الطيوب | قراءة : مهنَّد سليمان
إنها بنادق الحرب حينما تحفر وسط شوارع المدينة نداء الموت فتتمزق الأجساد إلى أشلاء، وتنهار من علٍ أحلام الأطفال بمساء ربيعي ناعس يمارسون فيه ألعابهم المفضلة. الحرب لا تُبقي ولا تذر تحصد الجميع على كف الفناء جميعهم على حين غِرَّة تصطادهم فوَّهات النار العمياء متى ما تحرَّكوا مسافة إلى المستقبل. حساسيات مشهدية تُعيد رسمها لنا المجموعة القصصية المعنونة(ترميم) باكورة إنتاج منصة (فاصلة) الصادرة عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع، وهي إحدى مشاريع مؤسسة آريتي للثقافة والفنون حيث تلضم داخل متنها كوكبة متجددة من الأقلام الشابة الواعدة في دنيا الأدب لاسيما في القصة القصيرة التي أفل نجمها خلال السنوات الأخيرة لحساب جنس الرواية، خمسة وعشرين قصة توزعت على نحو 209 صفحة من القطع المتوسط تنهض على تناول ثيمة مشتركة تُفجّرها الحرب فتقلِّبها على كل جوانبها وتخوض في أبعادها المتباينة مسلطةً الضوء على آثارها الجانبية وانعكاسات خيباتها على جبين أيام الوطن ما قبلها وأثناءها وما بعدها.
محراب السؤال
كتّاب وكاتبات في مقتبل الربيع تستشعر بأنهم كتبوا ما كتبوه تحت دوّي الانفجارات وبدم الضحايا اللذين قضوا بعضهم تخلّى عن كل شيء، وامتشق سلاح الكلاشنكوف وبعضهم فرّ بعيدا باحثا عن ملاذ آمن يقيه لظى المحنة، تصوّروا حين يطالع القارئ كتابا قصصيا أحالته مفردات اللغة المتشابكة إلى ساحة وغى ليس للحرب فقط إنما للحب أيضا إذ تطرح هذه القصص مفاهيم وجودية واجتماعية للتساؤل والنقاش فأميرة الكلباش لا تتوانى عن طرق باب السؤال على لسان البطلة في مستهل قصتها الموسومة(رجولة مزعومة) متى ستنتهي هذه الحرب ؟! ترمي بسؤالها جنبا إلى جنب مع حمم الرصاص المتساقط على البشر والحجر !!، وفي المقابل تؤكد قصة (نبوءة أم) للكاتبة “أميمة الكمشوشي” أن الحرب تفقد وجهها الأنثوي نلج مع قصة أميمة لمناطق دافئة يسكنها الحنين وتكسوها المعاني الحميمة من خلال مقاربة متناقضة تجمع موت الأب والزوج وميلاد الوليد صورة شديدة الحساسية يُجسّدها البناء الفني لقصة (نبوءة أم)تنساب القصص التالية متدفقة كنهر أعياه مصيره الحتمي بيد أنه مُرغم على المضي قدما مهما كانت التكاليف والأثمان.
ذاكرة الأمكنة
النجاة بالفنون أمر ممكن بيد أنه يحتاج إلى هامش تجريب يُحرر الرؤية من ثقب الإبرة فمجموعة (ترميم) القصصية جاءت كي تنبش في ذاكرة الأمكنة التي صيَّرتها الحرب محض أطلال تُثير دموع العابرين فقد أثبتت كل قصة صورة مزدوجة لوجه قاسٍ يبيع ثياب طفولته، ووجه ينضح بأمل متجدد ينمو ويتشعّب متوازيا مع عيون الثكالى المُجهشة بالبكاء بينما أثر الصدى باقٍ بعد أن جفّت الدماء وصارت ملمحا يقض المضاجع كلما اشرأبت الأعناق فأسوأ ما فينا بُحَّت به الحناجر المرتعشة، وأجمل ما فينا صقلته تجربة الفقد المتراكض مع إيقاع الأيام. فيما يظهر للقارئ أن ترميم لم تكن مجرد مصادفة قصصية للبوح على أرصفة النحيب بقدر ما هو إعلان عن ميلاد آخر لأفق وطن لازال يُدغدغ خطوات أبنائه.
تعليق واحد
[…] قصص لترميم ما يُمكن إنقاذه […]