ودستور جديد مبرقع بالترقيع
خلاصة، وثُمّ:
إنّ اصرار ” الهيئة التأسيسية” على صياغة دستور جديد والروغ لجعل دستور 1951 أحد مصادر هذة الصياغة لا يقدم خياراً مرضياً للناس ولا يشاركهم في صنع مثل هذا القرار ولا يمنح المواطن حرية الأختيار ولا يشكل مرجعية موحدة تتسع للتعدد الثقافي بل فرض إرادة فئوية كسيف يُسلط عنوة على رقاب الآخرين، إذ يظهر هذا الإصرار على أنّه مدخلاً للإستبداد والإستهزاء بالتاريخ والإستخفاف بعقول الناس واستهجانها بالإضافة إلى تفريغ مبدأ الأكثرية من معناه وكأنّ الناس يعيشون في ثكنة كبيرة ينفذون الأوامر من دون السماح لهم بالتفكير الجاد والمتأني أو ابداء الرأي في هذه المسالة المصيرية ومخاطرها الجدية، علماً بأنّ هذه الهيئة الموقرة لاتضم ممثلين لكل الوان الطيف السياسي والفكري في تعدده الثقافي.
بل أنّ حالة اللّف والدّوران على دستور 1951 وجعله مصدراً من مصادر دستور جديد هي حيلة سمجة ومكابرة لا تساعد على حلّ الخلاف الأساسي حول هذه المسألة ولاتليق ببلد يسعى إلى بناء دولة دستورية ديمقراطية، إنّه حل توفيقي خادع ومزوّر وتلفيقي بامتياز، بل وتعنت من الطراز الأول وتخل صريح عن أهم أحد انجازات ليبيا التاؤيخية، بينما يُعامل الشعب معاملة الطفل القاصر الذي ليس له من الأمر شيء في شهادة واضحة على مصادرة حقه في الإختيار إلى أنّ يبلغ سن الرشد السياسي. وفي أقصى الأحوال جعل دستور 1951 أحد مصادر دستور “الهيئة” الجديد هو تذاكي كريكاتوري كمن يقوم بتربيع الدائرة في وضح النهار .
وإذا كان الواقع هو المحك الفعلي لقياس نجاح التجارب أو فشلها، فإنّ واقعنا الليبي يدلل بوضوح لا ريب فيه أننا فشلنا في احياء التجربة الدستورية وأننا نضيع في متاهات وتأثيمات تعيدنا إلى حالة الإنغلاق التي عشنا فيها طيلة العقود الماضية. أما تحطيم دستور 1951 أي تحطيم هذا الإرث والقانون الليبي الأصيل فهو اجراء مؤدلج يظهر في ثوب عشائري وانتقاء نخبوي ترقيعي، غير أنّه سيبقى هذا الدستور أكبر من الكتل السياسية الغارقة في حساباتها السياسية والعصبية الآنية. فهذا الدستور يشكّل تراثاً اساسياً يقتضي الحفاظ عليه لصالح كل الأجيال المتعاقبة، ومن ثمّ يجدر العمل على ما يُغنيه ولا يُلغيه.
ثمة فرية تعسفية أخرى مصدرها ذهنية ذات احكام كلية صارمة من طراز فريد وعقيم تدعي أن دستور 1951 كان صنعية بريطانية لخدمة مستقبل اليهود في شمال افريقيا وحمايتهم والدفع أمنياً واستراتيجياً بعدم التمييز ضدهم كأقلية تقطن ليبيا إضافة إلى رفع ازر وشأن القوى الإستعمارية التي تساندها، ومن التبخيس المسطر في هذه الذهنية ايضاً أن نعتبر معها بأنّ الدستور هو تعريف يشكل نظام الحكم وحسب أو ما يتفرع عنه من اجراءات تنظيمية كقانون الإنتخابات و وتصحيح الواقع السياسي المتردي , بل وتذهب هذه الذهنية أكثر من ذلك متجاهلةً المادة الحادية عشر من دستور الاسقلال لتدعي غبناً وفي منتهى التعالي الذي يفتقد ابسط اعمال القليل من الفكر فيه على أنّ هذا الدستور معادٍ لحقوق الإنسان ويتناقض معها. إنّها ذهنية تشاطر شرعية الإنقلاب العسكري في الأهداف وتنطلق من الإرتجال وصرف الكلام وفق منطق التخوين .
