(قراءة في رواية: خبز على طاولة الخال ميلاد) لمحمد النّعاس[1]
د. علي برهانة
أعاتب دهرا لا يليـــــــن لعاتــب
وأطلب أمنا من صروف النوائب
(عنترة بن شدّاد)
“إن مزج اللافهم والفهم والبساطة والسذاجة والذكاء هي ظاهرة مألوفة في النثر الروائي، ونموذجية بطريقة عميقة” ميخائيل باختين
فبداية العنوان (خبز على طاولة الخال ميلاد) ,, عندما نقرأ هذا العنوان نعرف أن ميلاد ليس مجرد شخصية عادية، بل هو الخال ميلاد، فإذا كنا ليبيين تبيّنا ملامح شخصيته لأنه حاضر لدينا في الأمثال الشعبية، بوصفه ممثلا للرجل فاقد السيطرة على الوسط النسائي الذي يٌفترض أنه مسؤول عنه، وإذا لم نكن ليبيين وجدنا ذلك في العتبة الثانية بعد عنوان الفصل الاول في الصفحة السابعة، حيث يبدأ النص – نص الرواية – والفصل بعنوان (المخبز) فيحضر هنا (الخبز)، و(الخال ميلاد)، وبهذه العتبة تبدأ الرواية لعبتها الأولى موهمه القارئ أن بطل الرواية شخصية ضعيفة باللغة البسيطة (مهزوزة) وللأسف هكذا فهمت الرواية.
فميلاد الشخصية الرئيسة في الرواية يجمع بين البساطة والسذاجة والذكاء والصدق والتلقائية والضعف والخوف وهو الشخصية التي تروي الأحداث، ويقدم كل شيء كما هو، أو كما يحدث، لا يٌخفي منه شيئا سواء كان هذا الذي يحدث مما يتحدث عنه الآخرون أو يتسترون عليه، ومن هنا كان شخصية إشكالية لقد وقع الكثير من الحديث عن البطل الإشكالي منذ جورج لوكاتش[2] في نظرية الرواية، إلى الدراسات العربية التي بحثت ذلك[3]، ولكنه كان غالبا ذلك المثقف الذي يملك وعيا مختلفا عن وعي الوسط الذي يعيش فيه أو متجاوزا لهذا الوعي، وبذلك فهو غريب أو مغترب لا يحقق تواصلا مع المجتمع فهو شاذ أو لا منتمي أو مجنون، لكن غربة ميلاد من نوع آخر إنه الشخص الذي يعامل الآخرين بوجه واحد لا يٌخفي شيئا، فهو لا يتردد أن يقول لا أعرف، أو لا أقدر، أو نعم فعلت ذلك، حتى إذا كان الأمر المعني مما يخجل منه عادة الآخرون، فهو يخبر أباه عندما تحدث عن علاقته بأخواته أنه يشتري لهن القطن، ولم يستطع أن يفهم لماذا غضب أبوه من ذلك وصفعه أعنف صفعة تلقّاها في حياته[4]، ناهيك عن مساعدته لهؤلاء الأخوات في صنع الحلوى التي ينزعن بها الشعر، وتزيين أظافرهن، وغير ذلك، لقد كان الذكر الوحيد بين ثلاث أخوات يكبرنه وقمنا بتربيته وعاش بينهن يستمع إلى أحاديثهن ويتعلم منهن كل ما يتعلق بشؤون البنات، ونظرا لبنيته الضعيفة جسديا لم يجار زملاءه في الشارع أو المدرسة في ألعابهم أو ممارساتهم العنيفة.
قراءة هذه الرواية تكمن في القول إن شخصية (ميلاد) أو (الخال ميلاد) يمكنها تنهض بالبطولة، وأنها جديرة بأن يقرأ عنها ويُستمع إليها عكس ما هو سائد.
إن وظيفة الرواية تتمثل في طرح الأسئلة، وليست الإجابة عن الأسئلة، وأية أسئلة؟ إنها الأسئلة المستفزة الغريبة بل والشاذة، يقول جورج لوكاتش ملخصا الرواية، أي ما هي: ” السير في الطريق ابتدأ والرحلة انتهت”[5]، أي أن الرواية تمثل الأزمة بكل اشكالها، من هنا كانت هذه الرواية مختلفة وربما متميزة.
لقد قرأت رواية النعاس هذه على غير عادتي مرتين أو ثلاثة، وعدت لقراءة أجزاء منها مرات عديدة، وتعبت في تتبعها والإمساك بالخيط الذي ينتظمها، فبنيتها صعبة، بل عصية على التتبع، ورغم أنها مقسمة إلى ستة فصول كل فصل فيها يحمل عنوانا إلا أن ذلك لا يزيدها إلا غموضا، ومع ذلك فإن المتتبع لها يمكن أن يختزلها في مقولة واحدة (إن من حق شخصية الخال ميلاد بالتعبير الليبي كما قلنا أن تمارس الحياة وفقا لرؤيتها).
قُدمت الرواية بتقنية الاسترجاع، فميلاد يحكي قصة حياته بعد أن زاره شخص بعثته (المدام) ليستمع إلى هذه القصة ويصورها في (فلم)، بدأت الرواية هكذا:
“آه أهلا.. لقد جئت في الموعد المناسب أشكرك على رغبتك في لقائي أخبرتني المدام بمدى لهفتك على معرفة ما أود البوح به لا داعي إلى الخجل زينب تغط في نوم عميق وقد جهزت الجو المناسب لفلمنا”[6] طبعا زينب تنام نومتها الأخيرة بعد أن ذبحها وكان قبل ذلك قد جلدها حتى فقدت القدرة على القيام[7].
