حينما اجتازت قدماي عتبة هذا البلد البعيد، لم يكن السبب وراء قدومي هنا وليد جهد أو اجتهاد شخصي، بل كان مجرد نتيجة لما اعتدنا عليه في زمان كان فيه الحظ والتوصيات أحيانًا مفتاح النجاح. في ذلك العصر الذي ساد فيه قانون “الجماهيرية”، جئت إلى السويد بفضل مزيج من الواسطة والمحسوبية، على الرغم من أن مجموعي في الشهادة الثانوية لم يكن استثنائيًا مقارنةً بزملائي الذين أحرزوا نتائج أعلى بكثير.
لكن، لم يكن هذا الأمر ليغني عن نصيحة أمي التي اختزلت فيها حكمة الحياة وتجربة السنين. كنت دائمًا ما أرى في عينيها مزيجًا من الحزن والفخر، وكأنها تعلم أن فراقها لي سيكون طويلًا، لكنها مع ذلك، كانت تدفعني إلى الأمام بقوة الأمل الذي كانت تحتفظ به في قلبها. قالت لي بصوت حنون، يتخلله شيء من العزم الذي لا يعرف التراجع: تعلم ولا ترجع إلينا إلا وأنت تحمل أعلى الشهادات. لا تلتفت إلى أي شيء سواه. لا أطالبك بتخصص معين، ابحث عن ذلك التخصص الذي يشعل فيك الشغف وتجد نفسك فيه. لا تكتفي بالعيش كالجميع، بل اصنع لك مكانًا في هذا العالم. لا تتعجل في اختياراتك، ولا تسرع في العودة، فالعالم أمامك واسع.
كان حديثها بالنسبة لي أكثر من مجرد نصيحة؛ كان درسًا عميقًا في الحياة، عميقًا كبحر لا ساحل له. فرغم الفراق، كانت أمي، وبكل ما تحمل من مشاعر، تدفعني إلى عالم جديد لا أعرفه، لكنها كانت واثقة في أنني سأحمله في قلبي على الدوام، وتبقى تلك الكلمات تتردد في أذني كأصداء لحن قديم يعزف على أوتار ذاكرتي، فتزيدني إصرارًا على أن أكون شيئًا مميزًا في هذا العالم. عندما وصلت إلى أرض السويد، لم يكن لدي خريطة واضحة توصلني إلى التخصص الذي سأختاره، بل كنت أتبع فقط شعورًا داخليًا يشير إليّ بأن الطريق سيتضح مع مرور الوقت. قررت أن أبدأ بتعلم اللغة أولاً، معتقدًا أن ذلك هو المفتاح لفتح أبواب المستقبل. تسعة أشهر من الجهد والتعب، لكن كان هناك شعور غريب بداخلي، شعور بالديون تجاه تلك العائلة التي احتضنتني وساعدتني في تعلم اللغة، وسأظل ممتنًا لهم إلى الأبد. ولقد كانت تلك الأشهر بمثابة معركة صامتة بين طموحي وتحديات الحياة، وكانت هناك دائمًا أصوات في داخلي تقول لي: “عجل، أسرع، فالمستقبل ينتظرك.”
وعندما انتهيت من تعلم اللغة، بدأت أتساءل: “ماذا بعد؟” كان التخصص القادم بمثابة لغزٍ أمامي. حاولت أن أتعرف على مجالات قد تناسبني، وأخذت في الاعتبار الطب، لكنني وجدت نفسي أتراجع. فحتى فكرة الطبيب كانت بالنسبة لي كالسجن. منذ أن كنت صغيرًا، كان خيالي يمتلئ بالصورة القاتمة للأطباء الذين كانوا يثيرون في داخلي خوفًا عميقًا. تلك الصور كانت تطاردني، وتجعل فكرة دراسة الطب بعيدة عني، كأنها لا تخصني.
ثم جاء الخيار الآخر، الهندسة. لكن أية هندسة؟ وماذا يمكن أن تضيف لي في بلدٍ يتربع فيه المهندس الأول والأوحد؟ كان الأمر أشبه بنزاع داخلي، يتصارع فيه عقلي مع قلبي، وكأنني على أعتاب بابٍ ضيق، وأحتاج إلى اختيار الطريق الذي سيقودني إلى ضوءٍ بعيد. في لحظة مفاجئة، وجدت نفسي أمام مجال لم أكن أتوقعه، لكنه جذبني كما تجذب العاصفة سفينة ضائعة في البحر. الهندسة الوراثية. كان هذا التخصص بمثابة طوق النجاة في بحرٍ من الحيرة. كان يشبع شغفي ويساعدني على التفكير في التحديات التي قد تعجز عن حلها حتى العقول الهندسية. لكن، رغم ذلك، كانت هناك في أعماقي شكوك كبيرة. هل كان هذا هو المكان الذي يجب أن أكون فيه؟ أم أنني أبحث عن شيء أكبر، شيء يبتعد عني كالسراب؟
وفي تلك اللحظة، جاءت الصاعقة التي جعلت كل شيء يتوقف. تلقيت خبر وفاة والدتي. كان الخبر كالسهم الذي اخترق قلبي، فشلت في استيعاب الألم في البداية. كيف يمكن أن أستمر في التفكير في أي شيء آخر بعد هذا الهاجس؟ كأنما الأرض ابتلعتها، والأفق أصبح مظلمًا أمام عينيّ. أدركت أن كل تلك الأحلام والطموحات التي كنت أحاول بناءها قد تلاشت في لحظة. لا شيء كان سيهم بعد هذا الفقد. كان صوتها في داخلي، تلك النغمة الحانية التي كانت تقول لي دائمًا: ابني، لا تنسَ أن تحب نفسك أولاً.
عدت إلى نفسي لأجد أنني كنت أركض خلف السراب، وأن هناك شيئًا أكبر من كل شيء: الحب، والألم، والذاكرة. شعرت أن العودة إلى عائلتي هي السبيل الوحيد الآن، وفي تلك اللحظة، أصبح الطريق الذي كنت أسير فيه غير ذا معنى. صراع داخلي مرير. لا يمكن للعقل أن يتجاوز قلبًا محطمًا، ولا يمكن للطموحات أن تملأ الفراغ الذي خلفه الفقد. مع كل خطوة كنت أخطوها للعودة، كانت هناك أصوات تتنازع داخلي. هل يجب أن أعود؟ أم يجب أن أستمر؟ كانت العودة بالنسبة لي بمثابة قرارٍ بين الحياة والموت، بين الحلم والحقيقة. لكن القلب كان في النهاية هو الذي اختار.