قراءات

ولد بلاد تدق ناقوس الخطر وتشعل شمعة في نهاية النفق

غلاف رواية (ولد بلاد) للروائية “كوثر الجهمي”

للوهلة الأولى قد لا تتمهل كاتبة رواية (ولد بلاد) “كوثر الجهمي” بالزج بالقارئ إلى لُجّة أحداث (ولد بلاد) الصادرة حديثا ضمن منحة مؤسسة آريتي للثقافة والفنون عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع لعام 2024م دون توطئة تمهيدية بل دفعة واحدة لعل حساسية القضية التي تتناولها الرواية تستدعي هذا الاندفاع والمباشرة، إذ نطالع سبرا بانوراميا لشخصية “رشيد” ذاك الشاب البسيط المنحدر من أصول مغربية صانع الفطائر على عربته من أول الفجر حتى غروب شمس الأصيل قفبل أن يخرج من بيته لابد أن ينال حصته اليومية من أدعية وبركات جدته “أمينة” له بالخير والفتح لكنّ رشيد تعرّض لموقف يُذكّر القارئ بما تعرّض له الشاب التونسي في بلدة سيدي بوزيد التونسية “محمد البوعزيزي” ديسمبر 2010م هذا الموقف أدى إلى انفجار سياسي عارم في تونس وانتقلت ارتداداته لمعظم الدول العربية، رشيد أيضا صُودرت عربته وصُفع على وجهه مرات عدة ورمي بفطائره تحت عجلات السيارات فاختلطت بقايا العجين بتراب الشارع وحصواته كل ما حدث لرشيد شكّل مسارات انعطافيا لحياته المقبلة، ومن الخصائص الاستثنائية لدى شخصية رشيد أنه كثير التردد على الزوايا الصوفية ما جعله يتلاقى نشأة دينية شديدة الخصوصية وحين هبّت النيران من قميصه المهترئ ذهل الجميع والمثير للغرابة أن هذه النيران لم تترك أثرها على خارطة جسده قط ! ، فما لبث رشيد إلا أن فرّ من موطنه تاركا جدته العجوز المريضة فرّ إلى خارج الحدود واستقر به الحال بإحدى البلدات الجزائرية وتحديدا في عين ماضي عمل لسنوات بزاويتها كخادم لفت انتباه وعناية الشيخ القائم عليها سيما بعدما سمع أطراف من قصته، وفي آواخر عهده بزاوية عين ماضي أشار له العارف الصوفي بالزاوية أن النار التي لم تحرفك ولن تفعل ستحترق بذريتك يا رشيد ستحترق بذريتك، وربّت العارف على قلب رشيد بقوله : هذا ليس مكانك يا رشيد ثمة من يبحث عنك امض إليه، ومن هذه النقطة أخذ ملامح رشيد تفاصيلها الجوهرية حيث انتقل بواسطة شبكات التهريب إلى ليبيا لتبدأ حكاية رشيد الدرامتيكية.

خطاب يتماس مع تعقيدات الواقع
اعتاد القارئ في روايات كوثر الجهمي على طرحها للقضايا الاشكالية منذ باكورة أعمالها الروائية (عايدون) مرورا برواية (العقيد) وأخيرا رواية (ولد بلاد) فالخيط الرابط بين أول عمل روائي وآخر عمل يكاد يكون ثيمة مشتركا تنسج الجمهي على منوالها سرديتها المثقلة بأوجاع المهمشين والمقهورين داخل مجتمعنا المحلي فكوثر تتبنى خطابا أدبيا يتماس مع تحديات واقع المجتمع الليبي وتشابك تعقيداته المزمنة، فولد بلاد نص روائي يقتحم أتون حساسيّة مجتمعية تتشعّب أبعادها على الصعيد السياسي والاقتصادي والعرف الاجتماعي محاولةً رصد جذورها عبر شخوص المتن الروائي، وقضية عدم منح أبناء الليبية المتزوجة بالأجنبي تظل اشكالية أبرز ما يعوق تجاوزها الحرج الحضاري التراكمي للوعي الجمعي للمجتمع الليبي بعدم تسامحه مع هذه القضية التي بسببها تتصاعد أحداث ولد بلاد، فلازال الليبي حتى اليوم يتطرف لخرافة نقائه العرقي والإثني جاهلا بمعطيات التاريخ الذي لو عاد إلى مصادره مفتشا لتبيّنت له حقيقة مؤادها أن المجتمع الليبي في واقع تكوينه السيسولوجي خليط متجانس متعدد الأعراق والخلفيات الثقافية والحضارية بيد أن مفاتيح الجهل أوصدت أبواب الاكتشاف لتُنتج طبقات سميكة من الخوف والعدوانية إزاء بداهة الاختلاف !