وهكذا بدأت الرواية من النهاية، تقديمها كما قلت عن طريق الشخصية الرئيسة (ميلاد) ولكنه يتخللها الحوار المشهدي، والوصف، وحتى الحوار الداخلي، عدد صفحاتها ثلاثمائة وخمسون صفحة من القطع المتوسط، قسمت إلى ستة فصول، كل فصل قدم له بمقولة ما اتخذت عتبة لدخوله، وكل فصل قسم الى أرقام، كان الانطلاق من كل رقم يمثل نقلة من مستوى إلى آخر، وبناء على ذلك تداخلت مادتها فتبادلت المواقع، الأمر الذي جعلها صعبه التتبع، ولكن سياقها ظل منتظما، فلم يفقد نصها تماسكه لا على مستوى الحكاية ولا على مستوى الخطاب، نهضت بمناقشة العلاقة بين الرجل والمرأة، ومكانة الرجل في الأسرة والمجتمع، وهو موضوع قديم كما هو معروف، لكنها عنيت بموضوعات سياسية ومهنية وثقافية واجتماعية وأرّخت لفترة عاشها المجتمع الليبي وسجلت مجموعة من الممارسات اليومية التي انبنت على الوضع السياسي في الفترة التي جرت أحداثها فيها، وأصبحت متداولة ومعروفة على مستوى العلاقات المهنية والاجتماعية.
لقد كان الصراع في الرواية داخل نفس ميلاد بينما هو عليه، وما يريده أو يحدده الآخرون، ولعبت هنا شخصيات أخرى مختلفة دورا في تحديد مصير الشخصية الرئيسة، لقد كان (ميلاد) مثالا للرجل الهزؤة الذي يتندر عليه الآخرون، ولم ينظر إليه أحد بجد في القرية من الوسط الليبي إلا (المدام)، هذه الشخصية المثقفة المتمدينة المتفتحة على ثقافات أخرى بسبب حياتها في أوروبا وتعليمها، وإلى جانبها كانت زينب محبوبته ثم زوجته بعد ذلك، لقد نظرت إليه بنظرة مختلفة وأحبته ورضيت به لأنه مختلف عن غيره، “لم أهتم يوما للرجال الأقوياء، أحببتك لأنك انت، حنون ولطيف، ولأنك تعد لي البيتزا وتنصت لكل ما أقوله ولأنك تحترمني، لا يهم إن كنت قويا وقادرا على اللكم والضرب والركل… ما يهم أنني عندما أمسك إصبعك الأصغر أشعر بالسكينة”[8]، كان هذا كافيا لأن يجعل ميلاد أسعد رجل في العالم، ولم يعد يهتم بما يقوله عنه الآخرون، لكن ذلك أيضا لم يدم طويلا. ومن هنا بدأ الصراع داخل نفسه ” لكن إيقاعي اليومي تغير تماما منذ أن صارحني العبسي بما يجول في خاطره”[9]
صبغ الصراع عرض الرواية فبينما تحكي الشخصية (ميلاد) موقفا أو تاريخا مشرقا كتذكره أيام الحب الأولى، واللقاءات والتسكع صحبه محبوبته زينب في شوارع المدينة، يسترجع موقفا مؤلما أو رماديا أو معكرا لصفو هذه الحياة الطيبة.
هذا الاسترجاع صنع تداخلا في النص، و هذا التداخل مارسته الشخصية الروائية (ميلاد)، إن الرواية رغم أنها متخيلة إلا أنها كتبت بتقنية (السيرة الذاتية)، ولذلك كانت اللعبة الزمنية فيها متنوعة ومتداخلة جمعت كل تقنيات الزمن، لقد كان ترتيب الأحداث متداخلا بسبب التكسير الزمني الذي مارسه الراوي (ميلاد)، وطبعا من خلفه الكاتب، فميلاد يحكي قصته بحميمية كبيرة جدا ويغرق في التفاصيل وينتقل من زمن حاضر إلى زمن قديم جدا، ومن هذا القديم الى زمن قريب، ليعود فيرهّن الحديث، مما يوهم بأن ما يقوله كان واقعا وهو يخبر به الشخص الذي يُفترض فيه أنه جاء ليستمع لقصته ويحولها الى (فلم)، فمثلا في الفصل الذي بعنوان (المعسكر) كنا نتوقع منه أن يحدثنا عن تجربته في التدريب العسكري الذي دخله متطوعا وفقا لوصية والده حتى يجعل منه رجلا، وهو ما فعله، لكنه يكسر الزمن بطريقه غريبة جدا وينتقل إلى الحديث عن أمور أخرى لا علاقه لها بالمعسكر، ولكن تنتمي إلى فضاءات عائلية وأخرى فنية أو سياسية أو اجتماعية، هذا الفصل بدأ من الصفحة 61 وانتهى بالصفحة 112، وقد قدمت فيه وقائع ماضية قديمة بعد وقائع أحدث منها في الزمن، ومسائل راهنة، ثم العودة إلى الماضي وهكذا.
بدأ الحديث عن اليوم الأول في المعسكر من الصفحة 61، وقد بدأ هذا اليوم بالعقاب له ولزميلين له، (منير) من (بوسليم) و(أنور) من (قرجي)، بسبب مجيئهم إلى المعسكر في ثياب مدنية، “وهكذا أمضينا اليوم على ركبنا تأكل الشمس مؤخرات رؤوسنا”[10] وبعد معاناة طويلة: ” قبل أن ينتهي الوقت ارتميت على الأرض الإسفلتية وغبت عن الوعي من شدة العطش”[11]
الفصل بدأ برقم ثلاثة وبعد كلمة (العطش) السالفة الذكر جاء (رقم 4) لينتقل الحديث إلى فضاء بعيد جدا عن المعسكر وزمن غير زمنه بدا هكذا: “الشمس تجي وتعدي والأيام تفوت وما تهدي.. وأنا وأنتِ زي الريح ودك ما رافق ودي. أحببت أحمد فكرون، أحسست أنه الوحيد الذي عبر عني من أبناء جيله، كنت في شبابي استغرق ساعات من يومي فقط لسماع ما يغنيه”[12]، ثم تحدث عن شغفه الشديد بهذا المغني لينتقل إلى جيله كله، وإلى بوب مارلي[13]، والحديث عن الملابس الشبابية تقليدا له وكذلك إطلاق شعر الرأس.
ليعمم بعد ذلك عن أغاني العشق في ليبيا التي تحدث عنها بطريقة الصادق النيهوم، وذلك بإبراز المفارقة بين رقة الأغاني والعناية فيها بالمرأة لدرجة التذلل لها، والواقع القاسي الذي تلقاه على يدي هؤلاء العشاق، “عندما تسمعها (الأغاني) وتعرف أن عددا كبيرا يسمع ما تسمعه سيخيل لك أن هؤلاء الذكور الذين يصغون إلى أغاني بمثل هذه الحساسية هم ألطف مخلوقات الكون، ولكن العكس هو الذي يحدث كل يوم”[14] ثم تحدث عن ابن عمه (العبسي) الذي كان يستغله في مشروعاته الكثيرة، ثم عاد بعد ذلك إلى رقم ثلاثة في الصفحة الخامسة والسبعين، وهنا تحدث عن ذكريات طيبة في المعسكر وعلاقاته مع مهربي السجائر، وعن سرقة البطاطين وبعض الأواني السوفيتية[15]، ثم التجربة الثانية الأليمة والحديث عن الهروب، ليعود في الصفحة ثمانين إلى حديث العبسي عن رؤيته زينب تركب في سيارة مدير المؤسسة، وما طرأ على حياته من تنغيص، وما حدث بينهما من مشاكل وصفعه إياها، كل ذلك بعد رقم أربعة، ثم يعود إلى الرقم ثلاثة، لينتقل إلى حديث المعسكر ورسم خطة الهروب حتى الصفحة 93، وهنا يعود الى الرقم أربعة، الحديث عن زينب وعنه، في هذه المرحلة يعود بالزمن الى الفترة الأولى من زواجه عندما كان يعيش مع أمه وأخواته في الطابق الأول ببيتهم، ليتذكر الشجار الذي وقع بين إحدى أخواته وزينب بسبب (شي الدجاج)[16] وما حدث فيه، ليعود في الصفحة 101 إلى المعسكر وحديثه عن الهروب وموت رفيقه، والقبض عليه هو وتعذيبه، ومحاولته الانتحار والنجاة منها بأعجوبة حسب الطبيب[17]، ثم خروجه من المعسكر ليعود إلى الرقم أربعة في الحديث عنه وعن زينب، ولكنه بدأه بالترهين عندما سأل محدّثه “هل أخبرتك أني أحب البخور؟”[18] وهنا انتقل بالزمن إلى الحاضر وحدثه عن حبه للبخور، وأنواعه، وكيف يستعمل، وكيف يقوم بتبخير البيت، وأخذه في جولة في البيت ليريه الغرف، وحدثه عن كل واحدة فيها. هذا يستدعي بدوره وظيفة هذه الغرفة وكيف اتفقا على جعلها في هذا المكان، أي العودة بالزمن للماضي، ثم استئناف الترهين حتى وصل إلى قريب من غرفه النوم، “في نهاية الممر تقع غرفه النوم لنتركها الأن فزينب نائمة ولا نريد ايقاظها، أليس كذلك؟!”[19]، حتى وصل إلى غرفة الطفل، “قد تسأل نفسك كيف يمكن لزوجين يبنيا غرفة للأطفال في منزل لا طفل فيه”[20]، وبعد السؤال عاد بالزمن إلى سعيهما هو وزينب لإنجاب أطفال، “وما فعلا من محاولات طبية في البلاد وتونس”[21]، وما سمعا من نصائح، وكيف حملت زينب وأجهضت بسبب حمى نتيجة البرد، استغرق ذلك أربع صفحات، وقد أطلق اسم (دار غزالة) على غرفة الطفل لأنه يريده طفلة يسميها غزالة، وهنا ينتهي هذا الفصل ليسلم الحكي إلى الفصل الذي بعنوان (دار غزالة)، وهو مثل الذي رأيناه في فصل المعسكر، دائما اللعب بالزمن وتكسيره بطريقة يتحكم الراوي (ميلاد) المتماهي مع الكاتب فيها عن طريق النقلات التي يقترحها على محدّثه، حتى يأخذه من زمن إلى زمن كما رأينا.
