السبت, 29 مارس 2025
قراءات

اِنْفِرَاجُ النَّصِّ عَلَى مَتَاهَاتِ الوُجُودِ

قراءات في قصيدة “لسبعٍ خلون” / عاشور الطويبي

مدخل

في هذه القراءة للقصيدة، ننطلق من رؤية تفكيكية تتجاوز سلطة المؤلف، مؤكدةً على “موت المؤلف” كما أعلن رولان بارت. لم يعد هدفُنا البحثَ عن المعنى الأصليّ الذي قصده الشاعر، بل استكشاف الاحتمالات اللانهائية التي يولدها النصُّ ذاته، وكيف يتشكل المعنى في تفاعل القارئ مع الكلمات والصور. إن موت المؤلف، كما أعلنه بارت، يحرر القارئ من قيود النية الأصلية، بينما تقدم التفكيكية، كما طورها جاك دريدا، الأدوات اللازمة لاستكشاف المعاني المتعددة الكامنة في النص، بمعزل عن سلطة المؤلف. ويتماشى هذا المنظور مع أفكار دريدا التفكيكية، التي ترى أن اللغة ليست وسيلة شفافة لنقل المعنى، بل هي نظام معقد من العلامات والإشارات، يحمل في طياته معانيَ متعددة ومتغيرة، قابلة للتأويل والتفكيك. ولقد دفعتني هذه القصيدة تحديدًا إلى استكشاف تلك المتاهات اللانهائية التي تكمن في صميم اللغة.

في هذا السياق، لا يُنظر إلى القصيدة كعمل مكتمل ومغلق، بل كنصٍ مفتوحٍ على احتمالات لانهائية، وساحة تتلاقى فيها رؤى وتأويلات متعددة. فكل قارئ يضيف إلى النص بعدًا جديدًا، ويكشف عن طبقات خفيّة من المعاني. وبالتالي، فإن التأويل المقدم هنا هو قراءة من بين قراءات ممكنة، وليس ادعاءً بالوصول إلى حقيقة مطلقة. فالنص المفتوح لا يمثل مجرد مساحة لتعدد التأويلات، بل هو نسيج من العلامات التي تتفاعل مع بعضها البعض ديناميكيًا، وتولد معاني جديدة في كل قراءة، ما يجعل النص حيًا ومتجددًا.

وتقترح هذه القراءة أن القصيدة بمثابة “نص” بالمعنى الدريدي، أي نسيج من العلامات التي تتفاعل مع بعضها البعض، وتولد معاني جديدة في كل قراءة. هذا النص لا يمتلك مركزًا ثابتًا أو دلالة نهائية، بل يتشكل ويتغير بتغير السياقات والقراء. فالقصيدة لا تنتمي إلى مؤلفها فحسب، بل هي ملك للقراء الذين يعيدون إنتاجها في كل مرة، ويمنحونها حياة جديدة.

وانطلاقًا من هذا المنظور التفكيكي، تم تأويل القصيدة على مستويات متعددة، مع استكشاف أغوارها، وتجاوز المعنى الظاهر إلى الرمزي والعميق، والكشف عن التناقضات والتشابكات التي تكمن في صميم النص.

لا تدعي هذه القراءة أنها الوحيدة الصحيحة، بل هي دعوة إلى الحوار والتفاعل مع النص، واستكشاف المعاني اللانهائية التي يمكن أن يولدها. فالقصيدة تُرى هنا كمجال حر للتأويل والإبداع، ومساحة مفتوحة للتفكير النقدي والتأمل العميق.

الآن، وبعد أن استقر هذا المنظور التفكيكي، ننطلق في رحلة استكشاف أغوار هذه القصيدة، للكشف عن المعاني الخفية التي تنبض بين كلماتها.

التحليل

تتأسس القصيدة على رحلة ميتافيزيقية تتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث تبدأ من “لسبعٍ خلون ونيّف”، التي تمثل فترة زمنية، ودورة حياة كاملة، وشرنقة لتحول روحي عميق، ودورة الانفجار العظيم، وسبعة أيام من الخلق وما بعدها، والتحول والانهيار. هنا تبرز فكرة “الزمن المقدس”، حيث السبعة رقم سماوي، بل رمز للكمال والتمام، والنيف يشير إلى تجاوز هذا الكمال، إلى شيء أبعد من الزمن الخطي المعتاد، وكأنها لحظة انطلاق نحو اللامحدود، أو ربما نحو ما بعد الفناء. ونحن هنا نتكلم عن الانسان وليس على الإلهي المطلق.

