قراءات

القرية السجن

كتاب (القرية السجن .. باب وجدار) للكاتب صالح الدعيكي
كتاب (القرية السجن .. باب وجدار) للكاتب صالح الدعيكي

إن أسوأ يوم من العيش في مناخ الحرية، أفضل من أفضل يوم في السجن.” القرية السجن”، رحلة في حارة الذكريات، تخيل أن كل أحلامك وطموحاتك تنهار مع سقوط تلك المطرقة، تخيل أنك ستفتقد هذا العالم، فقد باتت أجنحتك مقصوصة ورجليك مقيدة داخل أربعة جدران، وقد حكم عليك بالمؤبد، تلك هي قرية المناضل صالح الدعيكي، عاد ليروي زمن اليأس من بقائه على قيد الحياة.

القرية السجن، سجل حافل بالتضحيات الجسام، قصة وطن كليم اضناه وجع السنين، سجين رأي يلعق جروحه التي لم تندمل بعد، رغم خلاصه من اصفاد القفص.

من الصعب للغاية تقديم إجابة كاملة تلخص ما جرى، فبالنسبة لشخص قضى فترة طويلة في السجن ثم أطلق سراحه، لا شك انه لا زال يعاني اوصاب الصدمة الثقافية، الأمر اشبه بالطيران عبر الفضاء لسنوات، ثم الهبوط أخيرًا على كوكب غريب، اظنه لا زال في حالة ذهول، وعندما يتحول الوطن الى سجن كبير، وعندما يتم نقل شخص من سجن إلى آخر، يتعين عليه التكيف.

المؤبد ليس من عمري، أنه من عمر النظام الذي لن يستمر طويلا، سنة او سنتين او شهورا. هكذا يواسي الدعيكي نفسه، يبعث التفاؤل لحظة اليأس من فرص السلام.

لا يستطيع أي إنسان أن يتخيل كيف تتم التحقيقات في تلك القرية الظالمة، إلا عندما يختبرها، او ان يقرا عنها في إثر بصمات انامله.

الرتابة عنوان المحيط باسره، ذات الجدول الزمني، فإذا لم تكن تعاني من مشاكل عقلية قبل دخولك السجن، فمن المؤكد أنك ستعاني من ذلك بعد تجربة الجحيم، اضطراب ما بعد الصدمة، اذ الظلم الذي تراه من الحراس، لا يستحق أي إنسان أن يُعامل بتلك الطريقة.

القرية السجن لا تروي لنا يوميات السجن والرفاق فقط، ولا انين وجعهم، انها ايضا سجل يحتفظ بأسماء اولئك المناضلون العظام، من رحلوا في ظلام الزنازين، ومن كتب لهم النجاة بعد طول امد.

يخبرنا الدعيكي عن توجهاتهم الفكرية، وانطباعاتهم، ردود افعالهم، ومدى تأقلمهم مع ذلك الواقع المر. لقد كان الأمر مهينًا ومذلًا ومثيرًا للتحديات وصعبًا ولا يُنسى.

يخبرنا عن رفقة عميد سجناء الرأي، ثلاثون عاما، على العكرمي، الاستاذ والمعلم، وعن المه لواقع الفتى مسعود من صحراء الجنوب الشرقي، الكفرة، عمره سبعة عشر ربيعا، تهمته الكتابة على الجدران، وكيف أدرك مع مرور الوقت، – بتعبير الدعيكي – ان الكتابة على الرمال ليست كالكتابة على الجدران، فما يكتب على الرمال تدروه الرياح.

يخبرنا عن قسم” المحقرة” حيث الامعان في الامتهان، ومعايشة القوارض والحشرات، تفترش الرطوبة، وتستنشق الغبار، وانعدام التهوية.

وعن صرخة رفيق” ونخلة في السهل احنتها المخاوف، وقصيدة الطبيب المفتي:

ثري أنا.. وبعض زادي عنادي.. ما تجود به كوة في الجدار.. تضيق في كل عام علينا، وأنين الرفيق عبد الرحمن الشرع، كيف لي وطن ولا من عاصم فيه من النيران، ولا من وردة تحنو على جرحي، والرفيق شنابو وقد اختلط عليه صوت رنين اساور الحبيبة الغائبة، وصوت المزلاج يشاكي وحشة اليها، تهايا بو دبلج في ليد.. وآن ترقيد.. قفزت لقيته باب حديد.

الرفيق الغرابلي وهو يتتبع مسارات النمل.. حتى النمل صار مخبرا في القرية، يقوده الى حيث اخفى زميل قطعة خبز.

كثيرة هي المنعطفات المؤلمة التي فاض بها معين الدعيكي، دموع القلم لفقد الأحبة الرفاق، حسرة حارقة تترجمها سطور خالدة تنثر العبر للأجيال القادمة.

 ” القرية السجن” تحفة ادبية مذهلة، هي باختصار، قصة معقدة لمناضل سلاحه الكلمة، بل وتسور ذات يوم على كتابة منشور خطي، عزم على توزيعه بغية تنوير ذويه عن الخطر الداهم الذي حاق بهم، رصدته اعين الحراس، وانتهى خلف القضبان، قبل ان يشرع في توزع ورقة واحدة.. وخفف العقوبة الى عشر سنوات فقط.

لم يكن يعرف متى سيعود إلى المنزل أو المدة التي سيقضيها خلف الابواب الموصدة.. وكان عدم المعرفة أحد أصعب المنغصات التي تعكر مزاج الاوقات، عدم اليقين والخوف من أنه سيضطر إلى قضاء بقية العمر هناك، غمامة معتمة تعبر صباح مساء امام ناظريه.

استهلالية الرواية، لا يطمح الكاتب الى الانتقام من أولئك الذين حرموه ظلماً من مباهج الحياة، وأرغموه على قضاء عقد من الزمان في زنزانة بائسة.

بالتأكيد، الرواية تستحق الوقت والجهد المبذول في قراءتها، وإنها بالتأكيد واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي كُتبت عن السجون الليبية، أنها أقرب إلى قصيدة ملحمية، أو سجل للأحداث التاريخية في عصر الأسى الماضوي.. ولتحري تفاصيل كل ما حدث، ربما يجب عليك أن تقرر بعد قراءة الرواية.. انها رواية تفرض على المرء قراءتها.

عندما أسمع كلمة “سجن” يخطر ببالي كلمة الفخ، شخصيًا لا أحب هذه الكلمة، لقد كانت لي تجربة مماثلة، وان كانت اقل وطأة، شعور رهيب ينتابني كلما ذُكرت هذه الكلمة لأي سبب كان.

مقالات ذات علاقة

(قصصُ اليافعين في ليبيا): سبقٌ وريادةٌ بحثية

يونس شعبان الفنادي

ضلع الإنسانية الأعوج

محمد عقيلة العمامي

أبطال زوسكند في ”ثلاث حكايات وملاحظة تأملية“

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق