شخصيات

الادب الليبي المعاصر.. عبد الله القويري

الذكرى الـ33 لرحيل الكاتب والأديب الليبي عبدالله القويري

الكاتب والمفكر عبدالله القويري
الكاتب والمفكر عبدالله القويري

– 1 –

أرغمت ظروف الاحتلال الايطالي لبلادنا عددا غير قليل من المواطنين على الهجرة والعيش في كنف وطن غير وطنهم الاصلي وان يعيشوا في منفاهم طيلة حكم ايطاليا الذي دام اكثر من ثلاثين عاما وبالتالي فان عددا غير قليل من ابناء ليبيا قد ولدوا في المهجر ورأوا النور في الاوطان التي اختارها آباؤهم كملجأ لهم.

ورغم الظروف القاسية التي عاشها المهاجرون في منفاهم الا أن نفرا منهم استطاع أن يحصل لأبنائه فرصا للتحصيل العلمي، وبهذا تمكن بعضهم من الحصول على الشهادات العليا ومن أولئك الذين ولدوا ونشأوا في الاغتراب من آنسوا في أنفسهم القدرة على الممارسة الادبية بأشكالها المتعددة وقد عبروا عنها في البيئات التي عاشوا فيها وكانت لهم مشاركات ومساهمات أصبحت منطلقا أدبيا لهم بعد أن عادوا الى الوطن الام وانضموا الى الحركة الادبية الناشئة واكتفى بالإشارة هنا الى الاستاذ عبد الله القويري الذي اخترته ليكون موضوعا لدراستي هذه.

عندما عاد عبد الله القويري من مصر في أوائل الستينات كان الادب في ليبيا يحاول أن ينطلق من نقطة البداية معتمدا على نخبة من الشباب التي اخذت تسهم في انتاج ادب طموح في شتى مجالاته، ولعل الشعر والقصة القصيرة كانا في مقدمة الاجناس الادبية التي باشرتها الاقلام الشابة بجدية وحميمية واضحة. وكان القويري في بداية مشواره عندما انضم لحركتنا الادبية الناشئة فقد شغل نفسه بكتابة القصة القصيرة المتميزة بانتماءاتها الى البيئة المصرية – والريف المصري على وجه الخصوص – ونشر وهو في مصر تجاربه الاولى في الصحف والمجلات المصرية وقد اطلعنا على ما كتبه في هذه الفترة المتقدمة على عودته الى ليبيا على بعض مما كتبه من نماذج قصصية ضمن مجموعاته القصصية التي نشرها تباعا وكانت مجموعته الاولى تعبر عن التحامه بالقضايا المطروحة في مصر في أوائل الستينات وفيها وهج الثورة المحمومة التي تدق طبولها وتجدد شبابها عبر السنوات المتوالية على ثورة 23 يوليو أفضل نماذجه القصصية المرتبطة بهذه المرحلة هي تلك التي نشرها بعنوان (مونة العيال) و (النار) وغيرها وهي نماذج – كما قلت – لصيقة بقضايا الفلاح المصري وهي تكشف عن همومه التي كابدها قبل الثورة وتصور لنا الظلم الفادح الذي كان يلقاه في كنف مجتمع اقطاعي ممعن في الجور ولا جدال في أن – قصاصنا قد وجد نفسه بعد عام (1956 م) مدعوا بداعي المواطنة – كمهاجر في مصر – أن يسبح مع المد السياسي السائد هناك، وأن يسهم بنصيبه في دفع القوى الثورية وتنشيطها باستحضار ذلك الماضي البغيض الذي جعل من الفلاح المصري مجرد اداة انتاج وخادم مطيع للأرض حتى اذا ما غلت غلالها واعطت محاصيلها عندئذ تخرج من ايديهم لتؤول الى أيدي قلة من الكسالى المترفين.

وبالمقياس الزمني وبحساب المرحلة التي كتب فيها القويري قصصه الاولى وانها تعد من انضج القصص التي لا ابالغ اذ أقول بأنها تقف جنبا الى جنب الى جانب اجود القصص التي يباشر كتابتها قصاصون متمرسون بكتابة القصة ففيها – بالإضافة الى خطها الملتزم بقضايا الجماهير الكادحة – ما يستلفت النظر لبراعة كاتبها في تطويع الشكل لخدمة المضمون في تلقائية وعفوية ملحوظة مما جعلها تبدو وكأنها قطعة حية من الحياة نفسها كما ظهر القصاص براعة واضحة في تسخير الحوار بلغه أهل الصعيد بواقعية وبساطة يحس معها القارئ بأن الكاتب قد استحضر الريف المصري بجوه العبق برائحة الطين الممتزج بحبات العرق الآدمي ٠٠

ويمكن للمرء ان يقول اعتمادا على تلك النصوص القصصية التي كتبها في هذه الفترة أن القويري قد تشكلت موهبته في اطارها وانتماءاتها للبيئة التي نشأ فيها بكل ما تضج بها من قضايا ومشاكل في فترة التحول التي كانت تعيشها مصر في الستينات.

عاد عبد الله القويري ليقيم في بلاده اقامة دائمة وترك وراءه الوطن الذي مشى فيه طفلا وترعرع فيه شابا ورجلا وفوق ذلك فقد كانت صلاته به ككاتب قد توثقت وانه بدأ – بالفعل – يضرب بخطواته الأولى في مجالات الادب والقصة على الخصوص ومن هنا تبدو لنا مقدار تلك المعاناة التي بذلها وهو يحاول أن يتكيف مع البيئة الليبية الجديدة وهذا ما جعله يقول في كتابه ( معنى الكيان) ص 11 (إن عودة المهاجرين وارتباطهم من جديد بالوطن هو بذاته يمثل مشكلة جديدة وذلك انهم ارتبطوا بواقع آخر وتمثلت نفسياتهم الحياة فيه.. فعودتهم لم تعد تحمل لوطنهم شيئا فكما نما اخوتهم في الداخل بعيدا عن النشاط الحضاري الذي مثله الايطاليون نمواهم بعيدا عنهم ولكن في بيئة أخرى واخذوا مجالا مترابطا بتلك البيئة وانعكاساتها) أجل فقد أحس القويري بأنه عاد الى وطنه ولكنه (في حالته هو) لم يكن يحمل له سوى ذكريات باهته سمعها من اسرته عندما تلتقي على (كانون) الشاهي ليدور الحديث بلهجة لا هي بالمصرية ولا هي بالليبية انها لهجة وسط هي أقرب الى لهجة أولاد على ولاشك ان الكاتب الذي يريد ان يبدع في أي مجال من مجالات الادب لابد له من العودة الى مخزون الذاكرة والى تلك التجارب التي مرت به في حياته طفلا او شابا أو رجلا وبدون ذلك يبدو من الصعب على أي أديب أن يعطي ادبا ابداعيا له قيمته في بيئة لا يكاد يعرف عنها الا الشيء القليل ومن هنا فإنني اتصور حجم تلك المعاناة التي تكبدها قصاصنا (القويري) من أجل ان يكون كاتبا منتميا للبيئة الوافد عليها حديثا ويزيد من صعوبة الامر أن كاتبنا يحمل قلما خلوقا وملتزما لا يلجأ الى التمويه على القارئ من اجل اثبات وجوده الادبي بقدر ما يريد أن يؤكد حقيقة واقعه ويحكي لنا الكاتب ما أحس به من احراج عندما وجد نفسه مطالبا بأن يستأنف مهمته ككاتب معترفا في شجاعة (لا ليس سهلا أن آخذ ما أراه الان في الشارع وأسمعه في مقهى أو أسأل عنه شخصيا لا صنع منه قصة سردية ذات جو فصيح ولا جعل بها عنوانا ثم اضع تحت العنوان كلمتين هما (قصة قصيرة) لم اتعود أن آخذ الامور بهذه السهولة حتى ولو كان الامر قصة صغيرة طلبت بقصد أو بدون قصد) (1).

ومع ذلك فان القويري الذي اقام في بنغازي بعيد عودته من مصر مباشرة قد طرق الكثير من الموضوعات التي اتخذ منها مادة لقصصه وان التحامه بالواقع الجديد ليس مشكلة مادامت هنالك الحوافز التي تلح عليه في كل لحظة بأن ينتمي فالكاتب الحق هو ذلك الذي يستعيض عن احداث قديمة بواقع حي ويؤكد نفسه في كل شيء تقع عليه عيناه ولنتركه يحدثنا مرة اخرى عن تجاربه القصصية التي انطلقت من ذلك الواقع الخارجي الذي بدأ يعرض عليه نفسه!؟

( كانت شوارع بنغازي تعيش أثار الحرب. كل ركن مهدم، كل شارع فيه ما يدل على اثار القنابل والانفجارات المباني نصفها قائم والنصف الاخر خراب، عمارات رمم بعضها وترك البعض الاخر ويستطرد الكاتب فيقول (والصغار حملوا العبء من اجل لقمة الخبز وكان النشاط في أي مكان وبأية وأسطة وسيلة للحياة فمثلها الحياة صعبة وقاسية أثناء الحرب بل اشد قسوة وصعوبة ان الجروح والنفوس تتيقظ والرغبات تتصارع والمعاني تبنى من جديد والتقاليد تستعيد سيطرتها فكان اتجاهي للصغار اذ كنت أرى حركتهم في الطرقات وامام المقاهي بداية لحركة في وطني واخذا للمسئولية باكرا كانت قصة ( سلم راجلها) هي أول قصة ليبية كتبتها فكانت بداية جديدة لعناء الانسان لا يمل يبدأ كل مرة من جديد.

