير البنك الدولى عام 1951م، على أنهم أفقر شعب في العالم بلا منافس، وماتوا من الجوع عام 1949- 1950م، وبدأوا مسيرة الإستقلال عام 1952م، بشظايا شعب وهلاهيل دولة ، ومع ذلك فإنهم وقد سنحت لهم فرصة الإنطلاق بالإستقلال، قد انجزوا في سنوات قليلة قواعد اقتصاد مستقيم، ومشروع تعليم لم يسبق له مثيل وبنوا إدارة بالغة الكفاءة إذا ماقورنت بكل الإدارات العربية حتى التي سبقتهم بعشرات السنين، كما بنوا نظاماً سياسياً جيداً كان يمكن ان يتطور الى نظام ديمقراطي أكثر اكتمالاً حتى وإن واجهوا في تطبيقه بعض العثرات.

في سنوات الخمسينيات والستنينيات من هذا القرن كانوا الليبيون يملكون تجربة المحنة وخبرة المأساة، وهم يعيشون أحراراً في نظام متحضر كان قبل أن يجهضه إنقلاب عام 1969 العسكري، يسير نحو النمو والتطور مضيفاً الى نضجه كل يوم، وكانت أمام الليبيين كل فرص القفز الى حضارة القرن العشرين ومابعده وإنجاز مكانة أفضل دولة في العالم الثالث، كانت لديهم حصيلة التجربة وفرصة الفعل وقد بدأت عوائد النفط المكتشف حديثاً تنساب في جيوب الجميع، نراهم لايعيرون سلامة الوطن وسلامتهم أى اهتمام، نراهم وقد اندفعوا للإهتمام بما يخصهم من هموم وطموحات شخصية ومادية، دون حرص على الوطن الذي بدون سلامته لا رفاهية ولا حياة لأي فرد، وانصرفوا الى الإنشغال بكل ماهو مثير خارج الحدود متنافسين فيما بينهم من أجل حياة مادية أفضل بعيداً عن سلامة وطنهم واسلوب حياتهم الذين بدونهما أيضا لا رفاهية ولا حياة.

لقد كانت غالبية الليبيين وخصوصاً المثقفين منهم تشعر بأن من حقها ان تشبع بعد جوع، فانصرفت عن التفكير في مستقبل الوطن ككل، وشغلتها مسائل الحياة اليومية عن التمسك بوجدودها والإيمان بواجبها في الإندفاع بكل قوة نحو الإلتحاق بحضارة العصر والمشاركة فيها.

وإحساساً بكل هذا فإن الدعوة الى الشخصية الليبية تعني بعث إحساس المواطن والمواطنة بالإنتماء الى ليبيا بما يوقظ علاقة الليبي بشعبه وبأرضه، تلك العلاقة التي تدفع دماء الفعل في عروق الفرد وتحفزه للعمل من أجل أهله ووطنه فيصبح لديه شعور بواجب الفعل وتصور لمشروع وطني ينقل الشعب الليبي كله الى مرحلة حضارية أفضل.

إن إيقاظ روح الإنتماء الوطني هي الشرارة التي تشعل إرادة الفرد وتبعث فيه الإحساس بواجب الفعل والإدراك بأن الحياة أخذ من الوطن وعطاء له.

إن قصر الشخصية الليبية على الإنتماء الى الوطن الليبي لا يلحق بفكرة الإنتماء الى الأمة العربية كلها شيئا من الفساد، بل إن الإنتماء الى الأمة أمر أوسع من أن تتحرك فيه إرادات الأفراد، بل الطريق الى الأمة يمر بالوطن فلن تقدر على فعل شيىء للأمة العربية إذا لم تفعل كل شيء من أجل أجزائها، تلك الأجزاء التي كانت ولا تزال لها ملامح مختلفة وخصائص متباينه لا تفرقها ولكنها لا يمكن ان تمحو شخصياتها “وخصوصياتها”.

إن حصر التفكير في الإنتماء الى الأمة وإنكار الشخصية الوطنية هو تشتيت لفكرة الإنتماء ذاتها، وهو يشبه التركيز على الإهتمام بشأن الوطن الدولة وإغفال شأن المنطقة والمدينة والأسرة.

إن الدعوة الى الشخصية الليبية هي لإيقاظ إنتماء الليبي الى الوطن ولا تلغي بحال من الأحوال إلغاء مشاعر الإهتمام بقضايا العرب والعروبة عند الليبيين، وإنما هو محاولة لوضع كل شيء في مكانه من قائمة الأولويات، فقد كان غريباً أن تظهر على ملامح الوجه الليبي أحاسيس الفرحة أو الإكتئاب من أجل أحداث تقع خارج وطنه، وقدرته على الفعل بشأنها محدود، ولا يطرأ على تلك الملامح أى تغيير إذا ما تعلق الأمر بما يحدث في وطنه أو يجري على مستقبل شعبه من أمور ، إن مغامراً عسكرياً ماكان لينجح في السطو على الشعب الليبي لو لم يكن غالبية هذا الشعب مستسلماً للفراغ، غير منشغلا بمستقبله وغير حريص على مالديه ولا يملك الا شعوراً باهتاً بالانتماء.

