سرد

شظايا الروح المبعثرة

من أعمال التشكيلي الليبي محمد نجيب
من أعمال التشكيلي الليبي محمد نجيب

عليّ أن أقف الآن مع نفسي، فأنا لا أدري إن كنت على حافة الجنون أم أنني قد اجتزتها دون أن أشعر. الخروج بات كأنه مواجهة مع عالمٍ مسكون بالأشباح، عالم يحدّق فيّ بعينٍ باردةٍ، متربصة. تلك التجربة التي انتهت بالفشل… كم أرهقتني. كنت كمن يحاول الكتابة على صفحة ماء. كررت المحاولة، ودفعت نفسي كالغريق الذي يعاند الموج، لكني كل مرة كنت أعود محملًا بخيبةٍ أثقل من التي سبقتها. لماذا؟ سؤال يتردد في رأسي كصدى صوتٍ في ممرٍ بلا نهاية.

راودتني فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي. ربما سأقف أمامه ككتابٍ ممزق الصفحات، أضع كلماتي المبعثرة بين يديه وأقول: “رتبها إن استطعت.” يقولون إن معرفة المشكلة نصف الحل، ولكن كيف إذا كانت مشكلتي هي أنني لا أعرف إن كنت مجنونًا أم لا؟ يا تُرى… هل يدرك المجنون أنه مجنون؟ السؤال نفسه يبدو كفخٍ، كمتاهةٍ لا مخرج منها.

ثم يأتي صوت داخلي، هامسًا: “وماذا إن سخر منك الطبيب؟” أجد نفسي أرد: “فليضحك. السخرية لا تؤذي بقدر هذا السجن الذي أعيش فيه، هذا الفراغ الذي يبتلعني قطعةً قطعة.”

لماذا لا أتصل بأحد أصدقائي القدامى؟ ربما يستطيع أحدهم أن يخرجني من هذا الحصار. رفعت الهاتف بيدٍ مرتجفة واتصلت بصالحين… الهاتف رنّ طويلًا، لكن لا إجابة. حاولت مرة أخرى، وثالثة، لكن الصمت كان هو الرد الوحيد. اتصلت بعصام، لكنه أيضًا لم يجب. شعرت بثقل أصواتهم الغائبة وكأنها تخبرني: “لقد تجاوزت الحد، لا نريد منك شيئًا.”

كيف أعرف؟ كيف أتأكد إن كنت مجنونًا أم لا؟ الأفكار تدور في رأسي كدوامةٍ لا ترحم. لا خيار أمامي سوى الطبيب. سأقول له كل شيء: إنني أكره الخروج، وإن الكلمات تعجز عن الخروج من فمي حين أواجه البشر. سأخبره عن الكوابيس التي تطاردني، وعن نفسي التي تقنعني أنني أعظم البشر، ثم تهوي بي إلى قاعٍ مظلم. سأحدثه عن غضبي الذي يشتعل كعود ثقاب، عن سرحاني الذي لا ينتهي، عن حبي للظلام، وعن ذاكرتي التي تذوب كالجليد تحت شمس حارقة.

كتبت كل هذا في رسالة، أرسلتها للطبيب عبر هاتفي، وأغلقت الهاتف بسرعة. جلست في ركن الغرفة المظلم، أستمع لأنفاسي اللاهثة، أشعر بالعرق يتصبب من جبهتي. ثم، فجأة، اجتاحني إدراكٌ قاسٍ كصفعة: “أنا لا أملك هاتفًا من الأساس.”

أحقًا أرسلت الرسالة؟ أم أنني صنعت حكايةً جديدةً من جنوني؟ كل شيء حولي بات غريبًا، حتى أنا نفسي. أشعر كأنني أعيش في دائرةٍ بلا مخرج، كأن الجنون قد أصبح مرآتي الوحيدة، ولا أدري إن كانت تعكس حقيقتي أم تبتكرها.

مقالات ذات علاقة

رواية ديجالون – الحلقة 11

المختار الجدال

الكرنفال

محمد الأصفر

فصل من “الرسام الانكليزي”

رزان نعيم المغربي

اترك تعليق