– 2 –

وقد تحول الاستاذ عبد الله القويري بداية من قصة ( سلم راجلها ) الى كتابة العديد من القصص التي تستلهم البيئة الليبية التي اخذ يتفحصها بعينين ذكيتين في الشارع والمقهى ولي وجوه الناس الذين يلتقي بهم ولكن ظلت هذه القصص تحوم حول المجتمع الليبي دون أن تغوص فيه او تستجلى واقعا مطمورا تحت قشرته ولم يكن هذا شأنه مع جميع القصص التي كتبها ففي البعض منها ينجح القويري في النفاذ الى ما تحت القشرة ويكسر الحاجز الفاصل بينه وبين مجتمع يقيم الفواصل بين المرأة والرجل وتسيطر عليه تقاليد راسخة وقصته (سلم راجلها ) تعبر بحق عن ( عناء انسان لا يمل أن يبدأ كل مرة من جديد ) وهي نقطة تحول في اسهاماته الواعية بعشرات من القصص التي كتبها بعد ذلك وليس من شك في أن هذه النقلة التي ارتحل فيها بوجدانه من البيئة المصرية التي نشأ فيها الى البيئة الليبية التي بدا يخالطها وقد وضعت علاماتها المميزة في أدبه القصصي ولابد للمرء أن يعترف بأن القصاص قد بذل جهدا كبيرا وهو يحاول أن يفلت من ذلك المسار الذي مشى عليه في بداية امره واستطاع أن يلمس جوانبا في المجتمع الليبي والوصول الى نماذج من الناس تعتبر شرائح حقيقية له فبالرغم من أن محيطه الاجتماعي ما يزال محدودا باطار الشارع والمقهى الا ان قدراته الممتازة كقصاص قد غطت على نواحي الضعف في مضامينها وانها استطاعت أن تقنعنا بأنها قصصا لم ينشئها صاحبها من فراغ او ينطلق بها من لا شيء بل كان هناك امامه الواقع الحي الذي يعرض عليه نفسه ومنه استلهم موضوعاته واخذ نماذجه القصصية، فقصة(سلم راجلها ) على سبيل المثال هي من ناحية المضمون تعنى مجتمعنا الليبي الذي كان يمارس على المرأة عبودية مطلقة تجعلها مخلوق هامشي يدور في فلك الرجل والذي يطالبها دائما أن تسلم قيادها له وأن تكون تابعة كما يتبع العبد سيده..

ولعل القصاص اراد بهذه القصة ان تكون اسهاما منه في معالجة قضية المرأة التي كانت مطروحة بعنف في الخمسينات والستينات على مختلف الأصعدة والمستويات وكان ان وجد الكاتب نفسه مدعوا ليدلي بدلوه في هذا المجال بعمل ابداعي يتحسس فن هذه القضية، ويحاول أن يضع لها تصورا اجتماعيا بأسوب القاص ولعل هناك من بين كتابنا من سبقه في هذا المجال، وان هناك قصصا – كتلك التي كتبها الاستاذ – عبد القادر أبو هروس، ومحمد فريد سيالة – حاول فيها الكاتبان ان يتحسسا قضية المرأة، ولكن – يبدو لي – بالمقارنة معها انها تتقدم عنها من الناحية الفنية فقصص القويري كانت قد اكتسبت سيماتها الفنية من البيئة المصرية الادبية دون شك قد ترسخت فيها القصة القصيرة ونضجت شكلا ومضمونا.

لم يرض القويري – كقصاص – أن تكون اعماله القصصية اسيرة الشارع والمقهى أو يظل اسيرا لما يراه أو ما يسمع به دون أن تكون له خلفية اجتماعية ينطلق منها، فعبر السنوات المتوالية زادت تجاربه واتسعت مداركه وكثر احتكاكه بالناس وبالبيئة والمجتمع وزاد كذلك من تمرسه بما يقرأه من مناقشات في الصحف المحلية وكانت هذه قد بلغت شأوا بعيدا في النشاط الادبي الذي تلى عام 1956 م.

وبدون شك فان هذه الامور جميعها كانت عوامل مساعدة في ترسيخ انتمائية القويري في البيئة الأدبية الليبية فكتب قصصا تعد بالمقارنة الى ما كتبه قصاصون آخرون ذات مستوى جيد سواء في انتماءاتها أو في اسلوبها الفني المتقدم.

