“جبتك ياعبد المعين تعاونّي لقيتك ياعبد المعين تنعان” ذكّرني بهذا المثل الشعبي البيان الذي أصدره الاتحاد الدولي للصحفيين ببلجيكا مؤخراً معبراً عن قلقه من الاعتداءات التي يتعرض لها الصحفيون في ليبيا ومطالباً حكومة الوفاق بالتحقيق فيها على النحو الواجب ومحاسبة المسؤولين عنها وذلك إثر استلامه لعريضة موقعة من قبل صحافيين ليبيين تتعرض باستفاضة للأوضاع السيئة التي يعيشها ويعانيها صحفيو ليبيا وما يلاقونه من اعتداءات واتهامات وتجريم وخطف.
لو أن هذه العريضة وما نجم عنها من بيان أصدره الاتحاد الدولي للصحفيين حدثت في زمن القذافي لكان لها شأن آخر ولتعاملت معها شخصياً بردة فعل مختلفة أما أن تكون حدثت في زمن ما بعد نظام القذافي فذلك والله باعث لحزن لا يوصف وإحباط مدمر نفسياً.
لدى اندلاع ثورة 17 فبراير عام 2011 كتب الروائي الليبي هشام مطر مقالة في صحيفة التايمز البريطانية تحت عنوان “الالتفاتة” وصف فيه حالة الخوف التي كانت تنتابه كلما نشر مقالة تتحدث عن نظام القذافي قائلاً إنه كان كلما سار بعدها في الشارع يظل يلتفت بين لحظة وأخرى خشية من تعقب أفراد مخابرات النظام له. هشام لم يكن مقيماً في ليبيا بل في أوروبا ومع ذلك لم ينج من حالة الخوف التي كانت عاملاً مشتركاً يجمع بين كل المثقفين والكتاب والإعلاميين في داخل البلاد وخارجها الذين انحازوا إلى حرية وطنهم وإنسانه وحقه في التعبير.
تجربة هشام الشخصية المأساوية المتمثلة في قيام نظام القذافي باختطاف والده المناضل المرحوم جاب الله مطر من بلد عربي وسجنه في سجن أبوسليم في طرابلس ثم قتله حادثة لاتنسى ونوصي من لا يعرف قسوتها بقراءة كتاب “العودة” الذي كرّسه هشام لتقديم سيرة مفصلة عن معاناته وأفراد أسرته لتلك الماسأة. وأذكر أنني حين انتهيت من قراءة تلك العودة المحزنة تذكرت تلك المقالة وأدركت بعمق وبتعاطف إنساني معناها وحجم الخوف الحقيقي الذي كان يسكن هشام الإنسان والكاتب والروائي والمناضل ابن المناضل.
هشام مطر ليس سوى حالة من حالات كثيرة جداً موثقة ومعروف ضحاياها ومنفذوها وبالرغم ما تثيره فينا من حزن إلا أنها حدثت ضمن مناخ سياسي مؤطر بالقمع والتنكيل انتهى غير مأسوف عليه. أما أن تحدث في مناخ سياسي آخر مختلف وُجِدَ ليكون بديلاً ديموقراطياً وساحة حرة للأقلام من كل ألوان الطيف السياسي فأمر لا يدعو فقط للدهشة بل والإحباط إن لم يكن الشعور بالغثيان.
إذ منذ نهاية ما أطلق عليه عملية “فجر ليبيا” في عام 2014 وما أدت إليه من أضرار وكوارث على المستوىات السياسية والاقتصادية والأمنية بدأت الساحة الإعلامية الليبية وخاصة في الجزء الغربي من البلاد في التقلص والانكماش حتى وصلت نقطة الصفر حيث نقلت معظم القنوات التلفزية والمؤسسات الصحفية مقراتها إلى خارج البلاد وقامت القوى المسيطرة على العاصمة طرابلس بتضييق الخناق على حرية التعبير ومنعت الصحف الورقية الليبية من دخول البلاد.
بعد وصول أعضاء المجلس الرئاسي إلى طرابلس استبشرنا خيراً وتوقعنا أن يتغير الحال ويسعى المجلس وأعضاؤه إلى رد الأمور إلى نصابها إعلاميا لكن سوء الحظ وقف لنا بالمرصاد إذ لم يتم رفع الحظر على الصحف الورقية بدخول البلاد ولم تشجع قنوات التلفزة المهاجرة على العودة عبر تقديم ما يلزم من ضمانات الحماية وبدأنا نسمع أخباراً أكثر إزعاجا وإحباطا عن خطف وقتل صحفيين والاعتداء على آخرين ومنعهم من القيام بواجبهم الوطني ومنع الصحفيين الأجانب من دخول البلاد ووضع كل العراقيل أمامهم وبدا وكأن الاعتداءات على الصحفيين الليبيين لن تعرف حدوداً وآخرها حدث خلال الأيام القليلة الماضية وبوجود السيد رئيس المجلس الرئاسي لدى حضوره حفل تخريج دفعة جديدة من رجال الشرطة حينما قام بعض أعضاء حراسته بالاعتداء على صحفيين علناً ومنعهم من القيام بواجبهم الصحفي في تغطية الحدث.
السؤال: إلى متى سيستمر هذا التكميم للأفواه ومن المستفيد منه وإلى متى ستتواصل عملية وأد حرية التعبير وفي أي مرحلة زمنية قادمة سوف يُعامل صحفيو ليبيا في كل أنحاء ليبيا بما يليق بهم ويستحقون من تقدير واحترام وثقة؟
عقب حصول الجزائر على استقلالها من فرنسا عام 1962 وقيام حكومة وطنية فرح الجزائريون باستقلالهم وبعودة بلادهم إليهم وشاركهم في أفراحهم كل أنصار الحرية في جميع مناطق العالم لكن فرحة الجزائر لم تدم طويلا لأنها دخلت بعد سنوات ثلاث في نفق مظلم وخلال تلك الفترة أدرك الجزائريون عمق محنتهم وربما شعروا بالإحباط والحسرة على ما قدموه من تضحيات تبين فيما بعد أنها حررتهم من قيود مستعمر أجنبي وسلمتهم إلى قيود مستبد وطني لذلك ظلوا يترحمون على الشهداء بنبرة شديدة المرارة: “الله يرحم الشهداء ما تم حتى شي.”
ونحن في ليبيا احتجنا للثورة لتساعدنا على الخروج من نفقنا المظلم إلى رحابة ضوء النهار ودفئه لكن تبين فيما بعد أن عبد المعين الذي طلبنا عونه كان في حاجة للعون أكثر منّا لذلك ليس أمامنا من خيار سوى مدّ يد العون له أولاً حتى لا نكرر ما ظل يردده بحسرة الجزائريون وثانياً والأهم لكي لا ينطفيء في قلوبنا قنديل الأمل.