إن الدعوة الى الشخصية الليبية لاتعني سوى إيقاظ لشعور الإنتماء الى ليبيا، أى لدى الليبي والليبية بكل مايحمله هذا الإنتماء من إرتباط فعال بين الليبي البشر والمكان، ومايدفعه اليه من فعل من أجل الوطن ومايكشفه من إدراك بأن لا سعادة لفرد في وطن من الأشقياء، ولا تقدم لمواطن في شعب من المتخلفين، وكذلك مايرسخه من إقتناع بأن لا طريق الى حياة أفضل غير العمل من أجل الوطن والحرص عليه والدفع بشعبه الى الأمام.

فالمطلوب هو إيقاظ االشعور الوطني لدى الفرد الليبي يإرادة ورثت تجارب المحن التي تشحذ لديه الرغبة في الحفاظ على حاضر معقول وليس للإبقاء عليه للإبد، وإنما لتطويره الى مستقبل حافل بالتقدم والعدالة والرخاء، إن الليبي لن يتسطيع المساهمة في بناء أمة عربية أفضل، إلا بعد أن يفرغ من إنجاز وطن ليبي أفضل وأقدر، وهو بدون هذه الرؤيا سوف لن يكون له مكان إلا في صفوف الذين لا يفعلون شيئا ولكنهم يهتفون فقط.

إن إحساس الليبي بشخصيته وثقته بها، هو إحياء لما ورثه من خبرات وبعث لإرادة الفعل لديه مؤمناً بأن عطاءه للوطن هو الوسيلة الوحيده ليعطيه الوطن، ومدركاً ان تعميم العطاء على دوائر أوسع من ليبيا هو تشتيت للجهد، وليس في الدعوة للشخصية الليبية أي معنى للأحساس بالتمييز عن الأخرين، وإنما هو دعوى الى أن يفخر الليبي بوجوده وبشخصياته وأن يضيف اليها من المعالم والقسمات مايجعلها أجمل وأجدى وأقدر بحيث لا تتوقف الشخصية لدى المواطن على إحساس بالوجود وإنما الى إرادة فعل من أجل أن تصبح حريته في الإختيار من قواعد الحياة، فلا يفرض عليه تظام حكم أو اسلوب عيش، ولا يقدر أحد على خداعه فيسلب منه حريته مقابل الوعود “الشعارات” فالشخيصة الوطنية هي موقف من أجل الصواب والحق والحرية والتقدم وضد كل ماعدا ذلك من الممكنات.

إن أشد ما يحزنني أن أرى صورة التاريخ الليبي الحافل بالمآسي والكفاح والآلآم تبهت في خواطر الليبيين، وأن اراهم غير منشغلين بوطنهم إلا قليل، وغير حريصين على ماكنوا فيه حرص الذي يصر على الإحتفاظ بما لديه حتى يطوره على مهل وكيفما يشاء.

لقد كنت أحزن كثيراً وأنا ارى الليبي هائما في وطنه بلا شخصية، ولعلها من صروف القدر أن أجد أني لا أزال حتى اليوم حزيناً بل وأكثر حزناً عما مضى على أهلى من الليبيين والليبيات لا لأنهم قد وقعوا في الاول من سبتمر 1969م، في قبضة المجهول فقط، بل لأنهم مازالوا بلا شخصية يعانون شرودا في إحساسهم بالإنتماء، فهم يتصرفون اتجاه ماحل بهم فككاً، من كل موصول بينهم وكأنهم لم يكن لهم ماضٍي ولن يكون لهم مستقبل.

إنهم يتصرفون بلا شخصية، بل أنهم في الواقع يستسلمون (للظلم) ولايتصرفون على الإطلاق.

لذلك فإنني اعتقد ان الدعوة الى إعادة بناء الشخصية الليبية لاتزال ضرورة ويجب علينا نحن كل الليبيين أن نعيد طرحها من جديد. إن علينا أن ندعوا بأن يستيقظ الليبي والليبية على الشخصية الوطنية بمعالمها التي تحمل التاريخ المر المشرف، وملامحها التي تحمل الفعل للخلاص، والإصرار على إنجاز مستقبل ينقلنا هذه المرة الى حضارة القرن الواحد والعشرين.

إن الدعوة الى الشخصية الليبية هي دعوة الى ري جذور المواطن، ونفض غبار الإستسلام لأي واقع عن أكتافه المجهدة، ودعوة الى بعث شعور الإنتماء الوطني في كيان الليبي حتى يرى حقائق واقعه بوضوح ويشحذ إرادته للفعل من أجل المشروع الذي يقوم على بناء الوطن وتحريره وتحقيق حرية الفرد الكاملة المصونة فيها ووإرادته بأسلوب علمي متحضر يدفع به الى الأمام، ويجعله قادراً على إقتحام أبواب حضارة العصر.

إنها دعوة الى المستقبل وهي في قلبي كما أثق أنها في قلب كل ليبية وكل ليبي، فمستقبل أى وطن لا يبدأ إلا في قلب أحد المواطنين.


مقالة بعث بها المرحوم “عبد الحميد البكوش” الى مجلة شئون ليبية 1996م (من أرشيف شئون ليبية – عبد المنصف البوري).

مقالات ذات علاقة

ما قتلوه وما صلبوه

أحمد الفيتوري

مُدَوَّناتُ ما قَبْلَ التَّارِيخ

يوسف القويري

أمغار ملك اكاكوس

المشرف العام

اترك تعليق