ودستور جديد مبرقع بالترقيع
كيف يمكن أن ندرك، حينما نتكلم عن دستور جديد وبشغف متحيز مفعم بالغرور والزهو، أنّه بالفعل يفصح عمّا في ضمائرنا عملياً وواقعياً من دون الوقوع تحت سطوة الرغبة والتمني و تحت قباب اضواء عقائدنا ومسلماتنا والإنسياق عبر متاهاتها خارج نواميس الصراع السياسي العام إلى حد التعامي في الإنتقاء المتعسف من بين أفضلياتنا ورغباتنا لصوغه وصياغته وليس عمّا يجول في خواطر الناس وما يصبون اليه حاضراً ومستقبلاً ابتغاء مصالح ذاتية وليس لتحقيق الخير العام بل لتحقيق ما يفيد الساسة وعصبياتهم الإجتماعية وعشائرهم السياسية في اللحظة الراهنة مما يعطي للتاريخ اتجاهاً مهتزاً ينفصم عن الواقع وعن الوعي بالذات ويقوده في النهاية – شأن شرعية الإنقلابات العسكرية – إلى عواقب خطيرة جلّها الإستلاب والتخلف والتيه والتشظي وفقدان العمل السياسي الحر.
إنّ نفي وتجاهل حالة الإختلاف بين الليبين وإنْ شئت بعضهم حول مسألة دستور 1951 – التي ما انتهت بعد – إنّما هي مكابرة تعنتية وعناد مستفحل لا تساعد على البحث عن حلول تستند على مبادىء دستورية وعلى واقع التاريخ الليبي. إنّه اجحاف مسطّر في حق هذا الدستور وفي إعلاء شأن طمسه ونفيه تحت مشهدية عيون جميع المواطنين وفي ظروف هذا الوضع غير السياسي وغير الدستوري الذي يمر بحالة وحشية متكالبة وخالية من القانون.
فما جدوى دستور جديد إذا كانت الدعوة لصياغته تتجاهل أنّ قضية بناء الكيان السياسي المنظم ( الدولة) قضية نابعة من التاريخ الليبي ذاته وتحديداً عند بدء الإنطلاق من لحظة اصدار دستور 1951 بهدف تأسيس هذا الكيان. علماً ببطلان الإجراءات التي انتخبت على اساسها الهيئة نفسها على مشهدية من المنتدايات ومراكز البحوث التنموية والديمقراطوية وذلك لخلو هذه الإجراءات من الإنتخاب العام الذي يمثل كل الإطياف الوطنية والثقافية وانطلاقاً من النظرة إلى الناس على أنّهم رعايا قُصّر لا مواطنين.
لانسأل اذا كانت اجراءات عملية انتخاب ” الهيئة” قد تمّ القبول بها، فذلك له ذرائع يسوقها لك من لا يسمح للناس بممارسة دورهم وحقهم في رسم سياسة بلادهم، ولكن نسأل فيما اذا كانت هذه الإجراءات قد اتفق عليها اغلبية الناس وذلك مساهمة في العمل اسياسي المشترك باشتراط حقهم في الحرية والمساواة، فإذا كان الجواب بالنفي فليس أمامنا إلا أنْ ندين هذه ” المؤسسة” المعنية باعتبارها تقوم على ما يتعارض ويتنافى مع شرطي الحرية والمساواة، وبما يتعارض مع الإجراءات الدستورية ذاتها.
مازال هذا البلد وبقيادة مثقفيه ومنتدياته ” الديمقراطية” البائسة يتجاهل بأنّ الغاء دستور 1951 و”تعطيل العمل به” لعقود طويلة هو أحد أهم الأسباب الرئيسة للعنف الجاري في هذا البلد وتنامي إرادة ايقاع الأذى بنفسه على ايدي فرقاء النزاع. فكيف يقبل هذا البلد بهذه العبودية التي فرضها على نفسه ومن دون أنْ يحتكم الناس فيه لإنفسهم للخروج من هذه العبودية، ألا يمكن مساءلة ” الهيئة” عن الطريقة والكيفية التي تمّ بها انتخابها، وفي أيّ ظروف كانت، وما الأطياف الوطنية المشاركة فيها، فهل كانت نتاج عملية انتخاب وفقاً للمبادئ الدستورية في مجتمع لا تحكمه ماليشيات مسلحة ونزاعات سلطوية وتشتت قبلي وجهوي، أم إنْ هي إلا هيئة مطلقة لا مردّ لها ولحكمها وطقوسها ولا معقب على قرارها بأن تبرقع دستورها بدستور 1951.