وثمة من تواطؤ فكروي وثقافوي من لدى الكثير من المثقفين والقوى السياسية بالسكوت والرضى عن هذا المسلك في اغتيال ووأد وتأثيم دستور الاستقلال وعدم حشد الرأي العام حوله . لماذا لم تُطرح قضية دستور 1951 للإنتخاب العام حتى الآن؟ ومن الذي يُستفتى في هذه القضية، الناس أم الكيانات السياسية العشائرية الهشة أم هيئة سياسية اختيرت في ظلال المليشيات؟
كيف لهذا البلد المعلق على ابواب الرياح الهوجاء يسعى إلى التفريط في دستوره التاريخي مرة أخر؟
ومن ثمّ فمحنة دستور 1951 محكومة بعدة عوامل:
أولها: هناك حالة واحدة فقط تستدعي الغاء دستور 1951 ودفنه إلى الأبد على يد جميع الليبيين وبقيادة الـ “هيئة التأسيسية ” وبضمير منتعش رقراق وعلى نحو يتجاهل هوية وحياة ومصير وطن يوشك على الإنهيار ويضيف إلى الخطأ الكبيرمزيداً من الأخطاء، وذلك في حالة أن يكون التاريخ الليبي مجرد اكذوبة عابرة وهرطقة فارغة وخرافة خيالية وسراب في بطن البيد أو مخيلة جمعية آسنة تخلو من أي مسؤولية، أما مُجاهديه ورواده ومن قاوم المستعمر فقد كانوا اشباحاً اسطورية لم تدفع – حقيقةً – من ثمن غالٍ أوتضحيات كبيرة من أجل استقلال هذا البلد وحريته وهويته، بل كانوا زمرة من فرسان طواحين الهباء وأناس عابربن عبر اكذوبة عابرة جاءت بها حكايات اسطورية غابت في فمّ تنين أو صنعتها “مؤمرات استعمارية” للنيل من هذا البلد منزوع السيادة المتأرجح بين انتهاك القانون وانتهاك الهوية ؛
ثانيها: إنّ خطورة الأمرمحكومةٌ بالسؤال عن التقاطع بين الماضي والحاضر: فما الفارق اذاً بين اغتيال دستور 1951 من قبل الإنقلاب العسكري وبين وأده من قبل “المؤتمر الوطني” وتأثيمه في اجواء نظرية المؤامرة والتحايل عليه من قبل ” هيئة تأسيس ” لم تُنتخب ديمقراطياً كما ينبغي لها أن تنتخب وفقاً للمبادئ الدستورية ذاتها وهي تسعى – في عماء تاريخي ملحوظ – لصياغة دستور جديد مقرون بالفشل سلفاً لإنّه يخرق هذه المبادىء؟ أوليست هذه إحدى أهم غرائب تاريخ هذا البلد بل واتهامه وتأثيم رجاله، حيث يلتقي العسكري المستبد والتأثيمي الذي يرى في دستور 51 على أنّه صنعية اسعمارية مع هذا المدني المدخول بالباطنية والذهن العشائري في الغاء هذا الدستور الذي صنعه الأسلاف بعيون القانون والتاريخ؟ هل هي ثقافة مزدوجة بين نقيضين أم هو استعلاء يكرر نفسه؟ إنّ هذا التطابق يعكس مفارقة حقيقية وعلى هذا البلد أن يتقدم بنفسه لفك رموز هذه المفارقة قبل أن تقع الواقعة.
ثالثها: أما عن الفارق فهو في المسلك الظاهري فقط، أما جوهرياً فهما متطابقان لا يفصلهما فاصل بل ويربطهما يقين مماثل، فكلاهما يزدري إرث الماضي ولا ينتفع به ونابذ له بل ويتعاملا معه باستخفاف وعبثية تشرّع في عبثٍ للقطيعة معه على غرار منطق الانقلاب العسكري، وكلاهما يتناغم مع انفصام الذات وضياع الهوية والتنكر لجهد الساسة من قبل، وكلاهما يقع في ذات الفخ وفي مواطن الخلل الكامن فيه أي في فرض حكم مستبد يفتح للناس دوائر الإنفصال والتبعثر وخيارات العنف والنبذ والصراعات والحروب ؛
رابعها: فهل مفروض على هذا البلد بعد أن تخلص من تسلط كان قد فُرض عليه فرضاً تعسفياً أن يقع في تسلط آخر من طينة أخرى؟ أولم تكن لحظة انجاز دستور 1951 إلا لحظة تاريخية أخرجت البلد آنذاك من عتمة المعاناة إلى مصب الشمس والنور، أولم تكن لحظة من أروع لحظات البدء في محاولة صناعة دولة حديثة رغم من نابها من تقصير على يد الليبيين انفسهم ابان فترة الإستقلال التي انعدم فيها أصلاً وجود مؤسسات دستورية جادة ذات توافق تأسيسي ديمقراطي وهيمن فيها منطق القبيلة من جهة ومنطق الايديولوجيا من جهة أخرى، ثمّ وفي عزّ الجهل المطلق والمتعصب ضد التقدم والتطور الطبيعي اغتالها – بغتةً وعلى مشهدية ثقافية مزورة فقدت قدرتها على التمييزوالتمحيص – الإنقلاب العسكري الذي اختصر التاريخ الليبي دفعة واحدة وجزّ به في انفاق أحابيله وطقوسة المظلمة؛
فهل لحظة كهذه يمكن أن يستباح اغتيالها من جديد وبأعصاب هادئة تمويهاً على التاريخ وعلى المخيال الإجتماعي الليبي في ظل تكتلات مفتوحة على العنف الداخلي؟ إنّ أخطر لحظات سيئات الإستهتار بالدستور الليبي هو أنّه خربّ هذا البلد بشهادة المواطن الليبي ذاته وحالت دون تطوره، بينما أقوى حسنات دستور 1951 أنّه لا يزال صالحاً ليكون اساساً لإي تفكير جاد في اصلاح سياسي دستوري وحوار وطني عقلاني؛
خامسها: بل وماذا يعني تجريد ذاك الانجاز التاريخي من أي مضمون مستقبلي في مقدوره أن يجعل من هذا التقليد الدستوري حاضراً في أذهان ووعي الناس وتصوراتهم كذاكرة جماعية تنتقل خبراتها بطريقة واعية من جيل إلى الجيل الذي يليه حيث يتخذ سيرورته في الوجدان الجماعي المتوارث عبر المراحل المتعاقبة من حقبة لأخرى لتدشين مخيلة دستوري ليبية، تقليد من شأنه أنْ يدفع نحو استيعاب إرث هذا البلد بطريق مباشر ومرسوم بالاستقرار السياسي، تقليد يحفظ تماسك البلد والمجتمع بثقافاته المتعددة سياسياً واجتماعياً، تقليد يعمل على تأمين الإستمرار في عملية تداول السلطة والتطور الديمقراطي فهو بالتالي وسيلة لتغليب الإستقرار والأمن على التخبط والتيه والتخلف والإنحطاط المحتوم؛
فالذاكرة الجماعية هي صنوان ورمانة التقليد الدستوري الذي ليس امام هذا الجيل والأجيال القادمة إلا من احيائه استناداً على الضمير الوطني للسعي نحو بناء دولة عصرية على أنّ عملية احياء الإرث الدستوري تعني التوسع فيه تجذراً في الماضي وتقدما مع الحاضر بالإضافة اليه والحذف منه وتعديله فهو ليس بحقيقة مطلقة ثابتة وغير متغيرة ومعدلة وهي من جهة أخرى عملية احياء لحافظة تاريخية للشعب الليبي تتجدد بدرجة عالية من الإستمرارية من جيل إلى جيل كما أراد لها المؤسيسين الرواد عشية الإستقلال؛
سادسها: ما ضرّ هذا البلد العودة بذهن مفتوح لهذا التراث وقراءته بتواضع وتجرد على أنه تجربة حية مرّ بها الرواد المؤسيسين الذين اعترفوا مبكراً بالتعددية الثقافية والإثنية والمذهبية والدينية ولم يتنكروا لها كما عبرت عن ذلك المادة الحادية عشرة من دستور 1951، تجربة حية وأصيلة وقابلة للإحياء.
