اشتيوية حسن بن محمود
إن الكتابة وفق السرديات السيميائية تتطلب دراسة آليات إنتاج المعنى/الدلالة، أو ما يُعرف بـ(شكل المعنى) الذي يتطلب من الناقد قراءتين إحداهما استكشافية تنطلق من الأبنية اللغوية للنص، وأخرى عميقة تتطلب ربط البنية السطحية بالبنية العميقة للنص لإنتاج الدلالة، وبهذا تكون اللغة داخل العمل الأدبي مرجعية في ذاتها ولا تحيل إلّا على نفسها، إذ إنها كون دلالي مستقل، وقد تم التوسع في السرديات السيميائية وفق غريماس في الجزء الأول من الورقة.
المناص :-
لماذا (خبز على طاولة الخال ميلاد)؟
أحيانا تكون التأويلات فارغة من محتواها، حيث يبدع الكاتب عملا لا يعرف من أين ولماذا جاء، فينذهل من تأويلات القراء تارة، ويضحك تارة، وبما أن النص سهم منطلق فقد يصيب منطقة القارئ بزوبعة لا تجعله يهدأ حتى يصاب هو الآخر بعدوى الكتابة، فإن رواية خبز على طاولة الخال ميلاد هي من الغنى بما يكفي للكتابة عنها من عدة جوانب، أحدها المنهج السيميائي الذي يرى أن النص كلعبة الأحجية لا يمكن أن يكتب شيئا زائدا أو غير خاضع للدراسة بدءً بلوحة الغلاف مرورًا بالعنوان والنصوص الموازية إلى البداية والبؤرة والنهاية، ولذا تم وصف المنهج السيميائي بضرب من الذاتية التي تجعله ينتج معرفة جديدة مع كل قراءة ومع كل قارئ.
المثل والدلالة:
“عيلة وخالها ميلاد”
“إرخي روحك تعوم”
“تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة”
“الفرس على راكبها”
“البنات زريعة إبليس”
“أضرب القطوسة تتربى العروسة”
“الراجل ما يعيبه شيء”
كل الأمثال المصاحبة للنص تصب في نفس المنبع وتشكل ثنائية ضدية بين الرجل والمرأه، وقد يلتقيان في نقطة يتنازل فيها الرجل ليشارك المرأة، فيكون محل سخرية كما هو المثل الأول وعنوان النص، وبهذا تناقش الرواية موضوع الهوية الجندرية في المجتمع الليبي، وقد توسلت الرواية بالأمثال الشعبة لتعنون لوحاتها في تكثيف منتظم يربط فيما بينها، ويعد المثل الأول (عيلة وخالها ميلاد) هو المرتكز السردي الذي دارت حوله الرواية فهو يستنكر على الرجل الذي لا يسيطر على النساء التابعات له فهو يتحرك من نقطة الرجولة إلى (اللارجولة/المرأة)، فهو يتحول من المركز إلى الأطراف فيغدو مفرغًا من وظيفته الدلالية؛ فهو من ينظف البيت ويطبخ ويصنع الحلوى، كما أنه تشكيك في أخلاق النساء اللاتي يتبعن ذلك الرجل مثلا زوجته أو أخواته، وبذلك تتحرك المرأة من نقطة المرأة إلى (اللامرأة/الرجل) فهي تتخطى وظيفتها النمطية إلى الوظيفة الجديدة غير المحدودة كأن تكون المُعيل للأسرة أو تقرر وتفعل ما يحلو لها. رجل/ مرأة لا_ مرأة لا_ رجل. إن صورة الخباز في الرواية تجعلك تقدسه، وهكذا في كل عمل، فالكاتب يرى في نفسه المنقذ للبشرية، وكذلك الطبيب، الكيميائي والعسكري، والبدوي، كل أولئك بإمكانهم خداعك فتصدق أن الخباز روح الله وجذوة الحياة، فهو يتقن أدق التفاصيل في عمله بنزوع رمزي، يقود إلى تأكيد فكرة “المعادل الموضوعي، بين صناعة الخبز وتقنياته، وبين صناعة العمل السردي وآلياته”.