وفي بلد غير آمن وفي حالات الاستئثار وتجاهل التعبيرات المختلفة ثقافياً وحضارياً التي يتكون منها هذا البلد تتضارب القواعد المرعية في المسألة الدستورية وتتشابك مع التطلعات والإهتمامات الشخصية والأمزجة الفردية لتحل اصواتها التي لا تعترف بالتاريخ محل صوت الناس، فصياغة الدساتير لا تتحقق بغير ارادة الناس، وليس تحت سطوة قوانين الغاب والغلو والتخبط السياسي والقلاقل الأمنية والتهديد التقسيمي الجهوي والحشد المليشياتي والتوتر الإجتماعي وتصاعد فورة النزاعات والإغتيالات والقصف الجوي ومن ثمّة :
هناك حكم مسبق بين التيارات السياسية والأحزاب الناشئة والساسة المستقلين وغير المستقلين ووسائل الأعلام شديدة الصلة بها وبالثقافة السابحة في بحور الفضاء الإلكتروني على أنّ هذا البلد لا خلاص له إلا بصياغة دستور جديد بمعزل عن أيّ واجب فيه من اعتبارتجاه السادة المؤسسين الإستقلاليين أو اعتراف بدستور 1951 متراس بناء الدولة وثمرة كفاحها.
فهذا الحكم المسبق المتسرع المنبثق من خارج ارادة الناس الحرة والذي لا يعكس فكرة الإحتكام للرأي العام وينفي الفاعلية عن التاريخ الليبي بشكل متماسك مريب والمتجلي الآن في تذاكي اسمه الـ ” هيئة التأسيسية” تتمثل في نواة جماعة عصبية، يجعل من هذا البلد يعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى، والذي بدوره يدفع المواطن إلى أن يتساءل ذاتياً إنْ كان بالفعل مواطناً في بلد قد تحرّر بالفعل أم في بلد تديره ميليشيات متزمتة و نخبويات عشائرية لم تخرج من فضائيات القبيلة والغنيمة ومن نظرية المؤامرة الفجة تبدل اسمالها في لمح البرق كأنها الشرارة قبل اشتعال النار .
ما يدعو للدهشة هو أنّ كثير من المثقفين والقوى السياسية المبعثرة والإحزاب الوليدة والمنتديات الجديدة والتي جميعها تشكل كثير من التيارات الرئيسة في البلاد، كانت ولا تزال تتحفظ بقوة وعناد على الدعوة للحوار ثم الإستفتاء حول دستور 1951 ولم تتحمس له استناداً إلى أوهام سياسية عتيقة تأثيمية فضلاً عن الجهل به أصلاً ولعقود طويلة كما لو لم يسبق أن سمعت به أو قرأت عنه، بينما هناك تيار يسرح في عماءٍ بين هذه التيارات متردداً حيال هذا المسألة ولا يلجأ اليها ويركب موجتها إلا في ساعات افلاسه السياسي والفكري على غرار دعوته للشرعية الدستورية عام 2005 وعندما تبوأ ابرز اعضائيه مراكز في سلطة ” المجلس الإنتقالي” بعد الثورة نكسوا لواء هذه الشرعية ذاتها و لواء دستور 1951. هذا دستور خانه أهله باستمرار حرصاً على فقدان الوعي به والجهل بقيمته التاريخية، حتى أضحى هذا الموقف الأخير مذهباً من المذاهب المتبعة في البلاد.
فثمة إرادة صلبة لكن لوأد الأساس التاريخي للكيان الليبي ومن ثمة لهدم بناء تقليد دستوري يوجه مسار هذا البلد المستقبلي نحو التطور والإزدهار والولوج به في معارج التقدم، فثمة اصرار عنيد لكن لطمس كل جهد انساني قام به مؤسسي دولة الإستقلال. فماذا يعني أن تُوجّه إرادة هذا البلد عبر إرادة منقوصة لإختيار ” هيئة” تصيغ دستوراًجديد اً وهي “هيئة” تمّ انتخابها على نحو لم يحسم الحقوق التعارضية في الحلبة السياسية ميدان النقاش والمساومة واستشارة الرأى العام أساس المشروع السياسي الديمقراطي، بينما تتقاعس هذه الإرادة في البحث عن هويتها الدستوية، دستورية الإستقلال واستحضار تاريخيته للتأسيس في مشروع بناء الدولة؟
لا يقتصر الشأن على هذه الإرادة التي ترتئيها هذه الهيئة المنتخبة عشوائياً والتي تعكس نزعة تقليدية عشائرية متأصلة في المجتمع الليبي أكثر من أيّ وقت مضى، فالعملية التي جرت بها انتخابها لم تتح الفرص المواتية لمشاركة أكبر عدد من المواطنين في صنع اختيار هذه المجموعة فضلاً على أنّها عملية جرت تحت استمرار مهانة كرامة وحرية التعبير عن الحقوق التعارضية المجتمعية عند سائر المواطنين.
فعملية اختيار هذه الـ ” هيئة” لم تكن إلا ممارسة بعيدة عن الإنصاف بل وظالمة شأنها شأن تأثيم دستور الإستقلال بجعله صنيعة بريطانية ولم تكن أصلاً تتلائم مع توزيع المشاركة السياسية الشاملة عند – على الأقل- معظم المواطنين وبالذات الأمازيغ والأمازيغية وبقية الأعراق الأخرى وتنامي جذورها في الوجود في ليبيا ففي حيويتها وتدفقها الثقافي والتي هي المدخل الحقيقي للعدالة وبناء المؤسسات الدستورية التي يعتمد عليها مستقبل هذا البلد.
