عرض وقراءة في قصص (رمال متحركة) للقاص إبراهيم حميدان
تضم المجموعة القصصية الأخيرة، للكاتب إبراهيم حميدان المعنونة بـ (رمال متحركة)، خمسة وثلاثين قصة، ويمتد زمنها حوالي الثلاثين سنة من العام 1990 وحتى العام 2020. نُشر بعضها محدد التواريخ في صحف “أويا وميادين والمسار” وفي مجلتي “لا والفصول الأربعة “، والبعض الآخر غير محدد تاريخه، ولكنها تتقاطع معا بانتظام واتساق، مما يسمح لنا بالتعرف، الى حد كبير، على الإنتاج القصصي الإجمالي للقاص.
المجموعة مهداة الى السيدة زوجته سعاد العربي وأبنائه ريما واحمد ومحمد ويوسف، وصادرة عام 2022 عن دار بحر للنشر والتوزيع باللاذقية ـ سوريا العام 2022.
تتوافر في هذه القصص العناصر المتعارف عليها في فن القصة القصيرة من سرد نثري موجز يعتمده القاص إبراهيم حميدان، في صياغة حبكته، على وقائع وأحداث، قد تكون عادية يومية أو استثنائية مصاغة بخياله، تحدث في أجواء أمكنة وأزمنة يعايشها بنماذجه، محمولة غالبا على إيقاع متوتر مشحون، بانفعالات حادة تتركز على التناقضات النفسية والاجتماعية، التي تتجلى في مشاعر وسلوكيات وأفكار، تحملها شخصيات القصص، وهي تواجه ما يناقضها ويخالفها، فتتشابك معها في صدامات ومكاشفات صريحة، أو تحاول الافلات والهروب بما تثيره الحالات من حذر وريبة ومخاوف من اللا متوقع والغامض المجهول.
وقد تمنحك هذه القصص أحيانا لحظات نادرة للاسترخاء والتأمل، سعيا إلى يقظة تُنير الوعي بأسئلتها، خاصة في خواتيمها، دون الوقوع في الوعظ والإرشاد.
لذا أرى أن اختيار عنوان (رمال متحركة) عنوانا لهذه المجموعة هو تعبير عن جوهر رؤية الكاتب لحالة الواقع الذي يرزح تحت وطأة أوضاع سلبية خلقتها سلطات سياسية واجتماعية قد تتخفى أحيانا لكنها سرعان ما تكشّر عن أنيابها الحادة. فالرمال المتحركة تُعرّف بأنها خليط من رمل وماء، وتبدو، على نحو خادع، صلبة ومتماسكة قوية، لكنها وبمجرد السير عليها مثلا تظهر لينة متحركة غير ثابتة، قد تدفع المرء الى نهاية وخيمة، تصل الى الموت غرقا في أوحالها.
وإذا كان ذلك يحدث على المستوى المادي الطبيعي فانظر الى رمال المجتمع المتحركة، سياسيا واجتماعيا، التي إذا وقعت نخبه وطلائعه في حبائلها فقد تؤدي بالكيان الاجتماعي برمته الى السقوط والانهيار.
وفي قصة ” رمال متحركة ” ((جاء الخبراء من كل فج عميق…/ اجتماعات طويلة…/ البعض قال إنها استمرت أياما، والبعض الآخر قال إنها استمرت شهورا. وبعض المغالين قالوا إنها امتدت سنوات…/ قال لهم الأمين (الوزير) الجديد… / نريد خططا مقترحات تصورات استراتيجيات بعيدة المدى.. همتكم ياجماعة / وضعت الخطة، المقترح، التصور، الإستراتيجية.. في ملف أنيق، وأحيلت الى المسؤول. / اعتمد المسؤول الخطة. أحالها الى مسؤول أعلى منه في مغلف أكثر أناقة من الملف السابق. المسؤول الأعلى أحالها الى مسؤول أعلى منه. ثم حدث مالم يكن في الحسبان: انتقل الملف الأعلى الى الرفيق الأعلى. كيف؟ صدر قرار بحل الأمانة (الوزارة) وطار الأمين ـالوزير) السابق من منصبه. وذات يوم، ذات شهر، ذات سنة. جاء أمين جديد، يرتدي حلة جديدة، ويدحرج أمامه أمانة جديدة عوضا عن الأمانة السابقة التي صار يطلق عليها (الأمانة المنحلة!!!). نادوا على الخبراء، قال الأمين الجديد لمن حوله. جاء الخبراء من كل فج عميق. قال “نريد خططا مقترحات تصورات استراتيجيات بعيدة المدى.. همتكم ياجماعة!”.. همس أحد الحاضرين في أذن زميله: هناك تصور لهيكلة جديدة، سيؤدي الى إلغاء الأمانة الحالية، ونشاء جسم غداري بديل بتسمية جديدة وأمين جديد!!))*.