– 3 –

يعتبر الاستاذ عبد الله القويري غزير الانتاج بحيث اصدر في خلال عقد من السنين ما يزيد عن خمس مجموعات قصصية كانت الاولى بعنوان ( حياتهم ) يناير 1960 م وهي تضم خمس عشرة قصة. أما المجموعة الثانية فهي تشتمل على خمس عشرة قصة نشرها تحت عنوان (العيد في الارض) 1963 م، ومجموعة ثالثة تحمل اسم ( قطعة من الخبز) نوفمبر 1965 م، والمجموعة الرابعة اسماها (الفرصة والقناص ) نوفمبر 1965 م، وله مجموعة خامسة بعنوان (الزيت والتمر) نشرها ما بين عام 72 و1973 م.

هذا جانب من نشاط القويري في مجال القصة ولكن كاتبنا كان متنوع العطاء بحيث لم يوقف به الاسهام في مجال القصة فحسب بل غطت اسهاماته الاخرى العديد من النشاطات الادبية وبدت بصماته اكثر وضوحا وبروزا فيما انتجه في مجال المقالة الصحفية ذات الاغراض المتنوعة وقد اثمرت هذه الكتابات التي تغلب عليها النزعة الذاتية والوطنية والاجتماعية والنقدية احيانا العديد من الكتب التي صنفها بحسب اهتماماتها ولكن تظل كراستاه – معنى الكيان – وكلمات الى وطني – من أكثر الموضوعات التي طرقها أثارة للجدل والكراستان تتحسسان – وفي وقت مبكر – المفهوم الوطني والاجتماعي ولعل اهم ما في الكراسة الثانية ذلك الجزء الذي يتصدى فيه الكاتب الى تلك الفترة التي سبقت الاستقلال والتي كانت فيها البلاد تبحث عن هويتها الكيانية وتحاول عن طريق تلك التكتلات الشعبية التي انتظمت في شكل احزاب أن تعبر عن طموحاتها في الغد المرتقب ولأهمية هاتين الكراستين سنعود للحديث عنهما في الاجزاء التالية من هذه الدراسة..

ما من شك في أن القويري هو الابن الحقيقي للصحافة فمن خلالها أطل علينا بإنتاجه لأنه قبل أن يكون كاتبا وأديبا كانت الصحافة هي المصدر الرئيسي الذي يتعيش منه ولكن القويري صحفي من ذلك الطراز الذي لا يهدر جهده في القضايا اليومية والوقتية بل نراه يزاوج بين الادب والصحافة ومن يسلك هذا الاتجاه لابد له الخوض في قضايا الادب بالأسلوب الصحفي وتظهر استجابته لهذا النوع من الكتابة في مقالات اثار فيها قضايا تتراوح بين التناول السريع العاجل وبين الرصين الوقور المتأجج بالمعاناة الشخصية.

وقد جمع القويري مقالاته في كتب أذكر منها على سبيل المثال: ( عندما تضج الأعماق) 1972 م و(طاحونة الشيء المعتاد) 1973 م، واذا عدنا لنتفحص هذين الكتابين فإننا نقف على مقدار تلك المعاناة القاسية التي يكابدها الكاتب في معالجته لما ينبري اليه من موضوعات فأنت تشعر للوهلة الاولى بأنه يقتطع الكلمات من لحمه ويسلخها من جلده ويعطيها من دمه ويبعث فيها الحياة بعد ان تصبح ذات بريق وهاج – انها كما يصفها هو – قطرات دم سواء تشكلت في قصة او في مقالة أو في خاطرة او مسرحية فالكلمات عنده لم تكن مرتبطة بظروف طارئة أو حالات خاصة أو فرصة يمكن الاستفادة منها وعلى هذا النسق جاء إكتابه ( طاحونة الشيء المعتاد) فهو أيضا حصيلة تجارب نفسية مريرة مع الادب كمهنة، وفيه نطالع المعاناة التي يتجشمها صناع الحرف، وما يجدونه من متاعب في سبيل ان يقولوا كلمتهم الى الناس، ويخصص المؤلف جزءا كبيرا من هذا الكتاب لفنيات الكتابة كمهنة حتى ليحولنا بالكامل على هموسها، ويعطينا رؤاه الخاصة في شكل نظرات عميقة في المجتمع والفن والحياة.

ان طاحونة الشيء المعتاد هو كتاب على درجة من الاهمية ولعله يتفرد من بين كل ما كتبه عبد الله القويري بهذه الخصوصية التي لا نجد لها نظيرا في تجارب غيره من الكتاب الليبيين.

ويبرز من بين كتابات القويري تلك الكتابات التي يبثنا فيها شكواه، ويحدثنا حديث الاعتراف عما يدور بداخله، ومن هذا المنطلق يصل بنا الى رؤاه العامة في الادب والمجتمع والحياة، واذا كان عبد الله القويري ينطلق في معظم ما يكتب من منطلق ذاتي، الا أن الذاتية عنده تصبح أمرا مكرسا تماما في كتابه ( عندما تضج الاعماق) ففي كل فصل من فصوله هناك (الانا ) ولعل هذا المنطلق يعد حسنة من حسنات الكاتب، ذلك ان الادب الحقيقي – وهذا في رأيي – على الاقل – يجب أن يصدر عن معاناة وهموم وتجارب عاشها الاديب هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان أدباءنا كثيرا ما يتجاوزون ( اناهم) الى القضايا ـراسا- ولا يكادون يحفلون بشيء يحكي عن تجاربهم الا لماما، والقويري له رأي في أسلوب التناول الذي يحوم حول (أناه) والذي يتخذ من معاناته الخاصة محورا اساسيا في بعض ما يتطرق اليه من موضوعات لنستمع اليه يقول: ( صحيح انني اتحدث عن نفسي احيانا، ولكن لا أمدحها، وكما نعلم فان الفرد ابن مجتمعة، ويتأثر بالظروف المحيطة به، وليس حديثي عن نفسي الا من باب ضرب المثل وأظنك معي في ضرورة أن الجأ الى الحاضر. فما زال مجتمعنا لا يملك أقيسة موضوعية للأمور فعندما تضرب المثل بأحد تضع نفسك في دوامة القيل والقال، وربما اعتبروك تتمسح به اذا ما استحسنت موقفاً له أو فعلا أتاه واذا ما نقضت ما صدر عنه فمعنى ذلك انك تكرهه وبينك وبينه عداوة (2).

اذن فالقويري عندما يلجأ الى دخيلته مستعينا بها في الوصول الى غايته في تجديد افكاره وعرض آرائه فانه يفعل هذا من منطلق ضرب المثل الحي لدعم حججه، واقامة براهينه على ما يريد أن يقوله، وهنا يتاح للقارئ أن يقف – بالصدفة – على الكثير مما يعن له من الجوائب الخفية في شخصية القويري، وفي مناحي تفكيره. فاذا اراد ان يعثر على مفتاح يستعين به على فهم انتاجه فانه لا شك واجده بوفرة من خلال حديثه عن نفسه، والحق فان المرء لا يجهد نفسه كثيرا لكي يعرف من هو عبد الله القويري ذلك الكاتب الانسان الذي يقف بقلبه وبفكره، واعصابه وراء هذا النشاط المكثف من الانتاج الادبي الذي يشمل القصة والمسرحية والمقالة، ولا يعني هذا اننا لا نحتاج الى الجهد الخاص لفهم انتاجه وانما نرى في احاديثه عاملا مساعدا على رفع بعض الغموض الذي يصادفنا في انتاجه، وخاصة ما يتعلق منه بنواحيه الابداعية.

ومادمت بصدد الحديث عن كتاباته التي كان يظهر بها علينا من خلال الصحف اليومية فانه لابد لنا أن نقوم هذه الكتابات من خلال سؤال يطرح نفسه من شقيه : هل كانت هذه الكتابات صحفية للاستهلاك اليومي؟ وما هو الاسلوب الذي درج عليه في تناوله للموضوعات التي يعالجها ؟

في الحقيقة فان كتابات القويري – وان أتت بها الوسائل الاعلامية اليومية – الا انها مع ذلك ليست كتابات انسيابية صاغها قلم عجول للاستهلاك الآني السريع، وانما هي كتابات صادرة عن معاناة وقلق، يصل الى حد التوتر أحيانا. وان المرء ليحس بذلك في كل ما خطه قلمه، وأظنه كان على حق عندما قال:

( لم تكن الكلمة عندي مجرد (افاري) ولم تكن موضوع (بزنس) ولكنها كانت قطرات دم – سواء تشكلت في قصة او مقالة او خاطرة او مسرحية، لم تكن الكلمة مرتبطة بظروف طارئة أو حالات خاصة، أو فرصة يمكن الاستفادة منها) (3)

أجل لم يكن عبد الله القويري كاتبا عجولا لا يلهث وراء المادة التي كان من السهل جمعها لمجرد العثور على ذلك الذي يدفع اكثر، أجل لم يكن هذا من أهدافه، فقد كتب القويري مئات الصفحات للجرائد اليومية ومع ذلك لم يثر ولم يفتن، وانما ظل ذلك الانسان المحب للحقيقة والذي يعاني في سبيل ابرازها والتعبير عنها بكل الوسائل المتاحة له.

أما الشق الثاني من السؤال فان الجواب عليه يكمن في كتاباته نفسها والظروف التي احاطت بها، ومع ذلك فإننا اذا أردنا أن نقيم رايا في الاسلوب الذي ينتهجه في كتاباته فلا بد من الاخذ بعين الاعتبار بملاحظات سمعتها شخصيا من العديد من القراء.

فكثيرا ما لوحظ عنه عدم الوضوح فيما يكتب والوقوع في التعقيد فيما يريد الافصاح عنه من آراء وافكار وانني لأجد ما ابرز به أسلوبه هذا سوى إنه اديب مطبوع يعتمد على منهج رصين في الكتابة لا ينحدر بنفسه الى مهاوي الابتذال او يسوقه التبسيط الى تعلق العامة وانصاف المثقفين. ومن الحري أن القويري قد أدرك صعوبة هذه العلاقة بينه وبين القارئ، وقد تصدى للرد والتوضيح معللا ذلك بقوله :

(كأن رفض هذا سببا رئيسيا في عدم تناولي للأمور تناولا مباشرا دفعني في أكثر الاحيان الى استعمال الرمز، والى الايغال فيه في بعض الاحيان، فالرمز هو الجوهر الذي تفصح عنه الكلمة بعد عناء من القارئ يقترب من عناء الكاتب عندما يقرران هذا الرمز أساس لا يدرك في أول الامر أنه غائر في باطن الارض بعيدا فنحسب أن الارض لا يوجد فيها ما يمكن أن يعتمد عليه فاذا بذلت جهدا وجدته هناك قائما يحمل تراب الارض وما فوق الارض) (4).

ومن قراءتنا للفقرة السابقة ندرك أن القويري يلجأ الى هذا الاسلوب المغلف بالرمز والمغلق أحيانا على الفهم لا لكي يضع القارئ في مطبات الأحاجي وحفر الالغاز وانما لمقتضيات فنية يعتنقها الكاتب، وهو يطلب من القارئ – وهذا مالا أراه ممكنا مع جميع القراء – أن يحاول الاقتراب من عنائه هو لكي يفهمه، ولكن بناء مثل هذه العلاقة لا يمكن دائما توقعه مع كل القراء ولهذا فان القويري مطالب بأن يخصص جانبا من معاناته لتطويع اسلوبه للفكرة التي يريد أن يطرحها وخاصة اذا ما كانت هذه الفكرة مطروحة للتناول في مقال صحفي اي في غير مجالات المعاناة الإبداعية الاخرى.

اذا كنت من الذين يعرفون القويري عن كثب فلا شك أنك تدرك ذلك الجانب الذي يتعلق بهدوئه المتزن في معالجة القضايا التي يتصدى لها فهو – يقول كلمته ويمشي – دون ان تستوقفه كثيرا تلك الانتقادات التي لا يسلم منها احد وهو يؤمن بأن سلوك الاديب وتعامله وتفاعله مع زملائه يجب أن يكون نابعا من الاحترام والفهم المتبادل وينطلق من الموضوعية التي تصدر عن المحبة في كل شيء يتعلق بالنقد وهو يؤكد على ان موقفه هذا ليس مبنيا على الدعوة التي تبارك نقيصة الزملاء ( ولكن بناء على فكرة واعية تحاول أن تتجاوز العلاقات الشخصية وردود الفعل السريعة والحركات الطائشة)(5).

فبالرغم من أن حركتنا الأدبية المعاصرة قد نمت في تلك الآونة التي امتلأت بالمشاحنات والمعارك الادبية، فكان المجال واسعا لكثير من الاقلام، التي خاضت فيها، وللحق فقد كان لهذه المشاحنات وتلك المعارك جانبها المنشط للحركة الادبية ولكن بعضها الاخر كان ثغاء او حركات طائشة تدنت الى مستوى الاسفاف، ولكني لا أعرف أن القويري قد جدف في هذا التيار او دخل في مسار هذه المتاهات التي ينطلق بعدها من (نقطة ) الخلافات الشخصية البحتة فهو على الرغم من تقييمه الواعي لهذه المشاحنات والمعارك على أساس انها علامة تعطى الدليل الحي على (وجود مناخ ديمقراطي حضاري ثقافي)(6) الا انه لا يقر وجودها على اساس الافتعال بل يريدها أن تكون جادا وبحثا في جذور المشاكل والمعاناة الحقيقية لمشاكلها والعمل على فهمها وليس هناك عنده ما يقتل إرادة التفكير عند الافراد في مجتمع ما مثل وجود المهاترات اذ تجعل كل انسان صادق يبعد عن مجاراتها ويخاف منها، وهذا ما حدث بالضبط – بالنسبة للقويري – فقد رفض أن يزج بنفسه في مثل تلك الخصومات المفتعلة التي كثيرا ما يدفعها الشطط بعيدا عن الجو المنهجي العلمي أو العلمية المنهجية التي تصير مجرد مهاترات لا فائدة تذكر من ورائها.

وهكذا فإننا خسرنا بذلك الكثير مما كان يمكن القويري ان يسهم به في مجال النقد الادبي وان ما قدمه في هذا المجال يعد شيئا ضئيلا اذا قسناه بحجم امكاناته الادبية التي ترفعه الى مستوى النقاد ذوي المواهب العالية.

– 4 –

ضمن بواكير انتاج عبد الله القويري ما نشر في كراستين صغيرتين الاولى بعنوان (معنى الكيان) والثانية بعنوان ( كلمات الى وطني) ولم يكن من باب الصدفة أن يبدأ القويري في الاهتمام بقضايا الوطن في هذا الوقت المبكر (أي بعد عودته مباشرة من مصر) اذ وجد نفسه تلقائيا أمام الكثير من الاشياء التي فاجأته بحدة، وايقظت فيه حس الكاتب الاجتماعي والسياسي، فتضامن واختلف مع ما رآه في عاداته وتقاليده وحركاته وبدا كمن يرى أرضا جديدة لم يكن يسمع بها من قبل.

ومن هنا فقد اخذ يطوف بنا في كثير من المناحي التي تتعلق بواقع ليبيا ككيان جغرافي وسياسي واجتماعي واقتصادي وتاريخي وثقافي ووقف بنا دارسا وباحثا عند كل هذه الجوانب وحاول ان يعطي لنا تقييما لها من خلال رؤيته الشخصية ونحن اذ نختلف معه في بعض منها الا أن كراسته (معنى الكيان) تعطينا آراء واضحة في العديد من القضايا الحماسية التي لم تطرقها الاقلام حتى ذلك الوقت التي ظهرت فيه هذه الكراسة وهي في مجملها تشتمل على تحليلات واقعية للمجتمع الليبي قبل النفط ذلك المجتمع الذي كان مبنيا على نمطية سلوكية بزعامة المدينة ومن هذه الناحية فهي – أي الكرامة – وثيقة اعتمد فيها الكاتب على الواقع الحي في تقرير آرائه وبناء أفكاره بحيث تبدو هذه الكراسة الصغيرة في حجمها احسن من كثير من الدراسات والابحاث التي قدمتها كتب تعد من المطولات وكتلب اخرى طبعتها الأساليب الاكاديمية بطابعها وخسارة أن يتوقف القويري عن الاستمرار في مثل هذه الدراسات التي تخضع الواقع الليبي – متمثلا في الوطن بكامله – الى الدرس والبحث والتقييم ولو استمر القويري على نهجه في اصدار كراسات اخرى مماثلة لكان بين ايدينا اليوم دراسات كبيرة القيمة وبالغة الاهمية.

أما الكراسة الثانية التي اتخذ لها عنوان ( كلمات الى وطني ) قد وضعها المؤلف في اسلوب الرسائل ونهج فيها نهجا أقرب ما يكون الى الصياغة القصصية وربما احسست وانت تقرأ هذه الرسائل أنك بصدد قراءة رواية يتوخى كاتبها التفاصيل الدقيقة ويرسم مظاهر حياة عريضة ويصور مجتمع ويرسم شخصيات في حالة من حالات التحول الذي أحدثه ظهور النفط في ليبيا وأثر ذلك في تضاعيف النفوس وعلى مسار الاخلاق وتوجهات الافراد.. يقول القويري في مقدمة الكراسة بأن هذه الرسائل قد عثر عليها بعد ما مات صاحبها منتحرا ووجد فيها دافعا قويا لان ينشرها، وربما يكون في هذا شيئا من الصحة، ولكن هناك تدخل واضح وأكيد في جانبه اذ نراه موجودا في كل صفحة بل وفي كل سطر من سطورها.

وهذه الرسائل التي التأمت في هذه الكراسة تنضح بالمرارة، وتتوقد بالاسى والالم، لكأنما عين الكاتب لا تكاد تقع الا على مساوئ هذا المجتمع، ولا تكشف لنا الا عن الانهيارات هنا وهناك والتي نلمسها من خلال سلوكية الافراد ونزواتهم وتحولاتهم الجنوبية الى مجالات الاستغلال المادي من أقصر الطرق..

ان هذه الكراسة لتعتبر وثيقة نادرة للمجتمع الليبي الذي دخل لتوه في عصر النفط وقدمه لنا بكل نزواته المحمومة واندفاعاته الطائشة. ان المرء ليشعر حقا بالاسى وهو يقرأ هذه الرسائل حتى يكاد لا يرى من شدته الا ذلك الجانب المظلم الذي يقبع وراءه مجتمع آيل الي السقوط والانهيار..

ان (كلمات الي وطني) تذكرني بقصة (المساكين) للكاتب الروسي فيدور ديستوفسكي من كونها هي الأخرى قصة اعتمد فيها المؤلف أسلوب الرسائل وكشف عن الاسى الذي كان يعيشه المجتمع في روسيا القيصرية.

