تجارب سيرة

مدام حلومة!

لأجل هؤلاء.. من أعمال التشكيلية الليبية حميدة صقر
لأجل هؤلاء.. من أعمال التشكيلية الليبية حميدة صقر

كنت بصدد البحث عن صورة ما في ألبوم صوري القديمة.. شدتني صورة تجمعني وزميلات الدراسة في السنة الثالثة ثانوي في معهد معلمات غريان، في تغسات تحديدا، كنا اول دفعة من الفتيات تلتحق بالتعليم الثانوي، لذلك تم فتح فصل لنا في معهد المعلمات، فلم يكن من المستساغ الدراسة المختلطة في تلك الحقبة من سنوات نهاية سبعينيات القرن الماضي، صورة بها صحبة من البنيات، 14 منهن ليبيات و3 مصريات ومعهن معلمة، مدام حلومة.

طاقم التدريس بالكامل كان من غير الليبيين، منهم الفلسطيني والمصري والتونسي، مدام حلومة او مدام ” بن ناصر ” كما كانت تصر أن نناديها تونسية..

السيدة حلومة كانت معلمة اللغة الفرنسية التي كنا ندرسها جنبا إلى جنب مع اللغة الانجليزية.. لم تكن مدام حلومة بالشخصية العادية، بل كانت من ذلك النوع الذي يترك في النفس اثرا يبقى على مر السنين، فبمجرد ان لاحت لي صورتها وسط كوكبة من الفتيات التي بانت على وجوههن مسحة من فرح وحبور، حتى عادت بي الذاكرة إلى هناك.. إلى فصل ثالثة علمي، ذلك الفصل الذي يتصدر بهو قصر الملكة “عاليا” في تغسات بمدينة غريان.. فصل دراسي في قصر ملكي بالتأكيد كان للأمر رونقه وخصوصيته..

كنا فيما يشبه المملكة الخاصة، كلنا فيها اميرات مدللات، كيف لا ونحن اول من اقتحم مجال التعليم الثانوي من داخل مدينة غريان بعد ان كانت بعض الفتيات يتوجهن إلى طرابلس للدراسة فيها..

هاهي مدام حلومة تدخل الفصل وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة يزينها احمر شفاه غامق.. وتطل من وراء نظارة عدساتها مقعرة، عينان تبدوان اصغر حجما من حجمهما الحقيقي، تنورتها تصل حد الركبة فيما بدا ” بوط ” الجلد البني ذو العنق الطويل يضم ساقيها في حنو.. قميصها ذو اللون ” الروز ” يتناسق لونه مع زخرفة الوان ” الفولارة ” التي التفت حول عنقها، فيما عقصت خصلات شعرها شديد النعومة في مؤخرة رأسها وسمحت لخصيلات منه أن تنسدل على جبينها الضيق!

تدخل مدام حلومة وتبدا حديثها بجملتها المعتادة:

“بونجوغ مون بوتيت ” تتبعها بابتسامة عريضة، نتاهب نحن ” البوتيتات” لعرض الواجب المنزلي وكلنا في غاية الحرص لنيل رضاها وسماع كلمات الإطراء منها، فهي قد جعلت من دروس تعلم الفرنسية متعة، بما كانت تتبعه من طرق مبهرة في الشرح، ليس اقلها تحفيظنا بعض الاغاني الفرنسية التعليمية..

في كثير من الحصص لم تكن مدام بن ناصر تشرح لنا جديدا او تعيد قديما، بل في اوقات كثيرة كان وقت الحصة يمضي في سرد مغامراتها وتفاصيل حياتها التي كانت تتمحور في كونها فتاة متمردة وعنيدة، كنا نعرف يومياتها وهي طالبة في مدرستها في تونس، ونعيش معها جنون تصرفاتها في جامعتها في باريس، كانت تعشق التحدي وتسعى نحو كل ما هو مناقض للروتين والحياة العادية..

في حصة من الحصص وكان الوقت شتاء والبرد فيها ينخر عظامنا داخل حجرة في قصر ملكي شبه مهجور ونحن في قلب مدينة غريان حيث البرد “الصقع”، “يقص الكرومة” و”يحسن اللحية من غير موس”، قالت لنا “يلزمكم حاجة تسخن الدم”، واسترسلت تقص على مسامعنا مغامرة إدخالها للكتاب الأحمر إلى قلب العاصمة تونس، قالت بأنها أرادت ان تجرب رباطة جأشها وتحديها للخوف، فجعلت الكتاب الأحمر في ثيابها التي ترتديها، وعند وصولها إلى المطار مرت على روتين التفتيش الشخصي وأبدت لعنصر الشرطة النسائية مظهرا لفتاة عادية تبدو عليها البلاهة، وروت لنا كيف افلتت من التفتيش الشخصي بتظاهرها أن بها مغصا معويا شديدا جعلها تتلوى، ما اسبغ عليها عطف الشرطية فساعدتها على المغادرة السريعة، فأحست بنشوة الانتصار الأمر الذي مزق امعاءها ألما وفرحة..

تعلمت من مدام حلومة ان عزة النفس كنز وان الاعتداد بالكرامة سبيل حياة، ففي واحد من صباحاتنا المدرسية كنا في طابور الصباح، وكان الفريق الموسيقي المدرسي يعزف النشيد الوطني، كانت المسافة بين بوابة المعهد وساحة العلم طويلة نوعا ما، دخلت مدام حلومة من الباب وجاءت تمشي في خطوات واثقة تضرب ذلك ” البوط ” ذو العنق الطويل على ارضية الممر.. فجأة يطلب مدير المعهد من الفريق الموسيقي التوقف عن عزف النشيد وصرخ بأعلى صوته:

“حلووومااااا.. علاش ما وقفتيش تحية للعلم والنشيد ؟ دوري وارجعي للشارع”!!

خيم الصمت على الساحة، الجميع اعتقد بأنها ستنفذ الامر إلا نحن، بنات ثالثة ثانوي علمي، نظر بعضنا إلى بعض ووقفنا ننتظر ردة الفعل المنطقية لمدام حلومة..

تقدمت نحو الساحة وقد زادت من وتيرة خطواتها السريعة كإنها جندي في طابور مارش عسكري.. وقفت أمام العلم ووجهت حديثها للمدير وبلهحة تونسية قحة قالت له:

أولن: ياسي الطاهر انا مانخدمش في داركم.

ثانييين: نهار باش تفسخ حكومتك عقد استخدامي مع حكومة بلادي، وقتها تعالى علي عليا صوتك، خاطر ساعتها باش نكون مواطن “نورمال”..

ثالثننن: وهاذي الاهم لما نوقف تحت سارية العلم وما نحترموش، وقتها يكون عندك حق تنتقذني وتصيح عليا!

ثم وجهت حديثها إلى طابور صفنا وقالت “بونجوغ مون بوتيت”، الحقوني “عالكلاس” باش نوفيوو درس الحصة الفارطة!!

مقالات ذات علاقة

الفوز في مسابقة البحث الأدبي

سعيد العريبي

الهروب للثمانينات.. الطريق المخاطر نحو السندباد

زكريا العنقودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (20)

حواء القمودي

اترك تعليق