وفي سياق القراءة لمجموعة (رمال متحركة) نلاحظ أن عالمها يمتلئ بالصراخ، المصاحب أحيانا بالسباب والضرب وبالخبط والدق وأصوات الأبواق والصخب والحركات الانفعالية العصبية، تعبيرا عن حالة من الغضب والسخط والضيق الشديد الى درجة العصاب، لا يجد الأفراد متنفسا فيها غير الصراخ مخرجا لمآزق تسجنهم أو تحاصرهم أو لأوجاع يعانونها ولا يدركون كنهها، أو تكون فعلا واعيا يجسد التمرد أو رد فعل على ضغوط تواجهها الشخصيات.
وبالمقابل، تظل هناك الرغبة في الصراخ كامنة، مكتومة، وذلك عندما لا يتحقق بفعل شرط اجتماعي واقعي، أو عند الوقوع في حالة نفسية خانقة تصيب الشخصيات بالشلل، وتمنع بالتالي امكانية القدرة عن التعبير عما يجيش في خواطرها والافصاح عن مكنونات ذواتها:
((لا أعلم عدد المرات التي صرخ في وجهي هذا المعلم أو ذاك بكلمة ” يا حمار” ـ ما زلت أذكر ذلك ” الكف الرياحي ” الذي صوبه نحوي مدرس الحساب ـ كانت الصفعة مؤلمة ـ ذلك الرجل النحيل العصبي الذي يصرخ بين الحين والآخر أثناء شرح الدرس، وهو يخبط السبورة بيده في هستيرياـ عدت الى مقعدي على إثر صرخة المعلم ـ صرخ في وجهي غاضبا “قصة الصفعة” / أخفضت رأسي مطوقاً بيدَيِّ.. وغبت في صرخة واحدة “قصة مشوار” نشرت في صحيفة تحت عنوان ” الصرخة الأخيرة” / مر زمن طويل ونحن نركض، يطاردنا صراخ يشحن جسدينا بقوة واندفاع هستيري ـ صرخت بأعلى صوتها ـ رحت أصرخ بلا صوت ـ اختلطت المرئيات والأصوات، لم أعد أميز شيئا ـ امتزجت صرخاتي بصرخات أميرة، بصياح الطيور السوداء ” قصة الطيور الجارحة”/ يجاهد أن يصرخ فلا تسعفه الحنجرة.. غصة موجعة انغرزت هناك “قصة العاشق”/ عليَّ أن أصرخ. عليَّ أن أنهض.. وأنجو بجلدي ـ ها هو يصرح متألما. وها هي كوة صغيرة تنفتح ” قصة الجثامة” / سكت أذاننا صرخات نسائية متتالية حادة ـ صرخات قوية ملتاعة ـ توقفنا عن الصياح والتدافع “قصة الخبز” / يصرخ طالب ملوحا بقبضته “قصة درس اليوم” / تشنج وجهها ثم أطلقت صرختها المدوية اسكتووووـ سمع جميع سكان المدينة صرختها في تلك اللحظة. قصة “درس في الكمبيوتر”)).
ويمكننا اعتبار “قصة الصراخ” مثالا “صارخاً” في هذا الصدد، حيث تبتدئ أحداثها بـ ((خروج بطلها من البيت غاضبا بسبب تشاجره مع زوجته حيث يقول: (دخلت معها حالة من الجدال العصبي المليء بالصراخ… وأسرعت نحو الباب، وصفقته خلفي، وأنا أنفض صراخها عن ثيابي) وبعد أن يقود سيارته وهو ينفث دخان سيجارته بعصبية ضاغطا على دواسة البنزين، يسمع صوت بوق خلفه لسيارة فيها (شابين يصرخان، ويرفعان أيديهما نحوي بتوتر، وكأنني ارتكبت إثما شنيعا. ودون أن أفهم سبب احتجاجهما، وجدتني أرفع ذراعي نحوهما، وأصرخ فيهما بقوة.) ثم وبعد تجاوزه لزحام علت فيه أصوات أبواق طابور السيارات، يتذكر جاره الذي تشاجر معه منذ يومين قائلا له: (حرام عليك يا رجل! طول الوقت وأنت تخبط على الجدار، وتدق بدون توقف) ويضيف (فلا أصحو” إلا” على صوت صراخك وصراخ أطفالك أو زوجتك، أو على أصوات الدق والخبط المتواصلة على الجدار الذي يفصلني عنك خبطا جعلني أبتعد وأسرتي عن هذا الجدار خشية أن ينهار يوما علينا بصخب قاتل) ثم ولأن ثمة سيارة متهالكة تسير أمامه (رفعت يدي صارخا أن يفسح الطريق، واتبعت ذلك بضغطات متتالية على البوق…. وعندما أصبحت بمحاذاته، فتحت النافذة اليمنى وصرخت به بقوة، فصرخ، وراح يلوح بيده المتشنجة نحوي في احتجاج واضح، وهو يضغط على بوق سيارته ليدعم شتائمه واحتجاجاته) وتستمر الطريق لكنه يضطر إلى التوقف بسبب الإشارة الضوئية الحمراء (ارتفع بوق السيارة التي ورائي…. حدقت في المرآة، فوجدت السائق يشير نحوي بيده أن أنطلق…. خاطبته في المرآة، وصرخت وأنا أشير الى الإشارة الضوئية ” حمراء.. حمراء، يا حمار، يا حمار”. وحين أصبحت خضراء انطلقت، ثم انحرفت قليلا الى اليمين مفسحا الطريق لذلك السائق المتعجل الذي أبطأ من سرعته وهو يحاذيني، وراح يصرخ بي. فرحت أصرخ أيضا، وأنا ألوح له بيدي المتشنجة نحوه، ثم صرخ بكلمة نابية، واندفع مسرعا الى الأمام. أحسست بفداحة الإهانة، وصممت على اللحاق به…. وعندما أصبحت سيارتي بمحاذاة سيارته تماما، التفت إليه وصرخت بكلمات حادة. وأخذ هو أيضا يصرخ ملتفتاً نحوي تارة وإلى الطريق مرة أخرى. لم أستطع أن أتبين كلماته. لابد أنه لم يكن يسمعني. كان كل منا يحاول أن يصرخ بأعلى ما يستطيع، وبأكثر الكلمات بذاءة وفحشا. وفي لحظة توحد صراخنا. وصار صرخة واحدة طويلة. ثم أظلمت الدنيا أمام عينَيّ، وغاب عنّي كل شيء)).
وقد نرى هذا المشهد مكثفاً، وخاصة في البعض من قصص ” رمال متحركة”، يتجسد في صورة تتماثل واللوحة العالمية الشهيرة ” الصرخة” للفنان النرويجي ادفارت مونك التي أصبحت شخصيتها المرهقة ذات الوجه المتألم الصارخ رمزا للخوف والرعب بشأن الوضع الذي تعايشه أو الأفق المخيف الذي تراه وتتوقعه وبما يغمر اللوحة وأيضا القصص من مناخ طاغ لحالة من الكآبة والوحدة والذعر، وبحيث تحمل شحنة درامية مكثفة للقلق الوجودي والمعاناة من سطوة المناخ الكابوسي.
ولكن هذا المناخ الكابوسي لا يسود معظم قصص “رمال متحركة”، التي تتوزع بين مدرستين أو اتجاهين رئيسيين في الأدب والفن وهما التعبيرية والواقعية.
فنجد أن عالم القصص يأخذ منحى الابتعاد عن منطقية العلاقات الواقعية، وخاصة في مجموعة من القصص المحدودة العدد، والطويلة نسبيا، وفي المرحلة المبكرة حسب تواريخها، حيث يلجأ السرد فيها إلى الغرابة والرمز والتورية، ويتم تشويه الأشكال والعناصر بما يتلائم والمشاعر والحالات الذهنية التي يجيش بها العقل أحلاما وكوابيس لشخصيات محاصرة تعيش توترا وقلقا بسبب وقائع وأحداث تخرج عن المألوف، بهدف احداث تأثير انفعالي قوي مستفز يدفع الى معايشة تجربة الشخصيات واستيعاب أسئلتها ومن ثم الإحساس بمعاناتها من الضغوطات النفسية الاجتماعية التي ترزح تحتها في مجتمع يسوده القمع والوحشة والأخلاق الزائفة وكل ما يجعل الحياة جحيما.
ففي “قصة مشوار” ((تتحول النزهة المبهجة لبطل القصة مع المرأة الجميلة إلى كابوس مرعب، حيث يكتشف بأنها أم لسبعة أطفال، تكبره بكثير، بشعة، تحدثه وهي تقود سيارتها عن نجاتها من محاولة زوجها قتلها، مما أدى إلى بتر رجلها التي استبدلها بأخرى اصطناعية، تخلعها وتلقي بها إليه. تتبدل أجواء الفرح والعذوبة، تخلو الشوارع من المارة، ويلفها الظلام، تمتلئ الأرصفة بالنفايات ذات الروائح النتنة. وحين طلب منها خائفا مرعوبا أن تخفض السرعة، بحجة أن الطريق مليئة بالحفر والأحجار، تطفئ نور السيارة بالكامل وتضغط على الوقود)).
وحين يفيق بطل “قصة الطيور الجارحة” من نومه يتفاجأ ((اكتشفت بأن رأسي مقطوع. والسرير غارق في الدماء. وسيف ملطخ بالدم يرقد إلى جواري. تعوذت من الشيطان وهتفت متذمرا: ما هذا الكابوس؟)، ولكنه بعد أن يتوجه إلى الحمام لغسل وجهه يكتشف بأن رأسه مقطوع حقا. (تساءلت: ما هذا المأزق الجهنمي؟ إنها ورطة حقيقية، وعليًّ أن أجد مخرجا منها قبل أن يدركني الجنون. ولكن كيف؟) تذكر لقاءه بالفتاة التي أحبها أيام الجامعة، وأخبرته عن شراسة زوجها، القزم المشوه، الذي زجها به في مستشفى للأمراض العقلية والنفسية، وأنه وحراس المستشفى يطاردونها، فاقترح عليها أن ينتحرا معا، لكنها كانت ظمآنة وجائعة، فدخلا مطعما طعامه يفوح برائحة كريهة، حيث اكتشفت زوجها والحراس الذين أخذوا يطاردونهما وهما يركضان (.. مر زمن طويل ونحن نركض، يطاردنا صراخ يشحن جسدينا بقوة اندفاع هستيري)، ثم وفي العراء المقفر القاحل (رأيت السماء مغطاة بأكملها بأسراب هائلة من الطيور. طيور سوداء…. تندفع نحونا بشكل عمودي، يتطاير من عيونها الشرر… امتزجت صرخاتي بصرخات أميرة بصياح الطيور السوداء…. وفي اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة، شاهدت القزم الأعمى يحمل بيده اليسرى رأس أميرة ملطخا بالدم، وبيده اليمنى يحمل سيفا مصقولا يشهره في وجهي… أحسست بشيء حاد ينفذ عبر عنقي. قلت لنفسي: لابد أن الوقت قد تأخر الآن. …. لقد تأخرت، نعم. آن لي أن أنهض، وأتحرر من هذا الكابوس اللعين.. اكتشفت بأن رأسي مقطوع. والسرير غارق في الدماء. وسيف ملطخ بالدم يرقد إلى جواري. تعوذت من الشيطان وهتفت متذمرا: ما هذا الكابوس؟)).
ولغرض تقديم إضاءة أعمق لا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما كتبه الناقد والشاعر “محمد الفقيه صالح” عن مجموعة القاص يوسف الشريف المعنونة بـ” ضمير الغائب” الصادرة في العام 1986، والتي قد يكون لها الأثر الملحوظ على تجربة إبراهيم حميدان في بعض قصص ” رمال متحركة” إلى جانب كتابات عربية وعالمية.
يرى الفقيه بأن عالم قصص الشريف، وينطبق هذا على قصص حميدان ـ حسب وجهة نظري ـ إلى حد كبير، يصير عالما كابوسيا فنتازيا، بل وخياليا، وحيث تهيمن لغة المونولوج والحلم والتداعي الحر الذي يصل إلى حدود الهذيان.
ففي “قصة فلسفة ” لحميدان ((تتشظى أفكار بطلها وتختلط بحثا عن المعنى في الحياة التي يعيشها، كمتاهة مخيفة، محبطا مرهقا مثقلا بالتعب، وهو يعاني الوحدة والشعور بالتفاهة والفشل. وبحيث تصبح الحياة مثل الهرم الذي يصعده الانسان درجة، درجة. وكلما اقترب من نهاية الهرم اقترب من نهايته)).
أو يعاني في “قصة العاشق ” التمزق والتناقض في العلاقة مع حبيبته حيث ((حضورك يفجر الشرر في رتابة أيامي القاحلة، وغيابك يرميني في وهاد القلق والانتظار العبثي.. لكنها تنفجر ضاحكة، وهي تراه يتخبط في غيرته السامة.. فتجيء إليه خلسة.. تتسلل حافية، وتسير بخطوات مكتومة عبر أحلامه. وعندما يكتشف وجودها، يندفع نحوها بعصبية.. يغمد أصابعه في عينيها وخنجره في قلبها)).
ويرجع الفقيه صالح ذلك العالم، في الأدب، إلى غياب الحرية السياسية، وحيث يبدو العالم كزنزانة والناس يرسفون في الأغلال.
وبالمقابل، نجد أن القاص إبراهيم حميدان، وخاصة في المرحلة الثانية، وفي القصص القصيرة نسبيا، والتي لا تتعدى الصفحة الواحدة، يقدم الأشياء والشخوص والعلاقات المترابطة والمتشابكة، بصورة واضحة، كما نراها في العالم الحقيقي الواقعي، في أبعاده المتعددة، مع احتفاظه بتعاطفه مع شخصياته بعد انتهاء الحدث. فالراكب في “قصة طالبة من القربوللي”، ((يغادر الميكروباص، لكنه يظل قلقا، وهو يفكر في سعاد، متمنياً ألا تتعرض للضرب من عادل، التي أصرت السيدة في الخمسين، احدى الركاب، وهي تتكلم في الهاتف، تحت وطأة الانفعال والتوتر، أن ينهض من النوم، و”يمشي يعفج سعاد طريحة”)).
وقد تتمازج الأساليب التعبيرية والواقعية، وبما يبقي أجواء الهواجس والكوابيس حاضرة، تفزع روح الشخصيات، وهي تتعايش مع تفاصيل واقعها اليومي والمعتاد. وعلى سبيل المثال عندما يسافر بطل “قصة زجاجة بيرة” إلى الخارج، يضطر إلى التوقف عن شرب زجاجة البيرة الثانية حين يكتشف وجود مجموعة من أبناء وطنه، أحدهم زميله في العمل، يختلسون النظر، ضاحكين، إلى الزجاجة الممتلئة الباردة. قال لنفسه ليقولوا ما شاء لهم، سأشربها، ولن أتركها تحرق خاطري، لكنها تسقط من يده. فيسرع مغادرا المكان.. ثم حلم، وهو نائم في فراشه، بواقع ما يحدث في بلده، في هذه الحالة، بأنه في مركز الشرطة، وقد تحلق حوله جمهور من الناس، وجوههم وجوه الأشخاص الذين كانوا معه في المطعم، وإلى جواره واقفا زميله، يرفع سوطا ًويجلده على ظهره، وهو يضحك، فيما الجمهور يصيح: السكران دار العار، حطوا شلاتيته في النار)).
وفي الإجمال، تحافظ القصص على التركيز على الجوهر الرئيس لموضوعها، أفكارا أو نماذج أو وقائع، بدون الإخلال أو التفريط في بعدها الجمالي، وبالرغم من عدم إخفائها لتحيزها في اتخاذ موقف تجاه كل ذلك.
