النقد

عن الخفة في نسيج الشيفون

قراءة الدكتور نورالدين سعيد في المجموعة القصصية (شيفون) للقاصة هدى القرقني
قراءة الدكتور نورالدين سعيد في المجموعة القصصية (شيفون) للقاصة هدى القرقني

حين أقرأ نصاً قصصياً لنساء بلادنا، كنت غالباً ما أنتبه إلى التفاصيل الصغيرة في أساليب كتاباتهن، وكان أكثر ما يشغلني في القص الليبي النسوي كما جرت التسمية، أن أرى أن بناءها للنص  يكتسيه التأثيث من جهة، والتزيين من جهة أخرى، ثم الدقة في قيادة القص، ومعرفة عقباته وصراعه، بالطرق التي تروق لبناء القصة في قرننا الحالي وتشترطها، وكذلك بما يروق لي كقارئ يجب أن أكون مستهدفاً ومسانداً للنص؛ لذا فإنني تدرجت في القراءة بضرورة ما يصلني أولاً، لأن أغلب القاصات الليبيات، كن قد تشاورن معي في مسألة الأحكام النقدية، قرأت لعزة المقهور، ورزان المغربي، وقرأت لـ عائشة إبراهيم وعائشة الأصفر، وكثيرات غيرهن، اهتممن بالقص، ثم قرأت لشاعرات أيضاً على كثرتهن، والوفرة هنا لابد أن تكون حميدة في بعض حالاتها على الأقل “حين نتواصل مع الجاد منها” لذا يصعب تعدادهن هنا، خصوصاً وأن السرد النسوي الليبي، بدأ يتعدد ويتكاثر، ويأخذ بذلك منعرجاً جديداً، يعلوا أحياناً بما يبشر بولادة كتابة قصة متكاملة الملامح، ويهبط في أحياناً أخرى بدواله التي لم تجد في بعض النصوص من يوجهها، هذه هي حالة السرد النسوي على الأقل فيما اكتشفته بعد تمعن كنت مضطراً فيه للقراءة بحكم ضرورة الشغل حيناً، وبحكم التسلية ليس أكثر في أحيانٍ أخرى، وكنت راسلت بعض الكاتبات بناءً على رغبتهن في التوجيه، بخصوص أن الكتابة القصصية ليست بالأمر الهين أبداً، لاسيما بعد التعقيد والتقعيد، الذي بدأ يطرأ على المدارس الفنية الحديثة وما بعدها في فن الكتابة القصصية، والشروط الفنية المتغيرة التي ظهرت مع بداية الألفية الجديدة، التي سلخت ربع قرن من عمرها في لمح البصر حتى الآن، رغم ثقلها، جاءت متسارعة جداً، يكتنفها التعدد، وتتغشاها الغرابة والفرادة، ويتوفر في مطالبها الخفة والدقة، والوضوح، ما استطاع كاتب النص إلى ذلك سبيلاً، بداية لم تكن سهلة لقرن جديد، جديد بكل تغيراته، حتى كأن الإنسان يولد فيه من جديد كذلك، وكأنه يظهر للعالم لأول مرة، لقد غالبه الألم والشجن، واكتنفه الثقل بكل معانيه من كل جانب.

كل هذا وحسب ظني أثر تأثيراً كبيراً على السياق الفني في السرد القصصي، في هذه المجموعة عند هدى القرقني، ومن المرجح أنه أثر في العالم كله على أساليب الكتابة، لكنه أثر بطرقه المختلفة والمباشرة عندنا، وكأن وطننا العربي بالتحديد، هو الذي كان حلقة السهم عند هذا القرن وبشكل مباشر، ليؤثر في كل مجالاته الإنسانية، ولعل الأدب أولها، وكانت ليبيا هي الأقرب لهذا التأثير، سلباً وإيجاباً.

لماذا يساورني هذا الشك؟.. أقول، لأن كل هذا جاء مرمياً على عتبات النصوص المقروءة عند أغلب الكاتبات، ولعلي اكتشفته وبوفرة هنا في هذه المجموعة، القرقني تكتب بوميض سريع، وبصنعة فنية سلسة، غير خارجة عن مألوف الحكاية وما تتطلبه في أيامنا؛ إنها بالفعل كاتبة مشاركة بكل وجدانها لما يطرأ عند أهلها وفي بلادها، وإن عاشت سنوات عديدة خارج وطنها الأم، لقد ضمَّنت هذه المجموعة القصصية والموسومة بـ “شيفون” وهي المجموعة الثانية لما تم طبعه من مجموعاتها، بعد ألبومها الأول “حكاية مشط”.