ومن هذا الفضاء، يظهر حضور غامض، “كأنّك تحديقة الروح في الفراغ”، الذي لا يمثل غيابًا، بل فضاء لا نهائيًا، ومحاولة لاختراق جوهر الوجود من خلال العدم. هذا الحضور، هو “المطلق” الذي يسكن الروح في لحظات التجلي، ويظهر في صور متناقضة، “كأنّك خيط العنكبوت القرمزية”، التي قد تلمح إلى البطل الخارق، من جهة وشبكة الاتصالات التي تغزلها الذات العنكبوتية المنغرسة فينا، ولون الدم والحياة والعاطفة والعنف، لتعبر عن قوة الحياة نفسها، المترابطة والمتناقضة، وكأنها إشارة إلى التحول والقدرات الخارقة. ويمكن هنا ربط فكرة “الفراغ” بفكرة “اللاشيء” في الفلسفة، وكيف أن الروح تبحث عن المعنى من خلال تجاوز الوجود المادي، والوصول إلى “اللاشيء” الذي يسبق كل شيء، كما يمكن ربط فكرة “البطل الخارق” بمفهوم “الإنسان المتفوق” النيتشوي، الذي يتجاوز القيود البشرية.

ثم يصدح بصوت الشوق، “كأنكَ لهفة القبّرة”، الذي يمثل الروح الحرة التي تحلق بعيدًا عن قيود العالم المادي، والشوق للاحتراق في نار المعرفة، وصوت الشوق الدائم في الروح، أو ربما الرغبة الجامحة في تحقيق العدالة. وهنا يتم ربط “لهفة القبرة” بفكرة “الاحتراق الروحي” أو “التصوف”، وكيف أن الروح تتوق إلى الاتحاد بالمطلق، حتى لو كان ذلك يعني الفناء. ثم يظهر “كأنّكَ ضوءُ ينوس بين ليل وليل”، الوعي المتقلب، الذي يتأرجح بين الوعي بالوجود واللاوعي بالعدم، أو الصراع الداخلي للبطل، بين الخير والشر، وطبيعة الوعي الإنساني المتذبذبة. وهنا يأتي “الضوء الذي ينوس” بفكرة “الشك” كأداة للمعرفة، وكيف أن الوعي يظل متقلبًا، ولا يصل أبدًا إلى اليقين المطلق.

ثم ندخل في دائرة الحيرة، “ويحي، كيف أسير مع نهر يغيب؟”، حيث يمثل النهر الزمن والتغير المستمر، والغياب يمثل التحول إلى حالة أخرى من الوجود، والسير معه يمثل السعي للفهم، ولكن عندما يغيب، يصبح هذا السعي مستحيلاً، وكأن الزمن يتسرب من بين يدي البطل. وهنا يتم ربط “النهر الذي يغيب” بفكرة “الزمن الدائري” في الأساطير، وكيف أن كل شيء يعود إلى نقطة البداية، (الدورة الخلدونية) وكأن الغياب هو مجرد تحول إلى شكل آخر. ويزداد الشعور بالعزلة عندما يُرى أن “الطائرُ لا يرى حيرة الخنفساء”، حيث تمثل الخنفساء الوعي المتواضع المتألم، وربما هي البطل الذي يعيش صراعًا داخليًا، والطائر يمثل الوعي السطحي الغافل، وربما المجتمع الذي لا يفهم معاناة البطل، وصراع بين الوعي المتألم والوعي المغرور. وهنا يتم ربط “حيرة الخنفساء” بفكرة “الوعي المأزوم” الذي يدرك عبثية الحياة. وتتلاشى الأحلام، “أحلامه تتساقط كما تتساقط حبّات التين الناضجة”، التي لا تمثل مجرد أمنيات، بل أجزاء من الروح، حيث يمثل التين الناضج الاكتمال، ولكن عندما يتساقط، يصبح فقدانًا وزوالًا، وجزءًا من الروح يتلاشى. وهنا يتم ربط “تساقط الأحلام” بفكرة “الخيبة في مواجهة حتمية الزوال” التي تصيب الإنسان عندما يدرك أن كل شيء زائل.

تتجسد الطبيعة كرموز للوجود، حيث “السهلُ، طّيّة فوق طَيّةٍ، والمدى زورقٌ في السماء”، حيث يمثل السهل الوجود المادي، والطيّات طبقات الوعي، والمدى الروح التي تسعى لتجاوز قيود المادة، والزورق الذات التي تبحر في سماء الوعي. وهنا يتم الربط بين “السهل” و”المدى” بفكرة “الكون” و”الكون الآخر”، وكيف أن الروح تسعى إلى التحرر من قيود الكون المادي، والوصول إلى الكون اللامحدود. الفن يتحول إلى قوة كونية، “صهوةُ المغنّين بحرٌ”، حيث يمثل المغني صوت الروح، وكلماته أمواج من المعرفة، والصهوة منبر الروح، والبحر مصدر الإلهام اللانهائي. وهنا يتم الربط بين “صهوة المغنين” بفكرة “قوة الكلمة” وقدرتها على تغيير العالم، وكيف أن الفن يصبح وسيلة للاتصال بالمطلق.

تتوالى التساؤلات، “ما تفعلُ المرأة بكآبة على كفّها؟”، حيث تمثل الكآبة حالة من الضيق الوجودي، واليد رمزًا للقدرة والتحكم، والسؤال ليس عن فعل، بل عن كيفية تحويل العجز إلى قوة، وربما سؤال عن دور البطل وهل يمكنه حقًا التغلب على الشر. هنا نربط هذه التساؤلات بفكرة “اللامعقول” في سياق الوجود، وكيف أن الإنسان يواجه عالمًا لا معنى له، وعليه أن يخلق معناه الخاص. “ما تفعلُ بنغمة مكرورة؟”، حيث تمثل النغمة الروتين والاستسلام، والسؤال هو عن كيفية كسر هذا الروتين. وهنا يتم ربط “النغمة المكرورة” بفكرة “الوجود الرتيب” الذي يفقد فيه الإنسان إحساسه بالذات. “ما تفعلُ بقيلولة موحشة؟”، حيث تمثل القيلولة الغفلة والغياب عن الذات، والسؤال هو عن كيفية استعادة الوعي. “ما تفعلُ ببحرٍ يخسر ميزان قلبه؟”، حيث يمثل البحر العاطفة والروح، والقلب مركز الوعي، والخلل في ميزانه يعني فقدان التوازن الروحي. “ما تفعلُ بسماءٍ مخادعة؟”، حيث تمثل السماء الأمل والوعد، والخداع هو خداع في الوعود الروحية. “ما تفعلُ بشرفةٍ غادرتها الحياة؟”، حيث تمثل الشرفة الأمل، والرحيل هو فقدان الأمل، والسؤال هو عن كيفية استعادة الحياة إلى هذا المكان المهجور. “ما تفعلُ بقصيدتي هذه؟”، حيث تمثل القصيدة محاولة لتفسير الوجود، والسؤال هو عن قيمة هذا الجهد.

نواجه حتمية التغيير، “لابدّ من محوٍ وقد دنت الساعة”، حيث يمثل المحو إعادة التشكيل، والوقت لحظة الحقيقة، والساعة نهاية الوجود المادي وبداية الوجود الروحي. وهنا يتم ربط “المحو” بفكرة “الموت” كجزء لا يتجزأ من الحياة، وكيف أن الموت ليس نهاية، بل تحول إلى شكل آخر من الوجود. ونرى أن “إن أغمضّتَ عينيك أو تركتهما مفتوحتين، فليس سوى تيه وغيبوبة كبيرين”، سواء تعمقنا في الذات أو انفتحنا على العالم، فالنتيجة واحدة، الضياع واللاوعي. وهنا يتم ربط “التيه والغيبوبة” بفكرة “الوعي المحدود” وكيف أننا لا نستطيع أبدًا فهم كل شيء، وأننا دائمًا في حالة من البحث والتساؤل. “النهار لا يأتي بغتة، والليل لا يأتي بغتة”، حيث يمثل النهار الوعي، والليل اللاوعي، والتغيير عملية تدريجية. “هل ينجو مَن حملَ في كفيّه صفير الريح”، حيث تمثل الريح القوة الكونية، والصفير رسالة الوجود، واليد القدرة على الخلق والتحكم، والسؤال عن النجاة من قوى الكون، وعن القدرة على حمل رسالة الوجود، وربما عن قدرة البطل على الاستمرار في مهمته.