اشتغال الدلالة في المتن الروائي
يمكن دراسة هذه الرواية من خلال نموذج غريماس الذي يُفضي إلى النسق المُشكل لبنية الرواية، وذلك ببيان كيفية اشتغال الدلالة في الخطاب الروائي ويمكن تقسيم البنية الكلية للرواية إلى ثلاثة نماذج:
1 الذات =====< الموضوع
وتحكمهما علاقة رغبة وتحقيق
2 المرسل =====< المرسل إليه
وتحكمهما علاقة اتصال/انفصال
3 المساعد ===== <المعارض
وتحكمها علاقة تضاد
ويمكن تطبيق هذه البنية على رواية خبز على طاولة الخال ميلاد قبل الولوج في تفاصيل البنية الروائية كالتالي:
1 البطل (الذات) =====< المساواة بين المرأة والرجل (الموضوع)
2 الواقع (المرسل) =====< الأعراف (المرسل إليه)
3 طبقة التنويرية (المساعد) =====< الطبقة الكلاسيكية (المعارض)
شخصية ميلاد من الممكن أن تجدها بسهولة في شوارع المجتمع الليبي ظاهريا من حيث اللغة والعادات اليومية، لكن الأفكار التي تختلج في روحه مخالفة للمحيط، “كان عليَّ ذلك اليوم أن أستنتج القوانين التي اتفق مجتمعنا على وضعها، ومنها أن العفوية في الحديث عما يجول ببالك قد تشكل خطرًا عليك وعلى من حولك. تعلمت الدرس الخطأ، تعلمت أن أصمت، لأنني في الوقت ذاته لم أرد خيانة وصية أبي في هجران الكذب والتمويه”.إن المعجم الذي يُرْوى على لسان البطل متداول و من السهل جدًّا أن تجده بين فئة الشباب، لكن العقدة تكمن في كون ميلاد ينفر من بعض سلوكيات الرجال آن ذاك “ماذا؟ اللهم صبرك يا ولد يا غبيّ أنت رجل، لا يجوز للرجل أن يجالس النساء، إنهما كالملح والخميرة، ألم تفهم؟ بل وتتمادى وتلمس شعر أختك”، و يتحدث عن والده بشعور مختلط بين (القدوة/الجاني) بين (الحب/الخوف) فلا يمكن تحديد موقع الراوي إذا ما كان معترضا أو معجبًا “ركضتُ كأي فتًى سعيدٍ أدرك أن الدقائق القادمة من حياته سيثمنها بالذهب. ثمة لحظات تعيشها مع والدك مهما تكن خشونته، قساوته عليك، أو انعدام تصريحه بحبه لك، تعرف أنها تعبيرٌ عن الحب الغارق داخل قلبه”. فيما تتضح البؤرة عند الحديث عن العبسي.. ذلك الرجل المخادع والاتكالي، الذي لا يقيم وزنا لأحد رغم ذلك فالأشياء الجيدة تأتيه دون عناء، فهو المالك (للبراكة)، الآمر الناهي، وهو فحل (خدوجة)، يمكنه أن يفعل أي شيء دون كثرة تفكير، وبكل تلقائية يمكنه التلذذ بالحشيش النساء، خدمة ميلاد، والسيطرة على أمه وأخواته، وأخيرا على تفكير ميلاد وسلوكياته “كانت لعبسي شخصية كوميدية جذابة تستقطب الشباب. فهو ملم بأحوال الحي، وأسماء الأرواح فيه من العصافير الصغيرة حتى الرجال الكهول والأشجار. شك كثيرون في سلامة عقله، إلّا أنّني لم أجد عقلًا أسلم منه. لم يعمل بيده يومًا حتى أعماله التي يقتات منها (أفاريات) سريعة، وكل الأعمال اليدوية التي يحتاج إليها كان يقحمني فيها بدلًا منه. كان مكتفيًا براتبٍ من مؤسسة الصحافة، التي يعمل بها افتراضيًّا… يذهب إليها مرة واحدة في الشهر”.
زينب الفتاة الليبية التي تعيش بفكر أوربي ورثته من عمها الرسام الماجن، لم تترد يوما في تسليم جسدها لحبيبها ولم تخجل كما هي البنت في ليبيا، كانت تبادر، مما يوحي بأنها متمرسة، رغم أن ذلك لم يرد في السرد، تَرَدُّدُ البطل وتَذَبْذُب عقيدته في المرأة المثال والرجل المثال “رأيتها تركب وحدها في سيارة المدير سألت الله ما الذي فعلته حتى تعاملني الحياة بهذه الطريقة. ألأنني كنت ولدًا وحيدًا لأخوات أربع، ولأني تعلمت ظفر شعر أخواتي وأنا في العاشرة، وصناعة الحلوى النسائية في الثانية عشرة، ولأني صنعت الخبز والكعك والحلويات والبريوش وتعلمت الطبخ منذ طفولتي؟ ربما لأنني رضيت أن أغسل ملابس زوجتي وأرتبها وأكويها، وأنظف بيتها وأغسل أوانيها؟”. طبق أفكاره المنفتحة، وتزوج حبيبته التي يمكن أن يطلق عليها (عاهرة) طبقًا للمحيط، (شربا معا حد الثمالة، وخانا القضية الفلسطينية بالجلوس مع اليهودي بنجامين وابنته سارة، سبحت بملابسها الداخلية تحت القمر، خروج زينب بـ(البكيني) عدم رضى ميلاد، تلذذه بجسدها العاري تحت الماء) كلها تجليات اللاوعي الذي يدور في نفس كل فرد مكبوت، فلا هو انمحى من ذاكرته وتفكيره ولا هو قادر على ممارسته دون قلق وخوف وانزعاج وربما تأنيب ضمير. وتتصارع الثنائيات الضدية، بين الانفتاح والانغلاق، ومن يفوز، ويمكن تطبيق النموذج العاملي بصورة أدق على تفاصيل الرواية كالتالي: 1ميلاد (الذات) =====< إقامة علاقة زوجية مع زينب مبنية على المساواة (الموضوع) 2نجاح زينب في مجال عملها (المرسل) ======< المحيط الروائي (المرسل إليه) 3العم زينب_ ميلاد (مساعد) =====< العبسي_ الأم_ الأب_ المدام مريم_ الأمثال_ الحزام_ المئزر_ الموس_ النهاية_ ميلاد (معارض) ويمكن ربط البرنامج السردي السابق في كون ميلاد يمثل مساعدًا ومعارضًا في الوقت ذاته فهو يرغب في إقامة علاقة زوجية مبنية على الاحترام وتكفل لكل طرف حقوقه وواجباته التي يتوصل إليها من خلال كفاءته فهو يهتم بالمنزل في الترتيب والتنظيف والطبخ بينما تعمل زينب في الخارج في عملية معكوسة تنقض الصورة النمطية للمرأة والرجل، لكن المعوقات الكثيرة التي تحيط بهذا البرنامج يجعل الذات تتعرقل في الوصول إلى موضوعها الذي ترغب فيه وهو المساوة، ويتم ذلك من خلال اتصال ميلاد/زينب وتبادل الأدوار بينهما، ويظل إلحاح المعارض (عبسي) الأقوى تأثيرًا حيث يشتغل وفق آليات منطقية مدعمة بالدليل وهو (ركوب زينب في سيارة مديرها) وتُعد هذه البنية فرعية في النموذج العاملي إذ تُشكل خطاطة أخرى داخل الأولى وهي: العبسي/ إدخال الشك في عقل ميلاد تجاه زوجته زينب وهو معارض خارجي يصدر عن شخصية أخرى، وهناك معارض داخلي يصدر عن الذات نفسها وهو (تَغَيُّرُ زينب وخفوت تذمرها من مديرها في العمل بعد أن كانت تشتكي من معاملته بشكل متكرر) وهو ما جعل الأدلة تتراكم على الطاولة أمام ميلاد سكوت زينب عن موضوع المدير/تأكد ميلاد من خيانة زينب”أيادٍ أخرى كانت تساعدني على فعلها، يد أبي يدُ المادونا يدُ العبسي نجلدها معًا ارتديت المئزر، مئزر أبي الهدية مررّت الموسى في رقبتها، ابثقت روحها خارجة طليتُ أظافرها، وضفرت شعرها المجفف، قبّلتها على وجنتيها، غطيتُ بالبودرة والمكياج نحرها المذبوح، أغلقتُ عينيها وتركتها تنام في الغرفة”،وكذلك المدام مريم التي أخذت موقع المعارض في موضوع العلاقة الزوجية الآمنة بين ميلاد وزينب وموقع المساعد في نجاح الرجل بمعناه العُرفي. المدام مريم (معارض)=====< استقرار ميلاد وزينب ونجاح الزواج (الموضوع) المدام مريم/ تأكيد شكوك ميلاد حول زوجته زينب ” الجميع في المؤسّسة صاروا يشكّون في علاقتها مع المدير، لم أرد إخبارك بأنها تخرج معه إلى المقهى._ أعرف ذلك.
ثم مضت تحكي عن تغير علاقة زينب بالمدير… ومحاولتها التقرب منه منذ زمن. أخبرتها ذات يوم أنها استطاعت أن تتواصل مع هيئة الرقابة الإدارية، وأخبروها بأنها إذا قدمت دليلا واضحًا على فساد أخلاقه وتحرشه بالموظفات داخل المؤسسة، فإنهم سيتمكنون من تقديم تقرير وقضية تتيح لهم نزعه عن المكان. ولما كانت زينب إحدى المتضررات من المدير فقد قررت أن تفعل ذلك… أخبرتها المدام بمدى خطورة الأمر، وبأنّه سيؤثّر على سمعتها قبل كلّ شيءٍ وحتى إذا… عُزل من منصبه، فستكون هي محط الشك والتشهير، سينصب الرجل في المجتمع كأحد العظماء الذين عرفوا كيف يستغلّون مناصبهم ويكشفون أكبر عدد من العاهرات في المجتمع… لكن الوقت طال على الخطة… وآخر مرة حدثتني فيها عن الرجل، قالت إنه رجل جيد”. يظل ميلاد مشتتًا بين أفكار العبسي وعدم منطقيتها، فهو يرى أن كل النساء عاهرات ماعدا أمه وأخواته، والقاعدة المنطقية تقول:
بما أن كل النساء عاهرات
وبما أن أخت العبسي وأمه من النساء
إذًا فهن عاهرات.
وتتسارع وتيرة الأحداث لتنتهي نهاية تشبه أحلام اليقظة إن لم تكن هي فاليد التي اعتادت صنع الحلوى بالعسل والزهر، استطاعت أن تحكم قبضتها على سوطٍ يعلو ويهبط على ذات الجسد الذي كانت تخدمه، بل يمكنها أن تقبض سكينًا وتجتث عنقًا بدلًا من انتزاع الشعر، وبهذه النهاية المفتوحة تقفل اللوحة السردية أبوابها تاركة للقراء زمام التأويل، فالذات لم تصل إلى موضوعها بسبب الكم الهائل من المعارضات أمام المساعدات التي بدت هزيلة خجولة ولا تتردد في أن تتحول إلى معارضات تجمع القوة الدافعة بخلاف الوصول وتعمل جاهدة على انفصال الذات عن قيمة موضوعها.ظلت هناك فجوات في النص مثل صوت الراوي (ميلاد) إذ يحكي لل(مدام) طيلة السرد فهي المروي له الأساسي أو ما يعرف ب(الحكاية الإطار )، ثم تأتي شخصية المدام هزيلة مفتعلة في الربع الأخير من الرواية، وتؤكد الرواية على اختلاط المفاهيم بين المرأة والرجل فكل منهما قد يحل محل الآخر، لكن قوة الأعراف تُعيد المفاهيم على حالها فتخسر المساعدات صراعها مع المعارضات، ولعل عنوان الرواية قد حسم القضية.