تميزت الثورة الليبية عن غيرها من ثورات الربيع العربي بأنها تحولت إلى صراع مسلح بين شعب مصمم على نيل حريته ونظام يقوده رجل يؤله نفسه ولا يقبل أن يتمرد عليه البشر الذين يرى فيهم عبيدا له. لهذا كان ثمن إسقاط القذافي باهظا في الأرواح والأموال، كما ترك أيضا جراحا غائرة في نسيج المجتمع قد يلزمها وقتا ليس قصيرا لكي تندمل.
رغم هذا الاختلاف الجوهري بين هذه الثورة وبقية الثورات العربية التي انتصرت حتى الآن، فإن المشهد العام لمسارها بما يعترضه من عثرات وما يلوح في أفقها من احتمالات ومحاذير يجعلها تبدو في معاناتها كثيرة الشبه مع هذه الثورات، فبعد مضي نصف عام على إعلان التحرير وبداية أولى خطواتها على طريق تحقيق استحقاقاتها، تبدو الثورة الليبية باعثة للتفاؤل وللأمل لدى البعض ومثيرة للمخاوف لدى البعض الآخر كحال غيرها من الثورات العربية المعاصرة لها.
لا شك أن أول الاستحقاقات التي تواجه الثورة الليبية وواجهته قبلها ثورات الربيع العربي الأخرى هو استحقاق الانتخابات الوطنية التي تعتبر أهم الامتحانات وأكثرها صعوبة بالنسبة لمصداقية الثورة والثوار الذين حملوا السلاح وقاتلوا نظام القذافي تحت شعار الديمقراطية، فالانتخابات هي الآلية العملية لتطبيق مبدأ الديمقراطية السياسية المتعلقة بممارسة السلطة وهى التي تكشف عن الأوزان الحقيقية للقوى السياسية المتنافسة وعن نواياها التي كانت تختفي داخل خطابات عامة ومجردة عن المبادئ والقيم دون تفاصيل.
لعله من الأفضل أن ننظر إلى ما يمكن أن يواجه تجربة الانتخابات الليبية من صعوبات واحتمالات ناتجة عن البيئة التي تجرى فيها الانتخابات أو عن الإرث السياسي أو ما يمكن أن يأتي به المتنافسون من سلوكيات:
أولا- بيئة الانتخابات: تتميز البيئة التي تحيط بالانتخابات الليبية بظروف غير معتادة في التجارب الانتخابية بوجه عام، فمن أهم هذه الظروف وأخطرها هو انتشار السلاح فنظرا للمسار المسلح الذي اتخذته الثورة الليبية كرد على عنف النظام، أصبح السلاح في متناول كل فرد من أفراد المجتمع سواء كان منضويا في فصيل مسلح خاض الحرب ضد القذافي أو مجرد مواطن فرد أغرته سهولة امتلاك أنواع من السلاح وعدم الخوف من المساءلة عن حيازته من قبل الدولة التي لا تزال تواجه صعوبات كثيرة وكبيرة في السيطرة الفعالة على الإقليم.
لقد كان هناك تصور بعد إعلان التحرير بأن الدولة ستستطيع إنهاء المظاهر المسلحة وحل التشكيلات الثورية بحيث لا يأتي موعد الانتخابات إلا والجيش الوطني قد أصبح هو المؤسسة الوحيدة التي تسيطر على السلاح، ولكن هذا التصور لم يتحقق كما كان مأمولا رغم بعض المحاولات وذلك لأسباب تعددت ولكنها أدت إلى نتيجة واحدة وهي إن الانتخابات قد أصبحت على الأبواب وكل ليبي لا يزال بإمكانه أن يمتلك ما يشاء من أنواع السلاح.
وهذا بالطبع هو مصدر مخاوف البعض، لأن التنافس السياسي في ظل انتشار السلاح قد يدفع إلى استخدامه من قبل بعض الناخبين، فيجد البعض الآخر نفسه مضطرا للرد بذات الوسيلة فيتحول التنافس إلى صراع مسلح لا تستطيع الدولة أن تسيطر عليه، غير أن التفاؤل الذي ما انفك يواكب الثورة الليبية في مختلف مراحلها الصعبة يقف في هذه المرحلة أيضا في مواجهة هذه المخاوف محاولا الاستناد إلى حجج ووقائع تبرره وتقلل من قيمة تلك المخاوف.
من بين الحجج التي يسوقها المتفائلون الرافضون لفكرة تأجيل الانتخابات بدعوى انتشار السلاح، هي أنه مضى منذ قيام الثورة أكثر من عام ونصف وكل الليبيين مسلحون ومع ذلك فإن نسبة الجرائم التي وقعت خلال هذه الفترة لم تزد عن نسبة الجرائم التي كانت تقع في ظل نظام القذافي الذي كان يحرم حمل السلاح الأبيض، كما أن الصدامات المسلحة التي وقعت تم احتواؤها بسرعة وكانت أقل بكثير مما كان يتوقعه المتشائمون.
كما يستشهد هؤلاء ببعض الوقائع التي تعزز هذا التفاؤل ومن بينها الانتخابات المحلية التي جرت في بعض المدن لانتخاب المجالس المحلية ومن أهمها انتخابات مدينة بنغازي وهي ثاني أكبر مدينة في ليبيا، حيث جرى التنافس بحرية في جو من الأمن والنظام ولم يسجل أي ظهور للسلاح في مراكز الاقتراع وتم إعلان النتائج التي قبل بها الجميع دون أي رد فعل عنيف.
إذا جرت الانتخابات في موعدها المقرر في التاسع عشر من يونيو/حزيران الجاري ونجحت مثل ما نجحت الانتخابات المحلية فإنها ستكون من التجارب الانتخابية النادرة التي تجرى في بلد لا يوجد فيه جيش وطني ولا تسيطر فيه السلطة بفعالية على السلاح المنتشر بين الأفراد والجماعات.
ثانيا- الإرث السياسي: يعتبر الإرث السياسي ولا سيما الثقافة الانتخابية أحد أهم عوامل نجاح العملية الانتخابية ولكن لا يمكن الحديث عن إرث للثقافة الانتخابية في ليبيا لسببين:
1- لم يعرف الشعب الليبي الانتخابات سوى في فترة محدودة في ظل النظام الملكي امتدت من سنة 1952 إلى سنة 1964 وهذه التجربة بسبب قصرها لم تترك في الواقع ثقافة انتخابية، بل إن الجيل الذي شارك في آخر انتخابات برلمانية لم يعد الكثيرون منهم على قيد الحياة، كما أنه بسبب قصر عمر هذه التجربة لم يتح لها الوقت الكافي لكي تتطور وتتلافى ما اعتراها من قصور.
فقد منع النظام الملكي آنذاك تكوين الأحزاب السياسية وهذا حرم التجربة البرلمانية من أحد المكونات الأساسية للعملية الانتخابية، فلم يتعرف الناخب على التنافس بين البرامج والأطروحات الانتخابية التي تمثل كتلا سياسية كل منها يقدم رؤية شاملة على مستوى الوطن، فقد كان التنافس الانتخابي يتم بين المرشحين الأفراد على المستوى المناطقي مما أتاح للعامل القبلي أن يلعب دورا مهما في تلك الانتخابات فأدى هذا إلى ارتباط تلك التجربة في ذهن الكثيرين من أبناء ذلك الجيل، بالتنافس العصبوي وليس التنافس السياسي.
2- حاول القذافي طوال أربعة عقود غرس ثقافة معادية للانتخاب كآلية ديمقراطية وذلك من خلال ممارسة سياسة تجهيل على الأجيال التي ولدت بعد انقلابه العسكري الذي قام به في عام 1969 كما سن قوانين تجرم تكوين الأحزاب وكل الانتماءات الفكرية ما عدا نظريته العالمية الثالثة، فكان هذا بمثابة تجريف للتربة السياسية من كل مفاهيم وآليات الديمقراطية، فنتج عن ذلك إن الليبيين بمختلف أعمارهم يجدون أنفسهم مقبلين على تجربة انتخابية في ظل ظروف صعبة ودون إلمام بمعظم مفردات العملية الانتخابية.
ثالثا- سلوك المتنافسين: يعد المتنافسون في الانتخابات مكونا أساسيا في العملية الانتخابية وبالتالي فإن مسلك هؤلاء من خلال خياراتهم وخطاباتهم يساهم إلى حد كبير في نجاح هذه الانتخابات وفشلها في تحقيق غاياتها ولا شك أن هناك تحديا كبيرا أمام المتنافسين في الانتخابات الليبية، فالقبلية والمناطقية يمثلان إغراء بالنسبة لكل من يريد أن يراهن عليهما من أجل تحقيق الفوز، فالعصبية بمختلف أشكالها لا تزال تلعب دورا اجتماعيا مؤثرا ويمكن توظيفها سياسيا ولا سيما خارج المدن الكبيرة.
لقد سبق للقذافي أن قام خلال سنوات حكمه بتسييس القبيلة عن طريق إنشاء ما كان يعرف بالروابط الاجتماعية وهي في الواقع عملية مأسسة للقبيلة لكي تكون في خدمة النظام من خلال إعطائها أدوارا في مؤسساته السياسية الصورية مثل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ومؤتمر الشعب العام، وهذا لا شك تجذير لظاهرة القبيلة وإخراجها من دورها الاجتماعي لتكون أحد مكونات المجتمع السياسي.
هذا الدور المرتقب للقبيلة والمناطقية سيؤثر في سلوك المتنافسين وفي مفردات خطابهم الانتخابي وستكون القبيلة والمناطقية إلى جانب غياب الإرث الانتخابي وخطورة البيئة التي تجري فيها هذه الانتخابات، من أهم الصعوبات التي تواجه التجربة الانتخابية الليبية سواء جرت في موعدها المقرر أو جرى تأجيلها لبعض الوقت.