من ذكريات سنوات مضت
في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي تحصلت شركة مقاولات كان يملكها والدي وشريك له (رحمهما الله)، علي عطاء لبناء ثلاثة مباني مدرسية في بعض القرى و الضواحي المحيطة بترهونة ( ابيار مجي / الخضراء / الداوون ) وكان ذلك يعني تردد والدي على المنطقة لمتابعة تنفيذ بناء تلك المدارس فكان يصطحبني وأخوتي معه في بعض رحلاته إلى هناك.
بعض معالم ترهونة في تلك السنوات لا زالت صورتها عالقة في ذاكرتي…. مزارع أشجار الزيتون المتراصفة بدقة متناهية والتي كنا نراها على جانبي الطريق قبل دخول المدينة وبعد الخروج منها… المسجد الواقع في مركز المدينة والذي كان اللون الأحمر المميز لقبته وصومعته غريبا وغير معتاد في المساجد الأخرى، ولا أعرف مثيل له في ذلك سوى جامع الصومعة الحمراء بشارع السيدي في طرابلس.
كان على يمين من يقف مواجها المدخل الرئيسي لذلك المسجد طريقا تبدأ من مدخل ترهونة للقادمين من طرابلس وتمتد بعد المسجد ثم تنحني إلي اليسار لتقود إلي الطريق المؤدية إلي قرية “الخضراء”…. قبل منحنى هذا الطريق بمسافة صغيرة كان يقع الفندق الوحيد في ترهونة ذلك الوقت
كان مبنى الفندق ذا جدران سميكة ونوافذ كبيرة، كما هو الحال في كل المباني التي بناها الطليان في ليبيا لتناسب الطقس في الفصول المختلفة… وكان مالك الفندق والقائم على ادارته شخص ايطالي تساعده زوجته، وكانا يتوليان بنفسيهما القيام بكل متطلبات الفندق ونزلاءه من ادارة وتنظيف للغرف وطهي للطعام.
خلال العطلة الصيفية كان والدي يصطحب العائلة للإقامة لعدة أيام في ذلك الفندق فينشغل هو في متابعة أعمال البناء في المدارس بينما نبقي نحن في الفندق …. بعض الأطفال من سكان المنطقة كانوا وفي كل مساء يلعبون كرة القدم في أرض شاغرة تقع في الجهة المقابلة للفندق…تعرفنا أنا وأخواي إلى أولئك الأطفال واصبحنا أصدقاء نشاركهم لعب الكرة حينا ونتجول معهم في أحيان أخري في شوارع ترهونة الصغيرة والمحدودة في ذلك الزمن.
لا شك أن عقد الصداقات بين الأطفال بعضهم ببعض بعيدا عن تدخلات الكبار، هو من اسهل الأمور لديهم.
من ذكريات الإقامة في ذلك الفندق التي لا أنساها، هي لذة الأطباق التي كانت تعدها زوجة الإيطالي صاحب الفندق للنزلاء… كان طبق السباقيتي رائعا للغاية ولكن ما كان أروع منه هو طبق الستيك البقري الذي كنت أفضله ربما لأنه يحوي قطعا من البطاطا المقلية التي كنت اعشقها واعتقد ان كافة الأطفال يعشقون أكلها.
بعيدا عن وجبات الفندق لا زلت أذكر أيضا وجبة “المكرونة بالبصلة” التي تناولناها عندما دعى أحد مرشحي ترهونة لعضوية مجلس النواب في تلك السنوات (اذكر أن لقبه: الميساوي) دعى والدي وكنت وأخوتي معه “لعزومة” كان قد اقامها لسكان ترهونة كنوع من الدعاية الإنتخابية لترشحه وكان قد قام بنصب مجموعة من الخيام الكبيرة لإستقبال ضيوفه تحت ظلالها.
مثل هذه الولائم كانت معتادة خلال الحملات الإنتخابية ذلك الوقت لإكتساب أصوات الناخبين (عبي البطينة.. تستحي العوينة)…. سبب تذكري لهذه العزومة وما تناولناه فيها يعود إلى نوعية المكرونة التي استعملت في اعدادها فقد كانت من نوع المكرونة المعجونة بالبيض عند صنعها والتي كنت لا استسيغ أكلها، لذا بقيت عزومة الميساوى تلك عالقة في ذاكرتي رغم ما مر عليها من عشرات السنوات.
انقطعت علاقتي بترهونة بعد أن انهي والدي وشريكه بناء المدارس هناك…. ولكنها عادت بعد ذلك بعقود عندما عملت في قطاع السياحة لأجد ترهونة وقد كبرت وتغيرت وأمتدت مبانيها أفقيا في الاتجاهات الأربع، ولكن بقى جامعها القديم تعلوه قبته وقمة صومعته بلونهما الأحمر القاني المميز متوسطا مركزها كما كان منذ أن عرفته ولم يتغير، (الصورة).