حكايات قصيرة، تنوعت بين الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، بين اليومي والقديم، وبين العابر والآتي، تنوعت في مواقفها الدرامية وأحوال الصراع فيها بين الداخل والخارج، بين همس النفس وعراكها بينها وبينها، وبين صراعها مع الخارج، مع المحيط الذي يئن من وطأة الجهل واللامبالاة، وبين وطأة الحنين للأماكن ومراتع الصبى والشباب، بين متطلبات كثيرة وواجبات لا تنتهي، ظهر هذا في العديد من القصص وبشكل جلي، يبدأ وينتهي في درنة مدينة الكاتبة ومسقط رأسها، لكنه يتجول بين المدن من طرابلس إلى بنغازي، ومن بنغازي إلى العالم، محطات أدركت الكاتبة أهميتها، فنسجت منها المكان الذي رمت بشخوص الحكايات على سطحه وفي عمقه، فالكاتبة تناكف اللغة وتصارعها في الكثير من الأحيان، فقط لتجعل منها رداءً خفيفاً منسوجاً من الحرير الخالص، حتى أنها تستعين باللهجة الليبية في بعض النصوص، وتتعمد الكتابة بها، خصوصاً حين تتملكها الأسئلة المشحونة بالوجود، لتخلق حواراً بينها وبين الأشياء، متخلصة من ثقل المعاني الكلاسيكية مستخدمة لهجة ليبية محببة، وبخفة أيضاً لأنها لم تكثر منها، خصوصاً وأن كلمة شيفون التي عنونت القاصة بها مجموعتها، ليست كلمة درناوية فقط، بل إنها مستخدمة في جميع أنحاء مدن ليبيا بلا استثناء، وهو استخدام ذكي لعنوان ذكي أيضاً، شيفون في اللهجة تعني الرداء الخفيف المنسوج بتشابك بين طياته، فهو قماش شعبي عالي الجودة، ترديه النسوة في ليبيا لخفته في الوزن ونعومته في الملمس، إضافة إلى شفافيته، الكاتبة هنا تستعيره لتشابٍك نسيج نصوصها من البداية إلى النهاية في أكثر من 30 قصة جمعتها في هذه المجموعة، تشابك لنسيج قصصي خفيف الروح ومهضوم ومقروء بشتى مستوياته في أغلب هذه القصص.

القاصة الليبية هدى القرقني
القاصة الليبية هدى القرقني

افتتحت الكاتبة نصوصها بحكايتين: “الكرمة”، ثم “المشماش” باللهجة الليبية، ثم بدأت تسرد بالعربية ودائماً تنتبه إلى خفة الحكاية في كل حالات القصص، وتتركها مفتوحة على التأويل، رغم أن النهايات فيها نهايات حقيقية ومفهومة، وبالإمكان تحويلها أيضاً إلى نوع من الـ Vavola، أو الحكاية الخرافية التي تُقرأ للأطفال قبل النوم، هذا هو دأبها في تقاناتها الحكائية، سلسة جداً، ومفهومة بلا تعقيد، لكنها مشوقة حتى النهاية، نظراً لوفرة عامل العقبات فيها، وتوالي السرد المشحون بالعُقَد التي تفضي إلى حلول يجب أن يتشارك فيها القراء بشتى مشاربهم. عامل الخفة هنا والذي ظهر في العنوان الذي وسمت به القاصة حكاياتها كما أشرنا، ظهر جلياً في قصص: “أنا وحذائي والموناليزا” وكذا “جارتي بريتجيت” ثم ظهر في “من الحب ماقتل” و “لا ترد ولا تستبدل” وفي نص “فراشة” و”لعبة حب” و”نباح” و”نجمة بحر” و”ضلع أعوج” لكنه سرعان ما تم استبداله بشجن عميق جداً، وكلمات نازفة بالألم رغم محافظتها على نسيج الحكاية الخفيف، في “طوفان درنة” و”زنزانة” و”موسم الرمان”. فقط أن حكايات من مثل ” عمي عمران، و”رسائل واتس آب” و”عودك رنان” اكتنفها الشجن الخفيف المبهج، وسط لعبة سردية بديعة، عرفت القاصة كيف تقتنصها.

بقي فقط أن أشير إلى أنني كتبت ذات مرة مقالاً افتتحته بسؤال: هل ثمة أدب نسوي وآخر رجالي؟ وللأمانة أن قناعاتي أجابتني بالنفي، خصوصاً وأن جنس الأدب لا يجنس في النساء والرجال، بقدر ما يجنس في أجناسه هو من الرواية إلى الشعر إلى القصة القصيرة وإلى المقالة أيضاً. صحيح أن المشاعر التي تكتنفها الأنوثة تضل أنثوية بضرورة الخلقة، والعكس عند الرجال، لكنني حين تفحصتُ ما يكتب نزار عن لسان الأنثى ليأخذ دورها، لم أجده عند كافة نساء العرب شعراً. وهنا كذلك استطاعت هدى أن تتخفى في هيئة رجل في أكثر من موضع، وتجسد شجنه وهدوءه وعنفوانه كذلك. الخفة إذاً، هي مرمى كلامي هنا، وهي كذلك: “أن نكتب بوميض يتشربه القارئ في نفس واحد ويستلذ به” لأن عنصري الخفة مضافاً لها السرعة في الحكايات، مطلب صار عصرنا يبحث عنه، ويحث عليه بلا هوادة، ويؤسس له، ولعل عناصر من مثل التأثيث في مكان الحكاية، والتزيين والدقة والسرعة، هي مطالب كانت واضحة في هذه النصوص.


مقدمة للمجموعة القصصية (شيفون )

مقالات ذات علاقة

قصة.. ضربْ الأم

نورالدين خليفة النمر

الكوني… رائد أدب الصحراء

ناصر سالم المقرحي

النضج الثقافي في كتابات محمد المسلاتي

عزة رجب

اترك تعليق