سبق أن بينت أن الرواية تستخدم طريقة (السيرة الذاتية) ولكنها تفعل ذلك بطريقة السرد الشفاهي، فهي حديث بينه (ميلاد) وشخص يشاركه المكان ويستمع إليه، وهو ينتقل به من زمن الى آخر وفقا لمنطق التداعي، فقد تلفت نظره نقطه ما فيتحول بالحديث إلى زمن ماض بعد أن يذكرنا بالحاضر الذي هو فيه، مستخدما عبارات خبرية أو إنشائية، تذكرنا بالسرد الشفوي عندما يحدثنا شخص ما عن تجربة مر بها مثلا، “ولكن ما رأيك أن نغير الموضوع قليلا، علنا نشرب كأس شاي أخرى في الحديقة ما فائدة أن أخبرك بقصة زواجي من زينب بأكملها؟ ..على كل حال أفضل أن نقفز إلى الأيام التي تلت الزواج”[22].
كانت وظائف مثل هذه العبارات الانتقال من زمن إلى زمن، وتبعا لذلك الانتقال في المكان، وهذا جعل النسيج الروائي متماسكا ولا توجد فيه ثغرات أو انقطاعات، لقد كانت تمفصلات ضرورية، ” فثمة ما أود أن أقصه عليك نظرا إلى أهميته في قصتي.. يمكنك الجلوس بينما أسقي النباتات، وسأحدثك عما يمكنني وصفه بأجمل أيام عمري”[23]، لا يخفى أسلوب التشويق بالإضافة إلى الإيهام بالواقع في هذا القول، إن هذه العبارات مثلت ما يسميه نقاد السيرة الذاتية (بالميثاق)[24] بين الكاتب والقارئ، فالكاتب سيقول كل ما وقع في حياته والقارئ يصدقه في ذلك، “.. أوفففف أرجو منك المعذرة فكلما تذكرت تلك الأيام انساب دمعي بلا إرادة مني،.. أحتاج إلى مزيد من الشاي وأنت؟”[25]، أنه أحيانا يجعلنا نشاهد إثنين يتحدثان بالفعل مستعيرا أسلوب السينما في ذلك “حسنا أين كنا ؟ . . آه لم أنم تلك الليلة”[26]، وعندما يقول “ثمة بعض من الذكريات في تونس أسردها عليك قبل أن نتابع القصة.. هل يمكنني ذلك؟ لقد تذكرتها الآن وانا أنظر إلى الدرّاجة، لن أطيل الأمر عليك”[27]. توهمنا هذه العبارة بأنه سيقطع سياق وينتقل إلى حديث خارج القصة (قبل أن نتابع القصة)، ولكن الأمر لا يعدو كونه لعبا بالزمان وبالمكان، فنحن في نفس القصة ونتحدث عن نفس الشخصيات وما سيرد في هذه الذكريات هو جزء أساس من حبكة الرواية أو نسيجها وليس حديثا مجانيا أوحشوا، لأن الفن الروائي الأصيل لا يسمح للحشو أن يتخلله، فكل الإشارات والعبارات واللغات التي قد تبدو قصيرة أو عابرة هي ذات وظائف في الرواية ولها دور في سير الأحداث ومصائر الشخصيات.
اللغة في هذه الرواية ,, لقد تجلت في هذه الرواية معظم تقنيات الزمان والمكان وقد كانت الفضاءات التي جرت فيها أحداثها متنوعه متعددة مثل أزمنتها، ولذلك تعددت فيها اللغات ومثلت فيها كل الشرائح الاجتماعية والمهنية والعمرية، يقول ميخائيل باختين ” إن الرواية تتعلم أن تفيد وتستعمل جميع اللغات والصيغ والأجناس التعبيرية، إنها ترغم جميع العوالم الآفلة والبالية والمستلبة والمبعدة اجتماعيا وإيديولوجيا على أن تتحدث عن نفسها بلغتها وأسلوبها الخاصين”[28]، وهذا ما فعلته رواية (خبز على طاوله الخال ميلاد) وعنوانها يمثل توجهها اللغوي المتعدد الغنى، من يفكر في كتابة نص أدبي عن (الخبز)؟!، هذا الشيء المألوف الذي نجده في لغة النساء والعجائز والأطفال، ناهيك عن بقية الناس، فوجدنا في هذه الرواية لغة المخبز (الكوشة) ولغة (البيتزاريا)، ولغة السوق، ولغة السكارى، ولغة العسكريين، بما فيها من خشونة، وخصوصية، ووردت فيها ألفاظ التندّر الشعبية والشتائم المقذعة، واللغات المحترمة، وتعدد اللهجات، مثلا بين الليبية والتونسية، وبعض الألفاظ الإيطالية والفرنسية وغير ذلك لغة المدينة ولغة الريف، لغة المثقفين ولغة الحرفيين، وهي لغة متداولة نحن نستمع إليها كل يوم في الشوارع والفضاءات المختلفة التي نتردد عليها سواء رضينا بها أو لم نرض إنها موجودة، وردت هذه اللغات في سياق النص الذي كتب باللغة العربية الفصيحة فكانت فيه موهمة بالواقع مما جعل الرواية تكتسب حيوية وجدية وتنقل القارئ إلى عالمها المتخيل بصيغه الواقعي والمرجعي.