ولا تغيب اللوحات في القصص، ولا الصور القلمية، بما يشير إلى العناية التي يوليها إبراهيم حميدان، وهو يرسم نماذجه وشخصياته، التي يقدم عبرها أسئلته وهمومه، بتبيان تميزها الخاص وإشكالياتها، وإيضاح حالاتها ومقاصدها، في أبعادها المتعددة الجسمية والنفسية والعمرية واللغوية، فعلا وقولا، وعلى نحو مكثف موجز وضروري بأسلوب الهجاء الساخر.
فالموظف في ” قصة حدبة” الذي ((أدرك أن ترقيه الوظيفي يتطلب الانحناء، يأخذ في الانحناء يوما بعد آخر، وكلما انحنى أكثر، صعد في سلمه الوظيفي.. إلى أن سبق زملاءه ثم من بدؤوا قبله. وهكذا نبتت له حدبة فوق ظهره، وراحت تكبر كلما زاد انحناء، حتى صارت ثقلا يمشي تحته بظهر لا يستقيم)).
أما الناس في “قصة تعهد” ((والذين يصوتون للمرشح الذي فاز في الانتخابات فوزا كاسحًا تحت شعار: أتعهد بأنكم سوف تَرفلون في الرّخَاء، سيلاحظون، بعد مرور شهور وسنوات، بأنهم صاروا يرَفَلون في شيء مثل كلمة الرخاء من حيث تشابه الحروف، ولكنه يختلف عنه من حيث الرائحة وترتيب تلك الحروف)).
وفي خضم هذا العالم الذي يعج بسلبيات كثيرة، ليس للمرء إلا الصراع والمقاومة حلا للخروج والنجاة من الوحدة والحصار الخانق التي يتمثل في الوحش النتن الذي يطارده في “قصة الجثامة” ((بضربة غادرة لطمني على وجهي. فوجئت بالضربة المباغتة. تقهقرت مترنحا وأنا أرفع كفي نحو وجهي، وأتحسس الدم الذي انفجر من أنفي. مهتاجا هجمت عليه أنوي قتله. ولحظة أن أغمدت الخنجر في صدره انفجر بالضحك.) ثم يستأنف مرة أخرى (سددت نحوه خنجري. فتح فمه وابتلع الخنجر. تعالت الضحكات من حولي…. حلقي جف وشفتاي يابستان.. أريد أن أشرب الكوب بجانب السرير على الكوميدينو.. لكنني لا أقوى على تحريك يدي…. إنه يقف خلف الباب. كلا إنه تحت السرير…. إنه يفتح فمه الهائل ليبتلعني.. الألم يمزقني.. أعضائي يقطعها جزءا جزءا ويأكلها. ها أنا أنحدر إلى قاع معدته الرخوة. ها أنا أدس يدي في جيبي وأسحب خنجري مرة أخرى أغمده في لحمه. وأشرع في تمزيق جسده من الداخل. ها هو يصرخ ألما. وها هي كوة صغيرة تنفتح، فأعبر منها قافزا إلى الشارع المزدحم بالناس)).
وكان لابد مع كل كوة أن يتفتح الأمل؛ الذي يتجسد في حضور قوي للأجيال الشابة في قصص حميدان، وبالخصوص الأطفال، الذين يحتلون مساحة نوعية في ” رمال متحركة”:
فهم الذين يقدمون المساعدة لأبائهم حيث يتولون المسؤوليات ولو كانت بسيطة ففي ” قصة الانحناء” ((يتطوع شاب، وبسرعة قياسية، بتغيير دولاب سيارة، أصابه العطب، لصاحبها الذي يعاني من آلام الظهر، كان يقودها شارد الذهن، مشغولا بالقرار الذي قرر أن يتخذه بخصوص طلب إعفاء من وظيفته. (لن أعود إلى سابق عملي، هذا قرار نهائي. سأقول للمدير، عندما يستدعيني غدا، كل شيء إلا الكرامة.. نحن نعمل في جهاز الدولة.. ولسنا عبيداً لك!).
وبالتالي هم الداعمون معنويا حيث يقول الشاب للرجل صاحب السيارة: (حين رأيتك تهم بالانحناء، قلت لنفسين انحناءة الناس الكبيرة صعبة) فيعود الرجل (مجددا أفكر في لقاء الغد، وقد ازداد تصميمي على ما عزمت عليه)).
وهم المتشبتون بأحلامهم رغم ما يكابدونه من شظف العيش والظلم والقهر الطبقي الاجتماعي. ((فالطفل الذي يبيع الكلينكس عند الإشارة الضوئية، يظل مشدودا إلى متابعة صياح أترابه، وركضهم، وهم يلعبون الكرة في الجوار)) “قصة بائع الكلينكس”.
وهم الرافضون للأساليب التربوية التي تجعلهم ((لا يحبون المدرسة، رغم أنها مزدانة بالمراجيح، والسلحيبة، والكرات، وألعاب أخرى، فقد أبصر الطفل (معلمة تسير على الرصيف المحاذي للحديقة، وفي يدها عصا)) ” قصة الطفل يبكي”.
ولذا فإن الأب في قصة “الصفعة” ((بعد أن جاءه ابنه يشكوه بأن المعلمة قد وصفته بالحمار وصفعته، سيظل على يقين، وهو يخطو باتجاه المدرسة، بأنه سوف يجد داخل المبنى أبناء وبنات الأستاذ “هتلر” والأستاذ “عنتر” وأمثالهما من المعلمين الذين درّسوه منذ أكثر من ثلاثين سنة)).
وهم الحاملون للمعرفة الجديدة المضافة حيث ((يتفوق التلميذ على معلمته)) في “قصة درس في الكمبيوتر”.
وينبه القاص إبراهيم حميدان إلى خطورة أن لا يتم اعداد البيئة الصالحة التي يترعرع في أحضانها أبناء المستقبل وحتى لا تسلب عقولهم وأأأأأأإإأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأألأأتجهيل أفكار الفوضى التي قد تعمي المدارك، وحتى لا يكون العنف المضاد هو السلوك الذي يدفع الطلاب في “قصة درس اليوم” إلى ((رفض أداء الواجب ثم مغادرة فصولهم وإعلان الاعتصام. وعندما يسألهم المدير عن السبب يعلنون عن مطالبهم بطرد المعلم الذي تجرأ وسأل الطالب عن الواجب. فلا امتحانات بعد اليوم. يريدون النجاح جميعا، وبتقدير ممتاز.. وأن يأتوا إلى المدرسة ويغادرونها ساعة يشاؤون. ثم يصرخ طالب ملوحا بقبضته: لا ديكتاتورية بعد اليوم. ويردد الحشد الطلابي الهتاف وراءه، واندفعوا نحو المدير. حين جاءت الشرطة، كان المدير راقدا في المستشفى، يئن من أوجاع ناجمة عن إصابات في ساقه وصدره وذراعيه، وكان الأستاذ الذي سأل عن الواجب غائبا عن الوعي في غرفة الإنعاش)).
وعلى ضوء ذلك علينا أن نتفهم العصر، وما يتيحه لنا وللأجيال الجديدة من معارف جديدة تساهم في تحرير العقول وبالتالي تمكنننا من تخطي رؤانا وأساليبنا القديمة، وهذا ما يدركه الكاتب في قصة ” الطفل والعصفور” حيث أنه ((كتب قصة جديدة، وراح يروي لطفله، البالغ من العمر 5 سنوات، بأن طفلا وجد، ذات صباح، في الشارع، عصفورا يتقافز متعثرا هنا وهناك. ركض الطفل نحوه وأمسك به. اكتشف أن ساق العصفور مجروحة، فضمد له جرحه بمساعدة والده وراح يسقيه ويطعمه كل يوم و… وهنا يقاطع الطفل أباه الكاتب قائلا: قصدك أن قصتك عن الحرية؟ ثم استطرد: ليست حلوة يا بابا.. قصتك ليست حلوة. ثم نهض، وراح يركض بعيدا عنه. مزق الكاتب قصته، وأدرك أنه لا يصلح لكتابة قصص لأطفال هذا الزمن)).
ندوة عن القاص إبراهيم حميدان، نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون 7 يناير 2025