تتجسد المواجهة، “هل جئت لتخدع الملك؟!”، حيث يمثل الملك السلطة المطلقة، أو القوى الشريرة التي يحاربها البطل، والخداع تحديًا لهذه السلطة، ومحاولة لإعادة تعريف الحقيقة. وهنا يتم ربط “الملك” بفكرة “النظام القائم” الذي يقمع الحقيقة، وكيف أن البطل يسعى إلى تحدي هذا النظام من خلال “الخداع” أو من خلال تقديم “الحقيقة” بطريقة مختلفة. “إنّي احمل إليه رملاً كالتبر، ودواة ملأى بالكلام المقدّس”، حيث يمثل الرمل الوجود المادي، والتبر القيمة الحقيقية، والكلام المقدس قوة الوعي. وهنا يتم ربط “الرمل كالتبر” بفكرة “التحويل” وكيف أن الأشياء البسيطة يمكن أن تصبح ذات قيمة، و”الكلام المقدس” بفكرة “قوة الفكر” في تغيير الواقع. “فما تلك الجرة تحت ابطك؟ هذه لرأس الملك”، حيث تمثل الجرة القدر والحقيقة المطلقة، والرأس الوعي والقيادة، وإعلان عن الثورة وتغيير النظام القائم.

وأخيرًا، “الوجود أشدُّ ضيقًا من الخيال”، حيث يمثل الوجود القيد، والخيال الحرية، والواقع محدودًا والخيال لا حدود له. وهنا يتم ربط “ضيق الوجود” بفكرة “الواقعية” وكيف أنها تقيدنا، و”سعة الخيال” بفكرة “المثالية” التي تسعى إلى تجاوز هذه القيود. “فيه القمر أرقّ من شَعرة حاجب”، حيث يمثل القمر الجمال والإلهام، وشعرة الحاجب الهشاشة والزوال، والجمال هش والوجود عابر. وهنا يتم ربط “القمر” و”شعرة الحاجب” بفكرة “الجمال العابر” وكيف أن كل شيء في هذا العالم زائل، حتى أجمل الأشياء.

ختام

في ختام هذه الرحلة التأويلية، يتبدى لنا أن هذه القصيدة تتجاوز حدود الكلمات، وتتحول إلى مرآة تعكس متاهات الوجود وأسئلته الأزلية. فـ “لسبعٍ خلون ونيّف” ليست ذكرى أو فترة زمنية، بل هي رمز لدورة الحياة بكل ما تحمله من تحولات وصراعات. هذا النص، الذي استُلهمت قراءته من روح التفكيكية، لم يقدم إجابات نهائية، بل فتح آفاقًا واسعة للتساؤل والتأمل. لقد رأينا كيف أن الصور الشعرية تتشابك وتتداخل، وكيف أن المعاني تتولد وتتغير بتغير القراء والسياقات، وكيف أن القصيدة تتحول إلى نص حي ومتجدد، يتحدى سلطة المؤلف، ويحتفي بحرية القارئ. وتبقى هذه القصيدة دعوة متجددة للغوص في أعماق الذات، وفي أغوار الكون، بحثًا عن الحقيقة التي تتوارى خلف الكلمات، وتتجسد في كل قراءة جديدة، فهل يمكن قراءة هذه القصيدة من منظور آخر؟ وما هي المعاني الأخرى التي يمكن أن يولدها هذا النص؟

طرابلس الغرب – ‏الإثنين‏، 24‏ شباط‏، 2025

مقالات ذات علاقة

ظمأ الروح في قافلة العطش قصة “تحقيق صحفي” أنموذجاً

المشرف العام

قِيَمٌ في رسائل العلامة القطعاني

المشرف العام

كتاب في تاريخ ليبيا المعاصر

المشرف العام

اترك تعليق