لقد حاول ميلاد أن يوازن بين ما يعتقده وما يريده الآخرون ولكن ذلك لم يكن في الإمكان، من هنا تبدأ الشخصيات بوصفها عوامل لتغذية الصراع في توجيهه -اي الصراع- إلى النهاية المحتومة التي انتهت إليها هذه الشخصيات والعوامل: الأب، والأم، والأخوات، والعم، وابنه العبسي، وزينب، والمدام، وبنيامين، ثم مجموعة المعسكر، وعلى رأسها المادونّا، ومجموعة الكوشة. تكون (ميلاد) على يدي أخواته اللاّتي كنا يكبرنه، ويتولين العناية به طفلا ومراهقا، وأمه التي استقى منها بعض المقولات التي ساهمت في مصيره، “الفرس علي راكبها”[29] لكن تكونه الذي أثر فيه، كان على يدي والده (الخباز). فنظرا لحبه للطبخ وخاصة (الخبز) وجد في المخبز (الكوشة) مجاله المريح، ولما كان أبوه خبازا محترفا فقد تأثر به كثيرا، واعتقد أن مقولاته عن الحياة وموقف الإنسان منها صادقة، كمقولاته عن صناعة الخبز، ولهذا تمسك بها واعتبرها دستورا له. فقد جعلته في وضع محير بين الواقع والمثال، ولما كان شخصا اشكاليا كما قلنا؛ اصطدم بالواقع القاسي الذي واجهه، لقد كانت مقولات ابيه عن الخبز كلها صحيحة باختباره لها وبراعته في الخبز بشهادة كل من تعامل معه في هذا المجال، سواء من المحترفين كالخبازين التونسيين، والجزائريين الذين كانوا معه في الكوشة، أو الزبائن أو الأهل والأصدقاء، ولكن ما أوقعه في تناقض المجتمع حديث ابيه عن الصدق وعدم النفاق، “لا تسرق يا ميلاد ولا تكذب ان تعيش كما أنت خير لك من الدنيا وما فيها وأنت كاذب، سارق، مخادع، ومنافق”[30] ومما قاله له أبوه أن الرجل لا ينبغي أن يجالس النساء، “انهما كالملح والخميرة ألم تفهم”[31]
الإشكالية تمثلت في المفارقة بين المثال والواقع، إن المثال يقتضي البقاء على اتجاه واحد وموقف واحد، والواقع يناقض ذلك، “كان علي ذلك اليوم أن استنتج القوانين التي اتفق مجتمعنا على وضعها ومنها إن العفوية في الحديث عما يجول ببالك قد تشكل خطرا عليك، تعلمت الدرس الخطأ، تعلمت أن أصمت لأنني في الوقت ذاته لم أرد خيانة وصية أبي، حاولت مرارا عديدة أن اتغلب على عاداتي التي اكتسبتها من أخواتي منذ نعومة أظافري ولكن دون جدوى”[32]
إذن الواقع يخالف كل ما في شخصية ميلاد، لم يحقق ميلاد في الحياة شيئا سوى براعته في الطهي وخاصة الخبز والبيتزا، ولكنه كان مكتفيا بذلك، ولم يعتقد أن شيئا ينقصه سوى أن ينجح في العثور على من تشاركه الحياة، (امرأة) يحبها وتحبه، وعندما بادلته زينب ابنة الجيران القدامى الحب ظن أنه ظفر بكل شيء، واندفع في هذا الحب بكل تلقائيته وعفويته وصدقه أي قيمه الأصيلة في الحياة التي كان يعيش عليها ولم يكن يعتبر نفسه متميزا عن غيره بتمسكه بها، لكنه ظن نفسه شخصية طبيعية وأن الناس كلهم يمارسون الحياة وفقا لقناعاتهم، غير أن علاقته بزينب كان محكوما عليها بالفشل رغم فرحه بها وتمسكه بها وتجاوزه عن كثير من قناعات الأقارب والأصدقاء والأهل ما دامت زينب تحبه وتحترمه وتتمسك به.
لقد كان مستعدا لفعل أي شيء من أجل ارتباطه بها وحبه لها، لكن شخصية زينب كانت مناقضة لشخصيته بشكل جذري، فهي شخصية نفعية برجماتية، الغاية لديها تبرر الوسيلة، ولديها غايات معينه تريد تحقيقها ولم تكن تبحث إلا عن وسيلة لذلك، ووجدته هو هذه الوسيلة، كانت لديها لائحة تريد أن تحققها في حياتها وقد حققت أحدها معه ” قالت لي ها قد حققت هدفا ما في لائحتي، لم أكن أعلم بوجود اللائحة قبل ذلك.. منها نشر كتابها عن عمها ولوحاته، تقبيل الشخص المناسب في البحر تحت غروب الشمس، السفر إلى إيطاليا، وأن يكون لها أطفال يضجون حياة”[33]، كل ذلك كان يمكنها أن تحققه صحبه (ميلاد)، هذا ما كان يجول بخاطرها باعتباره شخصية ضعيفة وغير مثقفة ولأنه حريص على التمسك بها، ورغم الشكوك التي زرعت في طريقه إلا انه حاول تجاوزها، والإصرار على علاقته بها.
كانت منغصاته من الآخرين وليست وليدة تفكيره أي أن الواقع الاجتماعي ضغط على شخصيته بقوة لم يعد في إمكانه تحملها، فعندما ضربه مجموعة من الشباب الذين وجدوه معها في الشارع ولم يخلصه منهم إلا الشرطي الذي اخبرته زينب بأن شبابا يضربون واحدا بقي ليلته لم ينم لأنه لم يستطع الدفاع عن نفسه وعن فتاته وبحث عنها في اليوم الذي يليه ولم يجدها نام في الحديقة في الشمس من الأعياء وشهد كابوسا في المنام مجموعة من الرجال يؤنبونه على علاقته بها والده، المادّونا، عرفة، ابن عمه العبسي، الصادق أخوها، وعمه محمد ” تحلقوا حولي”[34]
إذن كان الواقع الخارجي يوجه علاقته بها، ورغم محاولاته العديدة في تجاهله وفعل ما يراه بنفسه إلا انه لم يفلح في ذلك في النهاية. لقد كان ضغط الواقع ثقيلا أولا في اللقاء الجنسي الأول بينهما ولم يجد لديها بكارة ” أين الدم؟! قلت وانا انظر الى الفراش.. ليست كل فتاه لديها غشاء بكارة.. شككت في الأمر، قرأت الأسئلة التي تدور في وجهي، عرفت ذلك من مصادر طبية في إحدى المواد التي ندرسها بالكلية”[35]كان يتجاهل أي شك قد يبعده عنها عندما سأله بنيامين لماذا تزوجها استغرب السؤال وأجاب بأنه يحبها “ليس بالحب وحده يختار المرء شريكه، ماذا تقصد؟! .. كنت أريد أن ألكم وجهه لم أفهم في ذلك الوقت لماذا كان العجوز على يقين من أن زواجنا ستواجهه حرب شرسة ثم أنني لم أرد فهم ذلك”[36]
لقد كانت زينب مندفعة في فعل كل ما ترغب فيه مادام لا يراها أحد كأن تكون في تونس أو في أي مكان آخر غير مراقب من الآخرين ، من مظاهر التناقض أنه كان يقوم بأعمال البيت بما في ذلك غسل ملابس زينب وكيها و تنظيمها وهي تريد ذلك ولا تريد للأخرين أن يعلموا به “فقالت لي ببرود لماذا أخبرت والدتك بأنك تغسل الأواني ولم أعرف كيف أرد تركتها، كانت بعد ذلك اليوم تتبعني عندما أغسل الأواني لتتأكد أنى اقفلت نافذة المطبخ او تراقب المكان قبل ان انشر الغسيل وتؤكد لي انه إذا سألتني أمي عن الغداء فعلي إخبارها أنى لا أعرف ما طبخت زينب”[37]
إن كلمه (الفرس على راكبها)[38] وردت عتبة في الفصل الثالث الذي عنوانه (دار غزالة) ولكنها تكررت مرات كثيره هي وعبارة (اضرب القطوسة تتربى العروسة)[39] وقد مارست هذه العبارات مزيدا من الضغط -ضغط الواقع- على الشخصية يقول ابن عمه “هل يحتاج الرجل منا الى دليل أو سبب ليضرب زوجته قال لي – أعتقد ذلك -أنت أحمق وغبي لا تحتاج إلى دليل لتضرب زوجتك أنا أحيانا أضرب أخواتي فقط للتسلية وإبعاد شبح الكساد عني يقول لي”[40] “. هذه العبارات كانت جزءا كبيرا من الضغط الاجتماعي الذي نغص حياة الشخصية ميلاد ولم تستطع قناعاته أن تصمد في وجهها لعلها تفكر مثل بقية الناس في القرية، “انه ميلاد لا خجل منه”[41] كذلك عباره “يبدو أنك لا تعرف النساء “تقولها له زينب وتقولها له المدام كل بصدد الاخرى ” أنت لا تعرف النساء يا ميلاد”[42]
كان ذلك فوق ما يحتمل الإنسان العادي لقد تراكم هذا القدر من الممارسات والعبارات والنظرات والإشارات ليصنع من شخصية ميلاد التي تتراوح بين البساطة والغباء والتلقائية والتخنث والذكاء والمسالمة ليحوله إلى مجرم إلى وحش ذلك الوحش الذي كان كامنا في شخصيته وكان يطمسه ويخاف منه ولا يريده أن يظهر في سلوكه
” ذات مره ضربت أختي الصغرى فقط لأني وجدت لديها رسالة من أحد الأولاد الذين يدرسون في المدرسة لكن ارتعاشي من الفعل جعلني أتعرق من شكل الوحش الذي يختبئ داخلي”[43] لقد شرع هذا الوحش في النمو متغذيا بسلطة المجتمع التي ازدادت قوة وأحكمت سيطرتها على كل شيء بطرق شتى ” أخبرتني المدام أن الأمر صار مستعصيا على العشاق الجدد الأن وصارت سلطه المجتمع تسن سكاكينها أكثر فأكثر”[44]
لقد كانت زينب والمدام من عوامل الضغط على الشخصية فقد تحولت زينب من محبوبة رقيقة إلى ما يشبه رب العمل بالنسبة لميلاد فهو يقوم بخدمتها وهي لا توليه أي اهتمام منذ فشلت عمليه الإنجاب التي عملا عليها طويلا “هل أخبرك بنقيض الحب؟ نقيض الحب ليس الكراهية إنه اللامبالاة التبلد التباعد رغم العيش في مكان واحد أن تنطق كلماتك اليومية (صباح الخير) (نعم الغذاء جاهز) وقهوة خالية من الدفء وكأنك تتحدث مع موظف السجل المدني بالبلدية”[45]. في هذا الموقف المتبلد كما في الرواية جاء موقف نقيض له إنه موقف المدام: “لم أجد شخصا شغوفا بالخبز مثلها إنها نقيض زينب، زينب لم تحب كثيرا قصصي عن الكوشة وعن أبي كان حديثي معها يدور في الغالب حول مشاكلها في العمل أو حول الآخرين ولكني لا أتذكر أننا تحدثنا عني لوقت طويل كانت هي المركز وكانت حياتي تدور حولها”[46].
لقد أشعره المحيطون به من العائلة والمعارف بتفاهته وقله أهميته عندما تسأله المدام “هل يمكنك أن تعلمني الخبز… يا ميلاد لم يسألني أحد عما إذا كنت مهتما بتعليمهم ما تعلمته من الحياة”[47]
كانت زينب تعلم بما يعانيه، وبمقدار الصراع الذي يدور داخل نفسه بل وسعت ربما من حيث لا تدري الى تذكيه هذا الصراع بطرق مباشرة وغير مباشرة في الحديث عن إحدى لوحات عمها “تقول زينب إن الرجل الذي يعتمر المعرقة يشبهني … لا تخلو ملامحه من سحنة انثوية، حكى لها عمها قصتها. هي تتعلق بصديق له مات من القهر والخوف من عائلته طاردته حتى تخلى عن حلمه ليصبح فنانا”[48].
إذن كل التراكمات دفعت في اتجاه التحول من المسالمة إلى المواجهة ولم تكن الشخصية ميلاد مؤهلة لتقوم بمواجهة واعية نتيجة لتكوينها الذي وقفنا على خطوطه العريضة فكان لابد أن يتم الانزلاق ويحدث الخلل لقد حاول (ميلاد) التخلص من الحياة بالانتحار في المعسكر[49]، ومرتين في البيت[50]، ولم تنجح هذه العملية لأسباب كثيرة منها تكونه وتغلب عوامل الضعف في شخصيته بالإضافة الى اعتماده على وسائل غير ناجحة في كل مرة يحاول فيها الانتحار يتبول لا إراديا فهو غير مؤهل لاتخاذ مواقف شجاعة ولو كانت سلبية ولكنه مدفوع لها ومضطر بسبب ثقل الواقع من حوله.
لقد حدث نزاع بينه وبين زينب بسبب ركوبها سيارة المدير سيء السمعة وخروجها معه مما وصل الى أن صفعها في إحدى المرات [51] ورأت التغيير الذي طرأ على حياته، ولكن شخصيتها النفعية لم تبال بما وصلت إليه وربما ظنت أن شخصيته الضعيفة من جانب والمتمسكة بها من جانب آخر لن تفعل أكثر من تلك الصفعة التي اعتذر عنها في الوقت نفسه، ولذلك أهملته وأمعنت في ذلك حتى كررت ما كانت تقوم به معه أيام قوة حبهما وعنفوانه، كررته مع شخصية المدير وفي نفس الفضاءات التي كان يستغلانها في ذلك[52]، مما بلغ بأحداث الرواية أن تصل الى أزمتها التي انتهت إليها، التحول العكسي بنسبة مائة بالمائة لقد تحول (ميلاد) المسالم البسيط المغفل الأحمق إلى وحش إلى قاتل، وكان ذلك بطريقة مأساوية جمعت بين الحب والكراهية، لحظة جنون حطمت كل شيء، كان لابد أن تحدث وإلا تكون الرواية بدون دلالة، هنا تكمن عبقرتيها وجدتها وتميزها لقد مارست المكر الروائي بكل قوته وفرادته، عندما يقتل الإنسان الشخص الوحيد الذي أحبه واعتبره حظه الذي ساقه إليه القدر، لقد انقلب الحب إلى جريمة بشعة، بطريقة أشبه ما تكون بالسادية، جلد حتى الإنهاك ثم ذبح يعقب ذلك بكاء واحتضان وعناية بالقتيل زينب، احتضانه والنوم معه، تنظيف بعد ذلك وتعطير واحتفاظ به بكل لطف ومودة، إنه الجنون.
” جريت نحوها ممسكا بالموس احتضنتها مررت الموس في رقبتها، انبثقت روحها خارجة، وضعت رأسها على جسدي وهمست في أذني كلمتين تجمدتُ، تلطخ المئزر والسكين، هدأت أصبت بالدوار ونمنا جنبا الى جنب على أرضيه المطبخ، عندما استيقظت كانت روحها قد فارقت المكان… كانت تبتسم لي كزينب التي عرفتها في أيام رفقتنا الاولى”[53]، عندما بكى تذكر كلمة (المدام) الرجال لا يبكون، وهنا قام بالعناية بها وهو يحدثها عندما أخذ يغسلها في حوض الحمام متذكرا أيام استحمامهما معا قائلا “ينتصر الحب في النهاية، قلت لها وأنا أمرر يدي على الشعر لأنزع الشامبو بالماء الساخن رأيت شعر رجليها قد طال لماذا لم تخبريني كنت سأصنع لك الحلوى.. وهو ما فعله فعلا لقد اعتنى بها تنظيفا وتعطيرا وبودرة وقبلات على وجنتيها وإغماض لعينيها وأنامها على السرير في الغرفة المكيفة ورجع الى أشغاله البيتية العادية، “في اليوم التالي اتصلت بالمدام لأخبرها أني وافقت على عرضها أن احكي لك قصتي[54].
أن هذه النهاية المأساوية تكرس النتيجة التي كان لابد أن تنتهي إليها الرواية، موت زينب وجنون ميلاد، هذه النهاية المفتوحة التي بينت أن ميلاد يحكي قصته وكأنه قام بفعل عادي حتى (المدام) الشخصية الواعية التي تلقفته بعد أن عاد باكيا من مشاهدة زينب تدخل مع المدير شقة عمها كما كانت تعمل معه، واحتضنته المدام وعاشرها جنسيا وعرضت عليه أن يتزوجها، ساهمت في هذه النتيجة ككل المحيطين بميلاد دفعوا في اتجاه هذه النتيجة، أي أن الرواية تحاكم الواقع وتظهر ما ينطوي عليه من خلل مريع ومن تناقض بين الظاهر المعلن والخفي.
لقد قلنا في البداية أن الرواية تطرح أسئلة وليست مهمتها أن تجيب عنها، وهذا ما فعلته هذه الرواية لقد قدمت كونا روائيا متناقضا لا يحكمه منطق معقول وكانت النهاية فاجعه حولت شخصا مسالما إلى مجرم قاتل، إن أسئلة الرواية هنا هي هكذا: لماذا حدث ذلك؟ ومن المسؤول عما حدث، هل الشخصيتان الرئيسيتان (ميلاد) و(زينب) ضحيتان؟ أو مسؤولتان عما حدث لهما من قتل واختلال؟ ما مدى مساهمة الشخصيات الأخرى فيما حدث؟ وكيف تنظر كل شخصية لدورها في ذلك؟ يقول (ميلاد) وهو يجلد زينب بالحزام الجلدي ” في أيادٍ أخرى تساعدني على فعلها، يد أبي، يد المادونّا، يد العبسي، نجلدها معاً… انفعلت، يمكنك القول إني خرجت عن السيطرة”[55]
بقى أنه مما يسجل لهذه الرواية أنها قدمت عرضها كله على اتساعه في مشهد روائي، إن الرواية كلها حديث يبثه ميلاد عن حياته منذ ميلاده إلى أن اختل واقترف جريمته في حق محبوبته لشخص مجهول لنا نحن القراء، ولا نعرف عنه إلا أنه جاء ليستمع إلى قصة حياة (ميلاد)، وربما أنجزها في (فلم)، لكن هذا الشخص قدم في الرواية بأنه الحاضر الغائب، فهو لا يتدخل كأن يسال أسئلة أو يستوضح نقاطا ما، إننا لا نعرف حضوره إلا بالتمفصلات التي قامت بها شخصيه ميلاد في شكل أسئلة موجهه اليه، مثل “زينب نائمة هل تريد رؤيه المطبخ؟ ولكن أرجو أن تتحرك بهدوء، لا أريد إيقاظ زينب، إنها منهكة من الحياة ومتاعبها” من هو هذا الشخص؟ لا نعرفه، وتبقى الرواية مفتوحة على ردة فعله عندما يعلم أن زينب نائمة نومتها الأخيرة بعدما أخبره ميلاد في الثلاث صفحات الأخيرة.
حالة هذا المتحدث إليه كحالتنا نحن القراء، بل إن بعض الاشياء نحن أعلم بها منه، وهذه في حد ذاتها تقنية من نوع فريد، صحيح أنه سبق لروائيين كبار أن قاموا بها مثل (جيمس جويس) في روايته الشهيرة (عوليس) ولكنها تبقى تقنية غير عادية. ثم إن عبارة “إن زينب منهكة من الحياة ومتاعبها” تختم الرواية، تلخصها وتختزلها، فهي ضحية القسوة الواقعية التي لا تتمكن جراءها شخصيه ما أن تعيش الحياة بقناعاتها، ثم تبلغ هذه القسوة حد أن تدفع حياتها ثمنا لذلك.
[1] محمد النعاس، خبز على طاولة الخال ميلاد، الطبعة الرابعة 2022، دار رستم للنشر والتوزيع.
[2] جورج لوكاتش، نظرية الرواية، ت. الحسين سحبان، منشورات التل، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى 1988م، ص73.
[3] محمد عزام، البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة، الطبعة الأولى 1992، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع.
[4] الرواية ص 36 ,
[5] جورج لوكاتش، نظرية الرواية، ت الحسين سحبان، منشورات الرباط المغرب، الطبعة الأولى، 1988، ص69
[6] الرواية، ص9.
[7] م.ن، ص 355.
[8] الرواية، ص71-72.
[9] الرواية، ص 16.
[10] الرواية، ص68
[11] م.ن، ص 69
[12] الرواية، ص 69
[13] م.ن، ص70.
[14] م.ن، ص 70.
[15] م،ن، ص 76.
[16] الرواية، ص 69.
[17] الرواية، ص 105.
[18] الرواية، ص 106.
[19] الرواية، ص 108.
[20] الرواية، ص 109.
[21] الرواية، ص109.
[22] الرواية، ص 142.
[23] الرواية، 142.
[24] جورج ماي. السيرة الذاتية والميثاق. ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة. قرطاج تونس. نشر بيت الحكمة 1992.
[25] الرواية، ص 167.
[26] الرواية، ص167.
[27] الرواية، ص211.
[28] ميخائيل باختين. سبق ذكره. ص158
[29] الرواية، ص200.
[30] الرواية، ص 34.
[31] الرواية، ص 34-35.
[32] الرواية، ص37.
[33] الرواية /ص 166-167
[34] الرواية، ص 171.
[35] ص178.
[36] ص 188-189.
[37] الرواية، ص53.
[38] الرواية، ص200.
[39] الرواية، ص 286.
[40] الرواية، 286.
[41] الرواية، 318.
[42] الرواية، 338-345.
[43] الرواية، ص37.
[44] الرواية، 129.
[45] الرواية، ص99.
[47]الرواية، 307.
[48] ص43-44
[49] ص105
[50] ص38-211
[51] 38-211
[52] ص349-350
[53]الرواية، ص 535.
[54]الرواية، ص357.
[55] الرواية. ص 355