قراءات

العراك في جهنم : قراءة لواقع ليبيا العبثي

رواية (العراك في جهنم) للروائي الليبي محمد النعاس
رواية (العراك في جهنم) للروائي الليبي محمد النعاس

تقودنا قراءاتنا المتنوعة للأدب نحو فكرة تبرهن على حقيقة مؤادها بأن الآداب الإنسانية مفتاح استراتيجي لا يخلو ربما من نسبة خطورة تجاه معرفة العمق الإنساني للمجتمعات في حدود التجربة الفردية للكاتب الذي يضطلع بدور الرائي تارة وبدور النبي تارة أخرى، والقارئ على أية حال مدفوع بالشرط المعرفي الملتبس بنزعته الوجودية، ثم يجيء الطرح الموضوعي للأجناس الكتابية مثل الرواية أو القصة والكيفية التي يقدمها الكاتب ومن خلال أي زاوية سيتناولها، وعلى هذا المحك ستبرز التقاطات الكاتب أو بالأحرى قدرته على الالتقاط وتسقّط الأخبار والنوادر وصولا لسقط المتاع ما يضع الكاتب هنا إزاء تحدٍ مباشر لإعادة صوغ كل هذه الملمات ضمن تصوركامل يُكسب العمل الإبداعي خصوصيته وتفرده، ولعل الكاتب الليبي محمد النعاس أحد أولئك الكتاب اللذين نجحوا في تحقيق هذه المعادلة العسيرة نظرا لامتلاكه مخزونا معرفيا منح قلمه طزاجة يافعة فهو في كل مرة يرسم مشهديته الإبداعية بصدق ترفده تطور أدواته الفنية من عمل إلى آخر.

سخرية النعاس : ردّ فعل أم اندفاع لاشعوري ؟
وها نحن نقف مجددا مع أحدث أعماله الروائية المعنونة بـ(العراك في جهنم) الصادرة عن منشورات دار التنوير بتونس لنعيد اكتشاف ما خلنا أنه قد صار مألوفا ومضمونا فالعراك في جهنم رواية يسجل من خلالها الكاتب محمد النعاس رصدا بانوراميا لحركة تحولات المجتمع المحلي في ليبيا فالعبثية واللا معقولية وأحيانا السوريالية نتائج يدفع بها واقع الحال الليبي بأزماتها التي أنتجها الماضي ويُسوِّغها الحاضر بينما يبدو المستقبل معزولا عن نسيج هذه الذاكرة، ويحمل الرصد دلالات سياسية واجتماعية مررها الكاتب بمذاق السخرية لاذعة مما يثير تساؤلا هل زاد النعاس من جرعة التهكم كرد فعل على استهجان الأوساط المجتمعية والثقافية على جدلية رواية خبز على طاولة الخال ميلاد؟! الصادرة عام 2021م والفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية فهذه الأخيرة اجترحت حساسية جندرية الجميع يُصرّ على التعاطي معها بعمىً شديد بما في ذلك من يتصدون للعملية الإبداعية! قد يكون النزوع خزَّنه اللاشعور واحتفظ به في منطقة الظل، وما هذا العمل إلا فرصة للتعبير عن الغضب وفق سردية تطرّفت بالسخرية كمن يُحطم الآواني وهو يضحك فالافراط في السخرية حسب هذا الإطار يُدلل على رهان الغاضب الذي وجد متنفسا له يُسقط به انفعاله لكن بصيغة تثير القبول لدى الكثيرين !

الأدب كمفتاح لفهم عمق المجتمعات
ونحن نقرأ رواية العراك في جهنم نتأمل التصوير اللاذع حتى حين يُهمّش الكاتب ملاحظاته خارج متن السرد يفك العقال لحركة العبث لدى الشخصية الليبية إذ وظف النعاس قرية جنهم مسرحا حيا لإدارة شخوص ملهاة هذا العبث المسكون بمحن نفسية مركّبة لازالت تقذف بالجميع للاصطدام بواقع الحرج الحضاري بين الأمم والشعوب، ولا يجد الراوي غضاضة في التدخل حينا والتطفل حينا آخر على مجريات الأحداث بل نجده يُمارس مشاكساته ويشطب ويُضيف ويُعدّل في جريان الحكاية دفق مُعقّد من المعارك الدونكشتية المولعة بمجدٍ واهنٍ تتشتبك في حلبته أسماء تعكس قسوة مِزاج الليبي الحاد .

قرية جهنم : خشبة مسرح العبث الليبي
فهذا التشنكوي أول رجل يبدأ في تصعيد العراك وأول سكير وتاجر للهمر يتقلد أمانة شعبية جهنم، وذاك العقيد بودبّارة الذي لم يبق منه إلا أن يواجه ظلال حرب تشاد البائسة والحاجة مبروكة وتعتيمها على ابنها الشبح فيما اعتقد الحاج إمحمد بطريقة جُزافية أن العراك سببه حرب سيارات من خلال الظل الذي توفره الشجرة لسيارة التشنكوي أما هيثم عضلات( الفتى العشريني الذي يرقّد أهل القرية قبل مغيب الشمس) حيث وجد لذته باذلال عيسى الحوّات الفتى القادم من قرية بحرية ليبيع أسماكه لأبناء جهنم.(تأملت مسألة هذا العِراك وكيف يمككنا إيقافه، وأخاف أننا لن نجد إلا طريقة واحدة لذلك وهي أن نحرق صورة القائد في مدخل القرية ما رأيكم في ذلك) تظهر للقارئ سلسلة من المعارك التي ينتصر فيها غالبا العبث مرموزة بجهنم ذاك الاسم الملتهب لأطراف قرية كتب شخوصها صيرورة الضياع لمجموعات مبعثرة كادت أن تكون أمة. (الآن سيعرف أهل القرية أن العراك ليس الحل أبدا).

بين الخيال والحقيقة : ليبيا في مهب العبث
وربما بين عبثية العراك في قرية جهنم وواقع بلادنا اليوم، لازال المشهد غائما ولم يتغير كثيرًا، بل أصبحت (جهنم) رمزًا يتسع ليشمل خريطة الوطن كله، فصراع الهوية والمصالح يُدار وفق المنطق ذاته، بينما يتيه الحل وسط ضباب الأفق، تمامًا كما في الرواية، عند عتبة صورةٍ لم تحترق بعد.

مقالات ذات علاقة

كتاب يؤرخ لثورة 17 فبراير في ليبيا وتحدّيات الولاء للحواضن القبليّة..

المشرف العام

أُمُّ الدَّالِيَا.. أَمُّ الدُّنِيَا

جمعة الفاخري

شعرية الأمكنة في ديوان (ابتهال إلى السيدة نون)

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق