المقالة

الخيميائي الذي فخخته الكلاب

سجن
سجن

في «البورتو بينيتو» سجن طرابلس الإيطالي الذي استرده الليبيون من الاستعمار بعد استقلالهم الوطني وصار سجنا وطنيا ومؤسسة عقاب وطنية، وصلت مع رفاق مكبلين بقيود أميركية الصنع «هي الأسوأ من بين كل القيود التي جربتها معاصمنا» بعد رحلة ألف كم قطعناها من سجن الكويفية ببنغازي، الذي بنته حكومات المملكة وافتتحته ثورة الضباط الوحدويين الأحرار باعتقال رجال حكومات المملكة ووضعهم فيه كمعتقلين سياسيين، وصلنا إلى «البورتو بينيتو» الشهير الذي افتتحه الإيطاليون بإيداع المجاهدين والمارقين الليبيين فيه إلى جانب أصحاب الجرائم الجنائية الأخرى قبل أن نسترده بالاستقلال لنلقي فيه بالمعارضين لدولة الاستقلال الوطنية الليبية إلى جانب الجرائم الجنائية الأخرى، ليتسلمه بعد ثورة الفاتح الضباط الأحرار ليلقوا فيه بأعداء ثورة الفاتح القومية العربية الإسلامية الاشتراكية والتي كان لا بد لكل شعار من شعاراتها أعداء متآمرون، فكان لشعار الفتح أعداء ولشعار القومية أعداء ولشعار العروبة أعداء ولشعار الإسلام أعداء ولشعار الاشتراكية أعداء.

في «البورتو بينيتو» لم نجد من أولئك الأعداء عدوا لتلك الشعارات، بل وجدنا ضحايا تلك الشعارات.

من بين أولئك الضحايا كان «العارف بوشاقور» شاب تبرز أسنانه طوال الوقت ابتساما وتبرز بطنه منتفخة رغم هزال بقية جسده المتعب. كانت بطنه مفخخة بالأكياس المائية.. تلك الألغام التي تنتقل للجسد البشري عبر الغذاء الملوث من الكلاب لتتمدد فيه وتفجره كلغم في وجه الحياة.

العارف بوشاقور كان ورغم آلام جسده المفخخ يصارع كل الآلام والقيود بالحلم لإكمال مشاريع حياته كمخترع. فلقد بدأ مشاريعه باختراع دراجة تسير على الماء وهي الاختراع الذي لفت أنظار السلطة له، ليقحموه في مشاريع تطوير لبعض الأسلحة، ولكن ذلك لم يستمر طويلا، بل اتهم بتصميم آلة تشبه ما يسمى الآن «روبوت» لاغتيال قيادات الثورة وأودع السجن.

العارف كان مصابا دون أن ينتبه بمرض الأكياس المائية، ومع التعذيب والسجن بدأت أعراض ذلك المرض القاتل في الانتشار، فانتفخ بطن العارف واشتدت المعركة بين جسده الهزيل المرهق بألغام الكلاب وروحه المتوثبة الحالمة.

لم يحصل العارف على العلاج والأدوية من سجانيه، ولم يكن أمامه من سلاح إلا الحلم والاختراع.. أن يخترع آلة.. فكرة تخرجه من قبر السجن وتنظف جسده من ألغام الكلاب، طاقية إخفاء تجعله غير مرئي للحرس ليخرج بحقل الألغام المزروع ببطنه إلى الحياة، ولا إمكانية ومواد لصناعة طاقية الإخفاء في «البورتو بينيتو»، فتحول حلم العارف من الهندسة والميكانيكا إلى الكيمياء، ولم يكن ثمة مراجع ولا كتب يمكن أن يستدل بها لدخول عالم الكيمياء. فتراجع إلى عالم الخيمياء وتختلط في أحلامه الكيمياء بما يشبه السحر ويتحول إلى شبح خيميائي يذوي.

لم يكن في متناوله إلا «القرآن» وكان الكتاب الوحيد المتاح دائما لسجناء ليبيا السياسيين فانكب العارف على قراءة وحفظ القرآن وتأمل آياته بحثا عن خلطة أو تركيبة يصنع بها خليطا سائلا يغلف به جسده ليختفي عن الأنظار، ليخرج حرا رغم ألغام الكلاب داخل جسده.

العارف بوشاقور لم يصل لتلك الخلطة السحرية لتحرره وتحرر أحلام المخترع من قيود وقهر السجن، فلقد بدأت ألغام الكلاب تنفجر داخله وتدمر جسده وتغمره بطوفان سمومها لتطير روحه متحررة من كل شيء من السجن والقيود والأحلام والاختراعات ومن ألغام الكلاب.

رحلة العارف بوشاقور تلخص، وعلى نحو بليغ، رحلة المعرفة والعلم والأحلام والتقدم والنهضة في ليبيا. إنها رحلة وأد المستقبل. فالليبيون، وككل شعوب الأرض، ظلوا وما زالوا يتطلعون للمستقبل ويحلمون ويحاولون تحقيق أحلامهم في الحرية والتقدم بالأحلام والعلم وحتى بالأوهام والخرافات. ولكنهم كانوا وما زالوا مخترعين وكيميائيين وخيميائيين وشعراء ومغنيين تفخخهم الكلاب بأكياسها المائية القاتلة وسط وطن مقفل.. وسط «بورتو بينيتو» و«كويفيه» و«بوسليم» ظلت تتوارثها الأنظمة والثورات، يحرسها البوليس والعسكر والميليشيات وحتى العصابات المسلحة.


بوابة الوسط | 15 مارس 2024م

مقالات ذات علاقة

النار النّدية (المعنى الشعري لمحمود البوسيفي)

مهدي التمامي

حكايات مصرية ليبية

فاطمة غندور

شعب الله العجيب

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق