الثلاثاء, 11 مارس 2025
المقالة تشكيل

موسيقى الرسم: لأولئك الذين فضلوا الركون الى صمتهم

حالات تشكيلية متناغمة بين الرسم والموسيقى

لوحة رسمت على أنغام موسيقاي المفضلة، من أعمال التشكيلي الليبي عدنان معيتيق
لوحة رسمت على أنغام موسيقاي المفضلة، من أعمال التشكيلي الليبي عدنان معيتيق

العلاقة بين الموسيقى والرسم تكاد تكون علاقة وثيقة منذ اكتشافهما كفنيْن، على الأقل للفنانين التشكيليين الذين يحبون الرسم على وقع أنغام موسيقاهم الخاصة، متأملين أنغام الأشياء من حولهم، ومحاولين إعادة استنطاقها على أسطح لوحاتهم علهم يرسمون نوتات بصرية من نوع خاص تبوح بمشاعرهم وأفكارهم العميقة التي هربوا منها واستفزتها الأنغام العذبة.

سماع الموسيقى يصنع ذائقة تشكيلية تكون دافعا إلى الرسم خصوصا لأولئك الذين عجزوا بامتياز عن تعلم العزف والغناء بصوت عال وفضلوا الركون إلى صمتهم وكانت أرواحهم مسكونة بعشق موسيقاها، تتغير الأدوات والدروب ولا تتغير النتائج، بين القيثارة والفرشاة حالات تشكيلية متناغمة مع الموسيقى كتلك التي اقترحها فاسيلي كاندينسكي في تنظيره عن الرسم مع اختلاف الأزمنة بين بدايات القرن العشرين ونهاياته، أو مناخ البوب آرت لـبيتر بليك مع أشهر الأغاني والأفلام، وسيمفونية ديفيد هوكني في رسم الحياة بأنغام من ألوان معاصرة جدا ومنسجمة مع ما نعيشه اليوم من تبدل سريع للذائقة من خلال العيش على عجل، وما خلفه من ارتدادات على النفس البشرية وبالتالي على الفنان التشكيلي وحساسيته بشكل خاص أو الجمهور وما يحتاجه من فن.

واليوم مازالت الموسيقى مصاحبة لأشرطة الأفلام التسجيلية والفنتازيا والواقعية والافلام الفنية ذات الصيغ البصرية التي يشتغل عليها الفنانين التشكيليين كأداء أخرى للتعبير وفضاء تكنولوجي معاصر لمقترحاتهم التشكيلية تكون الموسيقى التصويرية من أسس العمل الفني ومن شروط اكتماله, حتى بغيابها في هذه الاعمال تعلو من بين ركام الصمت المطبق نغمات أخرى كأنها همسات مرهفة وراء الكاميرات شهقات النفس وتنهداتها, بخوفها وفرحها, دهشتها وانشراحها, وأصوات الأبواب والنوافذ والاواني وحفيف أوراق الأشجار عند نسمات المساء الزرقاء او شدة اصفرار هدير الريح او هبوبها. من داخل الحدث او في محيطه، تحت الشمس الساطعة او بين ظلال أشجار وارفة بألوانها شديدة الخضرة على أطراف القرى الساكنة او في ازقة المدن وشوارعها التي تضج بالحياة وشكواها. 

وفي تجربتي التشكيلية الخاصة كنت دائما اثناء الرسم استمع الى موسيقى الروك وخصوصا اغاني الثمانينات والتسعينات في الغرفة المركونة بزاوية الباحة الخلفية لبيتنا والتي اعدتها كمرسم صغير في منطقة المقاوبة، تلك الفترة لم تكون بعيدة زمنيا عن شبابي حيث تمتد ما بين 1992م الى ال 2009. تزامن مع بداياتي الأولى في رسم اللوحة الزيتية، دون أي وعي مني او معرفة مسبقة بفكرة الفنان كاندينسكي، فقط العمل عن التعبير الموسيقي بالرسم، احاول دائما ان اربط مشاعري اتجاه الموسيقى بفعل شيء ما في اللوحة او على الأقل ان يكون شكل الأداء في الرسم يقترب من الأداء الحر في الموسيقى وروحها المعاصرة.

  ان اطور مهاراتي في الرسم الواقعية والتعبير بشكل مباشر كتلك التي تنشر على ملصقات الأفلام والبومات الأغاني مثل اغلفة فرقة كينج كريمسون او بينك فلويد ‏او فرقة ايرون ميدن او البومات أغاني المغني الفنان المذهل ديفيد بوي، ولكن شيء ما يشدني الى الخلف او يدفعني الى الامام، لم اكن متأكدا على كل حال!!!

أصوات مختلفة، من أعمال التشكيلي الليبي عدنان معيتيق
أصوات مختلفة، من أعمال التشكيلي الليبي عدنان معيتيق

حيث أقف مشْدوهًا على عتبات التلوين والتناغم والانسجام بين الالوان المتجاورة واشكالها والابتعاد عن التدوين للأفكار الجاهزة والمعاني شديدة الوضوح, كما كنت احاول في هذه البدايات المبكرة من تاريخي الشخصي في عالم الرسم, بل اصبح الامر اكثر تعقيدا بخصوص البحث عن معنى لكل هذه الاشياء اكثر قربا وتمثيلا للحالة التشكيلية البصرية وموسيقاها الخاصة وما اصبحت عليه في عالمنا المعاصر, تكون الطريقة الامثل للتعبير عن تجاربي البصرية وليس تقليد مباشر او محاكاة لأعمال وتجارب سابقة من انعكاسات الجانب الموسيقي او من تأثيرات التجارب الرائدة بتاريخ فن الرسم مثل عوالم السرياليين واتباعهم التي كانت المعبر عن لسان حال كل ثورة جديدة وكل الفئات العمرية الشابة المرتبطة بالموسيقى في العديد من البلدان ومنطلقا لأغلب الفنانين وتجاربهم التشكيلية في بداية حياتهم الفنية لتعبيرها الأقرب لحالات الشباب وعنفوانه. 

 بل الامر كانت محاولة اضفاء اجواء ومناخات لونية تشبه الحلم في وقت المغيب او عند انبلاج فجر كل يوم جديد، كل يوم بألوانه المتجددة وبطموحاته العالية واحلامه التي لا تمتلك اسقف ولا حدود, حتى البورتريهات كانت بألوان اخرى غير واقعيتها المعهودة، لأني دائما رغم كل النظريات والحقائق العلمية الحديثة أتساءل اين تذهب الالوان عند الزوال وكيف تتغير في الحقول وتختفي عندم هبط الليل وفي تبدل الفصول وتعاقب السنوات والعصور وكيف تبلى الأشياء مع مرور الوقت، حتى الاحاسيس تضمر وانطباعاتنا النضرة اتجاه الاخر تفقد بريقها الأول, فالتعبير عن كل هذا ينبغي ان يكون فعلا مرهفا كالموسيقى والشعر على اسطح اللوحات مرفقا بعنفوان ضربات فرشاة الرسم وتنهداتها, مع خبرة كافية في التعامل مع المادة وقبل كل شيء مع الروح المبدعة التي تقود هذا الفعل المجهول في حينه والمشوق عندما تتكشف أجزاء منه في كل خطوة من مراحل إنجازه على اسطح محيط الفن الناصحة, فهناك من يمشي على سطح الماء بحفة لا تحتمل واخر يمتنع عن المسير لإحساسه العميق بغرق لا محال في اول جداوله الدافئة قبل ان يبدا الطريق.


صحيفة العرب | السنة 47، العدد: 13385، الجمعة 2025/01/31

مقالات ذات علاقة

إعادة الدستورية الشرعية في دولة الربيع العربي

المشرف العام

لا.. لهذا المسلسل الدموي

محمد محمد المفتي

دولة على مَنْ..؟

المشرف العام

اترك تعليق