فالبلد السوي لا يزدري تاريخه الإيجابي ولا يستغني عنه وعن إرثه الغني، بل ينسج بوعي ثابت الخطى، مستلهماً هذا التاريخ، علاقةً قويةً معه وبهمة خلاقة متجددة للاستمرار في البناء على ما صنعه الأسلاف، طاقة موجهة بكل الثقة نحو الإرث التاريخي ومتوجهة بكل الإصرار نحو المستقبل غير متجاهلة مخاطر وازمات واحتقانات اللحظة الراهنة. هذا الإرث ومن خلال خصوصيته جدير بأنْ يسافر في الحاضر للتفاعل معه والنظر إلى نقائصه – فهو ليس بكتاب مقدس – بهدف اِتساع الرؤية حتى يتسع مجال التعديل فيه وذلك إذا كان هذا البلد يمتلك بالفعل بناء مشروع دولة !
واستناداً على ذلك:
التقاء العسكري بالمدني في تقاسم عملية الغاء دستور 1951 وبمطلق العنان المرتبط بالعصبية والقفز من فوق الواقع وبتواطؤ الثقافة الحالية وطمس احداث التاريخ غداة السابع من اكتوبر 1951م، فإنّه لا يعني أكثر من فقدان التواصل مع إرث هذا البلد وتاريخه والإصرار على التمسك مباشرة- في استفراد وفي غبن- بمنهج الإعراض والتناسي والوصاية والهيمنة.
فبماذا يُعلّل هذا البلد هذا الإلتقاء وهذا التناغم وتشابه المقصد بين شرعية الانقلاب العسكري وشرعية الهيئة التأسيسية؟
هذا شيء لا يحتاج إلى مزيد بيان والفرق فيه راجع إلى الخيال والمزاج الشخصي لدى هذه الهيئة بكل حمولتها العصبية والعشائرية التي تقفل ابواب توسيع نطاق مشاركة الناس في صنع القرار السياسي المتعلق بدستور 1951 وتوسيع نطاق الاقتدار السياسي لديهم كمواطنينٍ.
فهل يرى هذا البلد هذا الإغراق في التعصب المحض ضد الإرث الليبي وما انجزه أصحاب اللجنة التأسيسة لمشروع كيان ليبيا الحديث عدلاً؟
لا مفرّ مِن أنّ مَن يتخلى عن إرث هذا البلد على أنّه لا يواكب العصر أو بأية حجج أخرى واهية، إنّما يتنكر – على غرار صنيع الإنقلاب العسكري- للتاريخ ويدخل في عالم العصبية الذي يعيق فهم الناس والمواطنين للتاريخ وللسياسة ذاتها مما يجعل الحرية كما أرادتها ثورة فبراير أمراً لا معنى له إنْ لم يكن عودة إلى سبتمبر 1969 ومنطقه العسكري.
فصياغة دستور جديد لا تعني بالضرورة اصلاحاً سياسياً أو تأسيساً لمشروع بناء دولة، بقدر ما تعني مصادرة حق الشعب الليبي في الإختيار الحر وفي فقدان أبسط شروط التفكير العقلاني المتزن.