الهُويّة سؤال لا ينتهي
فالقدر يقذف برشيد عقب استقراره في ليبيا لأن يعمل صانعا للفطائر بمخبز الصادق وهذا الأخير لديه شقيقة اسمها “مفيدة” لظروف قدرية أصيبت بشلل الأطفال صيّرها قعيدة الكرسي المتحرك ولّما توسّم الصادق النباهة والأمانة والاخلاص في العمل عند رشيد قرر أن يُزوّجه بأخته مفيدة وهو بهذا القرار يحاول صون شقيقته وحمايتها من آفات الزمن منقذا إياها من فكرة بدأت تستمرؤها وهي أن تستكمل حياتها على حافة الحياة فتجرأ الصادق على أن يُزوّجها برشيد المغربي بيد أن هذه الزيجة ستكون لها عواقب سلبية فمفيدة باقترانها من رشيد من سجل المواطنين إلى سجل الأجانب مما يعني بأنها ستفقد الكثير من امتيازاتها الحقوقية كمواطنة ليبية ورشيد شاب هارب من ملاحقة الأمن له في بلده الأم حتى أن الصادق ليس متأكدا من قدرته على منح جنسيته لأبنائه ! ، وهنا يتبدى المأزق الحرج لكن نظرا لما مرّ به رشيد من ظروف حسّاسة اضطر لقبول عرض زواج أخيها الصادق فرشيد يدرك أنه لولا إعاقة مفيدة لما فكّر الصادق أصلا في تزويجها شقيقته ! ، القارئ يلمس مشاعر متضاربة اختلجت في نفس رشيد ما بين ازدراء الذات وشعور المُشفق عليه، فأنجب رشيد من مفيدة -ماجدة ومجدي- وأورثهما تاريخ التهميش والهروب الذي تهجّاه رشيد منذ أن تلقى صفعات رجال الشرطة المغربية، يُولد مجدي مُحمّل بتركة ينوء بها ظهره خلّفها له والده رشيد بعدما دفع بنفسه لنارالفرن محترقا دون أن تمسّ النار جسده كما ورِث مجدي من أبيه مَلَكة صنع الفطائر والحلويات علاوة على قد فتح على حياته بوابات من حريق ليُطل سؤال الهُوية كغمامة صيف سوداء طوال سردية كوثر الجهمي، وبنحو قاسٍ تُنتهك براءة طفولة مجدي على يد طفل أرعن ويخضع لابتزازات القاصي والداني بغية أن يستخرج رقم وطنيا يُبرهن به على مواطنته الليبية ثم يهبّ عليه الحب من قلب جارته شهد، ويتذوق جسد الأنثى لأول مرة من ميّادة، إنه طريق شائك وطويل خاضه مجدي بتمزق ممضٍ طريقٌ جعل منه مجرما على سبيل الخطأ طريقٌ ورَّطه في حرب الإخوة ! لكنّ كوثر الجهمي ما فتئت أن أوقد شمعة وسط الظلام وعلّقت نجمة في سقف سماء هذي البلاد الملبدة بالغبار والمصابة بالياسمين.

مقالات ذات علاقة

إطلالة على ديوان «عمر آخر»

ناصر سالم المقرحي

رواية المُجنّد…أعراض أزمة الانتماء

مهند سليمان

رسائل تصل الشرق بالغرب على مائدة الأدب

مهنّد سليمان

2 تعليقات

سعاد سالم 13 أغسطس, 2024 at 12:11

قراءة بديعة ومشوقة، شكرا للكاتب والصحفي مهند سليمان.

رد
مهنّد سليمان 13 أغسطس, 2024 at 19:09

شكرا جزيلا لك أستاذة سعاد .

رد

اترك تعليق