فثمة من استكبار على إرث هذا البلد الدستوري والحضاري، وعلامات هذا الاستكبار أربعة :
أولها، الإصرار على الغاء دستور 1951 ورمزيته التاريخية والعملية وتجريده من جهد من صاغه وتأثيمه على أنّه صنعية بريطانية لخدمة اليهود، وثانيها التوجه عن عمد للشروع في صياغة دستورٍ جديدٍ بتمامه تقرّر سلفاً بذهنية التسلط وعدم الإعتراف بالخصوصيات الثقافية للأمازيغ ولأعراق الأخرى والتجاوب مع مطالبهم على أسس العدالة والمساواة والتفاهم والاحترام المتبادل، فصوغ دستور جديد ينبذ التعدد الثقافي ويتوجس خيفة من الإختلاف ويرتاب في التنوع اللغوي واللساني إنّما سيعمل على تغييب المضمون الانساني والحضاري للأعراق والثقافات الأخرى، وثالثها التعالي على إنجاز المؤسسين الأوائل مع دوام التعالي في عزّ الإنكارِ بحرفيةٍ صارمةٍ لهذا الإنجاز الذي صنع كياناً سياسياً إحقاقاً لكرامة الإنسان الليبي وخدمة للوطن رغم أنّه لم يبلغ مستوى الدولة العصرية ومصاف المجتمعات المتطورة، ورابعها حرمان الناس من حقهم في المشاركة السياسية الفعلية ومصادرة العمل الإشتراعي للمواطنة.
ولكي تزيد هذه ” الهيئة” من مشاهد الاستخفاف بالتاريخ وبالساسة القدماء وبعقول الناس تعلن على الملأ على أنّ دستور 1951 سيكون مصدراً من مصادر صياغة الـ ” دستور ” الجديد، وهي عملية ترويج سياسي فقاعي عبر فضائيات فقاعية يغدو عندها الخداع والتزوير وصياغة دستور جديد شيئاً واحداً إلى أقصى الحدود وما هو – في آخر المطاف – سوى دليل على بؤس هذا الدستور الجديد سلفاً بل ومجرد كونه شكل آخر من اشكال القمع وتضييق افاق التفكير لدى الناس.
ثمّ إنّ صياغة الدساتير لا تقبل منطق السطوالقسري ( كما شرع في ذلك المجلس الإنتقالي ثم المؤتمر العام في اصدار الإعلانات الدستورية دون الإشارة إلى المصدر) أو الإنقضاض القرصني على دستور 1951 والخلسة العصبيةعلى النحو الذي تروغه هذه الـ ” هيئة” بارتكاب جريمة على مشهد ساخر وهزلي يرثى له لجعله مصدراً من مصادر دستورها الجديد. فليس ثمة غير إرادة الناس الجماعية التي منوط بها أن تكون الإرادة المشرّعة الأولى، فالهيئة كما هي عليه هي جزء من جزء وليست جزء من الكل ومن ثمّة يصعب التصديق على أنها هيئة دستورية في هذا الوضع المثلوب رأساً على عقب. فلكي تكون هيئة دستورية ينبغي أن تكون جزء لا يتجزأ من الكل حتى يتوفر فيها النصاب القانوني والصبغة الدستورية ومن ثمة الحق في صياغة دستور جديد. فاقد الشيء لا يعطيه والبناء على الباطل باطل.
إنّ جعل دستور 1951 أحد مصادر دستور الهيئة الجديد هو دعوة صريحة لإغتياله على غرار صنيع القذافي بل وعملية تلفيق للتاريخ وترقيعه كقطعة من القماش بإبرة وخيط هش هشاشة بيوت العنكبوت.
فإذا كانت أهلية هذا الإرث مفقودة أصلاً عند هذه الهيئة فكيف تتلاعب به وتروغ أن تجعله من مصادرها في شهادة أنّها في حالة انفصام تاريخي يصعب فيها التقاء الدّر بالطين.
فماهية المواطن ترتبط بصفته القانونية المتمثلة في حرية عدم إطاعة أيّ قانون لم يوافق عليه، وعلى هذا البلد أن يتعرف جيداً على أنّ كلا المنهجين الإنقلابي العسكري والهيئتي التأسيسي ينفيا التاريخ الليبي عبر الغاء دستور 1951 وكلاهما يطمس الواقع الذي انتج هذا الدستور على نحو فريد ومريب ايضاً وكلاهما أبدع ويبدع في هذا الشأن بدافع من الإستعلاء والإستبداد في خدمة اهداف شخصية مسبقة.
فالهيئة على النحو الذي انتخبت عليه تنفي مسبقاً أنْ يكون للناس في ليبيا ارادة جماعية واعية ومقدرة سياسية حاضرة وتطلع مستقبلي هادف، ومن يتورط في ذلك البخس من قدر الناس فإنّه يتولى بالتبعية النهج على نهج الإنقلابات العسكرية وهو على كل حال اختيار حرّ مدخول الضمير لضيق نطاق الحيّز الديمقراطي.