د.نجيب الحصادي
تتمظهر ثقافة المجتمع في شكل نزوعات وميول وتصرفات تنبئ بقدر استعداد أفراده لتحمل مسؤولياتهم المدنية والسياسية والأخلاقية. غير أن إسهام جماع المسلكيات هذا في تشكيل خصوصيات المجتمع لا يقلل من أهمية الأفكار والرؤي والقيم في الأداء العام، فهي الموجه الحقيقي للسلوك والمقياس الأدق لدرجة وعي الأفراد، والمحفز أو المعيق الأعظم لتنفيذ أية مشاريع تنموية وأيا كانت التجليات الخارجية للثقافة المجتمعية، فإنها تصدر في النهاية عن مخططات عقلية تتطبع في عقول الأفراد، وتصوغ لكل جماعة خصوصيات ومسحا تميزها وبسبب هذه المركزية التي تحظي بها المنظومات القيمية، يلزم أن تتأسس برامج التنمية المستدامة علي رصد للأفكار القيمية الشائعة والمفاهيم المسبقة والميول الغالبة، بما تفضي إليه هذه الأفكار والمفاهيم والميول من استعدادات ذهنية ونفسية ووجدانية، وذلك بهدف استقراء دورها في إنجاح أو عرقلة الخطط الاستراتيجية التي تنهض عليها البرامج المستهدفة.
الكثيرين، حيث الولاء للقبيلة، عوضا عن كفاءة الأداء، معيار المفاضلة، وحيث تركن آلية التنافس إلي اعتبارات لا تعبأ بالصالح العام، بل تسهم في تهديده، وقد يجد أصحاب هذا الانتماء في غياب الجهات التشريعية الضامنة لحقوق الأفراد ذريعة تبرر لجوءهم إلي الحماية التي تؤمنها القبيلة.
من منحي آخر، فإن غياب الصحافة المستقلة وضعف مؤسسات المجتمع المدني جعلت المواطن يفقد الثقة في مصادر المعلومات التي تبثها الدولة، ويغترب عن التوجهات التي تدعمها، والمشاريع التنموية التي تقوم بتنفيذها، وهكذا نشأت نزوعاتاسترابية في قدرة الدولة علي تحقيق أي تقدم حقيقي، وفي تنفيذ أية مشاريع إصلاحية، فلم يعد هناك قدر كاف من الدوافع الكفيلة بتحفيز المواطن علي المشاركة في اتخاذ القرارات، الأمر الذي أدي بدوره إلي استنفار مشاعر الإحباط واليأس.
علاقة الجيل الطالع بالآخر، التي تشكلت رد فعل لعمليات التنشئة السياسية التعبوية، جعلته أشد امتثالا لذات الثقافة التي عملت تلك التنشئة علي رفضها وكيل التهم إليها. وهكذا تشكلت ميول التشبه بالمجتمعات الغربية، وعوضا عن فتح شبكة المعلومات قنوات أخري للمعرفة والاتصال، أصبحت إما أداة تكريس توجهات انغلاقية وظلامية ومتطرفة، أو مجرد وسيلة لتبادل الأخبار الشخصية..وبطبيعة الحال، تتضافر كل هذه المسلكيات في تغييب الإحساس بالأمن، وفي عوز الشعور بالاستقرار، النفسي تحديدا، بل إنها قد تجلب الإحساس بفقد معني الحياة بأسرها.
ولأن من لا يجد معني لحياته قد يلتمس معني لموته، المعنوي أو الجسدي، قد تجد أحاسيس الإحباط ومشاعر القنوط سبلا في إشباعها عبر ممارسات هروبية، تتراوح بين هجرة مكانية إلي الخارج، وهجرة زمانية إلي الماضي تورث إنكفاء علي الذات أو توجهشطر خيارات تتوسل العنف وسيلة في فرض وصايتها ولئن كانت هذه النزوعات لا تتمظهر عند الفئة الغالبة، فإن كثيرا منها يستبان عند أشخاص فاعلين في إدارة شؤون المجتمع، حيث تعطي آلية تقلد المناصب أولوية للولاء الأيديولوجي والقبلي علي حساب قيم الخبرة والكفاءة، ما يجعل من بعض تلك النزوعات مؤهلات لتولي مواقع مهمة، عوضا عن أن تكون حائلا دونها.
وغني عن البيان أن حظوظ هذه المسلكيات في التمكين من تبني توجهات تنموية ليست وافرة، فهي عرضة لأن تنتج ثقافة استباحة للمال العام، وثقافة استهلاك وفساد، ولأن تخلق شخصية محبطة لا طموحات لديها، فردانية لا يشغلها الشأن العام، ومنغلقة لا دوافع تجعلها تقبل علي الحياة.. يتبدي أيضا أن كثيرا من هذه النزوعات الطارئة أو الوافدة قابلة لأن ترد إلي ديناميات متشابكة، تتعين تحديدا في هيمنة القطاع العام، وهيمنة السياسي علي الثقافي، وانخفاض مستوي المعيشة، وتراجع دولة القانون، واختلال أساليب التنشئة الاجتماعية والهياكل التربوية.
ثمة إذن حاجة إلي نسق قيمي بديل يعزز ثقافة منتجة تسهم في تقدم المجتمع وانفتاحه علي الآخر والإفادة من تجاربه. ولكن ما السبيل إلي هذا النسق؟ أتراه جعل الوعي الثقافي حزم حوافز تولد طاقات داخلية تدفع إلي بذل جهود إضافية، عوضا عن أن يكون حائلا يستنفر سلوكيات تعوق آليات التطوير؟ وهل بقيت هناك فرص لعمليات التعبئة المؤدلجة والإقصائية، أم أن هناك حاجة إلي تبني أساليب أكثر انفتاحيه في تنمية الوعي؟ والأهم من كل ذلك، هل القيام بأي تغيير إيجابي في نمط المستوي المعيشي مرهون بإحداث تطور جوهري في نمط الثقافة السائدة، أم أن تحسين نمط المستوي المعيشي سوف ييسر في النهاية إحداث هذا التغيير؟
وأخيرا، وبحسبان أن شيوع أية نزعة سلوكية سلبية ليس سوي رد فعل لاختلالات سوف تختفي باختفائها، هل يظل بمقدور تأمين المصالح الاقتصادية وحقوق المواطنة وتكريس قيم الشفافية والمساءلة تغيير الأنماط السلوكية المشتبه في محاباتها لثقافة النهوض؟ وإذا كان ذلك كذلك، ألا يستبان أن إنتاج ثقافة بديلة لا يتحقق بالموعظة والإرشاد بل بخلق مناخ اقتصادي وحقوقي وقيمي تتناغم فيه حوافز المصالح الفردية مع أهداف الصالح العام؟