تجارب سيرة

زيغنيات ( 1 )

الزيغن (الصورة: عن الدكتور عبدالقادر الفيتوري)
الزيغن (الصورة: عن الدكتور عبدالقادر الفيتوري)

الواحة المجهولة المفقودة. تلك البقعة الصغيرة المنيعة الضائعة في هذه الصحراء الفسيحة القاسية الجافة القاحلة.. منظرا بديعا امتزجت فيه ظلال النخيل بلون الرمال.. هناك بسم لي وجه الحياة، وانبسط امامي المجهول المملوء اسرار وسحرا.. واحة الزيغن بالجنوب الليبي.. طفل صغير تنتظره اعباء ومشاق الحياة، حياة اهل الصحراء ومكابدة طقس وجغرافيا المكان وعزلته.. السير حفاة في الهجير.. صهيد الرمل.. يواسيه سكون الليل، وسحر ضوء القمر، والتسلي برفقة النجوم، وصعود الجبال، وتراصف اجمات النخيل، وحجارة متناثرة توالت عليها سافيات الرمال، وبراري ممتدة توشحها اعشاب الصحراء.. العقول.. الضمران.. شجيرات الطلح والاتل والرتم والرسو.. وبين هذا وذاك ما هاج بالخيال وسما بالارواح. وان كان القول بأن الصحراء العارية هي الحد الفاصل بين الحياة والموت والنجاة والهلاك كثيرا ما يكون دقيقا جدا.

في سن الثامنة تعودت مرافقة أمي الى الغابة، “الحطية”، ما ان يحل موعد العطلة المدرسية. نستيقظ الرابعة صباحا، لتبدأ رحلة المسير لمسافة خمس كيلو مترات او اكثر، حسب المكان المرصود لجلب الحطب. امتطي البهيمة المجهدة وتجاورني امي سيرا على الاقدام صحبة جمع النسوة والصبية المتواعدين قبلها على وجهة السير ووقت بدء المسير، وفي العادة تحتفظ امي بلجام البهيمة في يدها، وفي احيان اخرى تطمئن لهدوءها الدائم، او لرغبة منها في اعتمادي على تدبير امري تترك لي المهمة، وكثيرا ما خاتلتني ونكست عن الطوع لاوامري، فاقع صريعا على الارض، وبينما تهتم النسوة بسلامتي، يكون الصبية قد اكملوا مهمة مطاردة البهيمة وجلبها قسرا، ونواصل المسير.

بعد قطع مسافة من صفحة صحراوية متجعدة نلتحم باطلالة الغابة مع بزوغ الشمس.. نقضي وقتا في جمع الحطب في طقس شديد الحر يبعث التعب بسرعة في اوصالنا، ومع شح الماء والزاد.. نستعيد نشاطنا بكسرة الخبز اليابس التي نحتفظ بها اتقاء لتشنجات المعدة، مع قليل من الماء، سد رمق.

ومع تقرحات الجلد الدامية الناجمة عن الاشواك الصلبة لجريد النخل اليابس، والتعب والارهاق استبشر بعزم الجميع على تصفيف الحطب وحزمه، واختيار قطع مجموعة من جريد شجرة نخيل من فسيلة ” التافسرت “، تنقيتها من الاشواك والسعف، ثم مرسها على عود عرجون صلب لتصبح قابلة للثني ولربط الحزم، ومن حزمتين تقرن برباط اخر من الاعلى لتشكل نصب يسمح باسناده على ظهر البهيمة، اعلاه على الواقي ” البردعة “، بينما جانب السعف يلامس الارض. ولتبدأ رحلة العودة والتي لا تخلو من مثالب ومعاطب، انقطاع الرباط، نكوص البهيمة وشرودها، الى اشتداد حالة العطش والاعياء ومغالبة السير بالرمضاء.

في العادة البهائم تعرف الطريق وقد تعودت المسير والعودة دون توجيه، وقليلا ما تعرج عن الطريق فنهش عليها نحن الصبية الملازمين لها سيرا على الاقدام، وتبقى مسافة محدودة تفصلنا عن النسوة خلفنا، يستأنسن بتبادل الاحاديث.

ذات يوم.. وبينما كنت سارح البال والخيال، اهيم على وجهي خلف البهيمة، وكان يوما شديد الحر محرق ونسوم ساخنة تلفح الوجوه.. انبعث الغناء من نفس طفل طروبة للعودة تواسى التعب.. حتى انني لم انصت لصراخ النسوة وهي تحدرني، وبعد برهه شعرت بنزقهن، التفت خلفي واذا بهن في حالة دعر شديد، وفي المقدمة امي تصرخ وتشير اليّ بالنظر الى اسفل وقد ارتسمت ملامح الاشفاق وجهها، ” افعى.. افعى.. اقفز بعيدا “.. نظرت فيما حولى، واحسست شيئا يمرق محتكا بكاحلي، كان ثعبان طوله زهاء الثلاثة اقدام.. قفزت بعيدا، وعلى الفور احتضنتني، وكانت اول الواصلين.. انهمرت دموعها انهار وتوقف المسير، لكنها ابت ان لا تطار الافعى التي انتحت جانبا وسكنت باقرب نخلة.. لمحت امي جانبا منها، وفي الجوار نخلة اخرى قطعت منها جريدة خضراء عريضة المنبت، حزتها على شكل ظلف مشقوق، وترصدت الافعى عند رأسعها، ضغطت رأسها وسحبتها من المخبأ، وحزت رأسها بضربة منجل.. واستأنفنا المسير.. ولم تتوقف امي عن ترديد عبارات الشكر والحمد للمولى عز وجل طوال المسير.

كم هو قلب الام عطوف حنون.. استعيد ذكراها ( رحمها الله )، واشعر بحجم الالم الذي تقاسية اليوم الاف الامهات المكلومات لفقد ابنائهن في هذه الاحداث الدامية القاصمة للوطن.. عزائي لكل امهاتنا الخالدات الصابرات فراق فلذات اكبادهن بقدر الالم المضني الذي يقاسين.. اشعر حقا بألم عميق لفراقك امي.. وان تقاطرت الالام.. وطن ممزق.. ومصير مجهول.. وافق لا ينضح ببصيص نور… مسكنات.. مهدئات.. سهر.. وحدة.. قلق.. ضجر.. وغربة داخل الوطن.. والفكر في الاهل والولد.. ورياح عاتية فوق بحر مضطرب.. وعذابات اليأس تطفو.. لست اجد ما اقدم لك سوى هذا التعبير القاصر عن تقديري العميق لحبك الخالص الذي لا يبليه الزمان.. غفر الله لك اماه العزيزة وتقبلك برحمته

مقالات ذات علاقة

ثــم مــاذا.. ؟

سعيد العريبي

للـتاريخ فـقـط (3)

عبدالحميد بطاو

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (34)

حواء القمودي

اترك تعليق