فهو ما فتئ منذ عودته من مصر يكتب بين الفينة والفينة مسرحا يتراوح بين المسرحية ذات الفصول الثلاث أو المشاهد واللوحات، وليس صدفة أن يبدأ هذا الضرب من النشاط بكتابة مسرحية كاملة عن (عمر المختار ) فعمر المختار هو الاسم الاول الذي وصلت شهرته في الكفاح الوطني الى مسامع الكاتب وهو في مصر ولعله قد تأثر بما كتب عنه شعرا ونثرا وامتلأت نفسه فخرا وهو يرى هذه الشخصية الليبية تستقطب اهتمام شعراء كبار كشوقي وحافظ وتتخذ الأقلام من اسمه رمزا لكفاح شعب مجالد مصمم على المقاومة حتى النصر.

كان القويري قبل أن يكتب هذه المسرحية تنقصه الدراية الكافية بالخلفية الاجتماعية، ولم يكن يعرف عن المجتمع الليبي الا ما كان يراه أمام عينيه، وكان هذا غير كاف للغوص تحت قشرته، لذلك فقد لجأ الى التاريخ يتخذ منه سندا يعوضه عن ذلك النقص الذي يحس به – ولعله أحس به هو ايضا – في الناحية الاجتماعية، وينجح في ابراز هذه الشخصية النضالية الرائعة مستعينا بما اطلع عليه من كتابات كرست لها او تلك التي أومأت اليها عرضا في سياق المباحث التاريخية..

ومسرحية عمر المختار تعتبر أول مسرحية ليبية من نوعها فلم يكن حتى ذلك الوقت الذي كتب فيه القويري هذه المسرحية يوجد عندنا مسرحا مكتوبا أو نصوصا يمكن الاطلاع عليها، واذا كانت مسرحية عمر المختار تتحدث عن المقاومة التي تصدى فيها الشعب الليبي الى الطليان الغزاة، فان مسرحيته الثانية ( الجانب الوضيء) هي الاخرى مسرحية وطنية نضالية تتحسس الهموم الوطنية التي انشغل بها الشعب الجزائري ابان كفاحه للتخلص من الحكم الفرنسي، نقول هذا وانما ظهر في هذه المسرحية ما يجعلها صالحة لان تكون معبرة عن كل الهموم الوطنية – وحتى الهموم الليبية – لان الكاتب اتبع فيها أسلوبا مبطنا يصور واقعا تتصارع فيه قوى الثورة مع قوى الرجعية المتخاذلة..

وقد كتب القويري مسرحيات أخرى تتراوح بين فصلين وفصل واحد نشرها في مجموعته (الشعاع) اكتوبر عام 1965 م وهذه المسرحيات لها توجهاتها المختلفة في المضمون وهي تحتاج الى قراءة متأنية للكشف عن القضايا التي تثيرها وبما انه غير ممكن الان على الاقل فانه ينبغي علينا أن نسجل هنا بعض الملاحظات الصغيرة المتصلة بأسلوب المؤلف في بنائه المسرحي، فهو يعتمد في جميع ما كتب من مسرحيات على الحوار القصير، والاسلوب البرقي في المعالجة التي يطغي عليها الجانب الذهني، وهي لهذا السبب قد تكون مسرحيات صالحة تماما للقراءة اكثر مما هي صالحة للتمثيل والتجسيد المسرحيين.

وفي الحقيقة ان مسرح عبد الله القويري لم يدرس بعد دراسة وافية رغم جهوده في هذه الناحية فقد كان لها اهميتها المرحلية وذلك بالنظر الى ندرة من يكتب النصوص المسرحية عندنا ولكونها مسرحيات ملتزمة بالهموم الوطنية والاجتماعية والانسانية ولعل الفرصة ستكون أنسب لمعرفة عبد الله القويري الكاتب المسرحي لو خصصنا له بحثا مستقلا يستوعب هذه الناحية في نشاطه المخصص للمسرح.


مجلة الثقافة | العدد: 3-4، 1 مارس 1982م.

هوامش:

(1) عبد الله القويري (وقدات) الاسبوع الثقافي العدد 373 عام 1978 م.

(2) عبد الله القويري (عندما تضج الاعماق) ص 19 ط أولى.

(3) عبد الله القويري (طاحونة الشيء المعتاد) ص 83 ط أولى.

(4) عبد الله القويري (طاحونة الشيء المعتاد) ص 83 ط أولى.

(5) المصدر السابق ص 13

(6) المصدر السابق.

مقالات ذات علاقة

الرياضة الليبية تودع أحد أعمدتها: الموثق والصحفي فيصل فخري السنوسي في ذمة الله

شكري السنكي

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (20).. علي مصطفى المصراتي

حسين بن مادي

صلحاء سبها

المشرف العام

اترك تعليق