“حين أتأمل تجربتي الفنية منذ تسعينات القرن الماضي يتملكني هاجس الكتابة عنها وعن أهم المراحل التي مرت بها، وكيف تباينت الأساليب ووصلت حد السعي نحو ترميم ذاكرة الوطن عبر الألوان، لعل هذه الكتابة تكون أرشيفا وتوثيقا لمسيرة فنان ليبي التزم بمحليته رغم انفتاحه على مدارس عربية وغربية”.
أود أن أكتب نصا تشكيليا يلامس حدود الرسم في شكله قبل معناه، سرد من قصاصات ملونة بتقنية الكولاج عبر مراحل متعددة تباينت في ألوانها ونتائجها بمرور الوقت، منها ما ازداد نضارة وتألقا وبعضها الأخرى تآكل واهترأ كأنه كلام عن تجربة شخصية مع علاقاتها الإنسانية، تبدأ من الخطوات المبكرة في الرسم عندي، محاولة لصناعة بورتريه من ثنايا الذاكرة عبر مراحل التكوين الأولى وخصوصا الأعمال الزيتية في تسعينات القرن الماضي، والتي تتكئ على العديد من الأساليب التي تأثرت بها من فنانين رواد كنت أحتفي بتجاربهم الحقيقية من عالميين وعرب وليبيين، ساعدتني تلك الأساليب في التعبير عن قصص كانت دون ملامح واضحة تعتمل في داخلي، فقررت أن يكون الرسم طريقها الأمثل.
كانت سنوات البدايات كثيرة المنعطفات والمنحدرات بمحطاتها التي تخللتها معارض ولقاءات مع شخصيات مؤثرة على الصعيد التشكيلي البعض منهم كان لا يبعد عني سوى بضعة مئات الأمتار والبعض الآخر كانت تفصلني عنهم آلاف الأميال.
أختزل هذا العالم الفسيح بأسره في مساحة صغيرة كحجرة القلب بمحبة الرسم وألوانه واعتماده كنمط وأسلوب حياة في ميثاق غير معلن بكل شروطه ومواصفاته، عابر لكل الحدود والحواجز، متجدد الصلاحية ولا يسقط بالتقادم، مراحل من عمر التشكيل بكل نجاحاتها وإخفاقها، أفراحها وانكساراتها، هي سنوات الاطلاع والتعطش للمعرفة وخصوصا التشكيلية منها عبر القنوات المتاحة والتي كانت في أغلبها مجلات وصحف عربية ومحلية والعديد من الروايات التي كانت تسرد صورا شخصية للفنان التشكيلي وجوانب من حياته كرواية “النفق” لأرنستو ساباتو و”السأم” لألبرتو مورافيا.
الكتب الفنية الخاصة بتجارب التشكيليين الرواد من عصر النهضة وما تبعه من تجارب أنتجتها التحولات الكبيرة في النظرة الفنية منذ بدأ الارتقاء بفن الرسم كأحد المنجزات الإبداعية الإنسانية التي تدعمها الفلسفة والفكر الحر والعلم بالفعل الخلاق، من هذه الكتب كتابات جبرا إبراهيم جبرا والسرد التاريخي للفن التشكيلي عبر كتب عفيف بهنسي، والمقالات المضيئة للناقد الفنان المصري محمود بقشيشي ود. ثروت عكاشة وخرائط المعرفة الفكرية لكتابات محمود أمهز التي لخصت ما كان يطرح في القرن العشرين، وعلى آخر ما تم إنتاجه منذ الفن الحديث إلى الحداثة وما بعدها في سبعينات القرن الماضي عبر فلسفات ونظريات تشكيلية بأساليب ومدارس متنوعة، وعلى صور من حياة بعض الفنانين ونماذج من أعمالهم والكثير من رؤاهم وأفكارهم الإبداعية في الفن والحياة عبر كتابه البديع “التيارات الفنية المعاصرة”. إلى جانب الكتابات النقدية العميقة التي لامست روحي في منتصف التسعينات من القرن الماضي للناقد والفنان والمثقف العضوي المؤثر في محيطه المصري والعربي عزالدين نجيب، والفنان الليبي عمر جهان عبر عتباته التشكيلية في كل معارضه التي أنجزها في القاهرة عبر مشواره الطويل في الفن والسياسة، في نصوص تشكيلية جسدها الفنان في ثنائية الرسم والكتابة بمجموعة معارض بأتيليه القاهرة مرورا ببورتريه الحجرة إلى كهفيات الحبر والشمع.
والاكتشاف المبكر المصحوب بالدهشة على تجارب الفنان الليبي علي العباني الرائدة وذات القيم التشكيلية الرفيعة منذ انتباهه المبكر للعبور إلى فن الرسم عبر الذاكرة الشعبية وطبيعة الوطن في مناطق حدود صباه حيث الحياة البكر الصافية والطرح الطازج عنده والمتنوع بين الأصالة والمعاصرة بفعل دراسته للفن في إيطاليا مع موهبة لا تستكن إلى الوهن التشكيلي رغم كل هذه السنين من التوهج والإبداع.
وأذكر “رسم طفولة اللعب” تلك المقالة عن تجربتي التشكيلية المبكرة المؤثرة جدا في اقترابي من الكتابة والتي نشرت على صفحات مجلة الشروق الإماراتية في تسعينات القرن الماضي للكاتب الصحفي كرم نعمة.
وكانت أول لوحة زيتية التقيتها على حافة تجربة رائدة بنضوج الرؤية التشكيلية المعاصرة واكتمال حدودها القصوى في وقت مبكر من التجريب والبحث، تجربة معتادة على الغرابة التشكيلية ولا تجنح إلى السكون إلا نادرا هي تجربة الفنان مصباح الكبير. وحوارات عالية من التشكيل والنقد مع الفنان محمد بن لامين وتجاربه المبكرة في المحو والإثبات وخصوبة الرؤية عنده مع شاعرية اللغة البصرية بحمولاتها الرمزية، وتخطيطات شاعرية المكان والجسد واقتباسات من قراءات على هوامش الكتب، وخلاصة قراءات متأنية للذات والآخر من تجربة الفنان عادل الفورتية.
تلك الأيام التي كانت مليئة بالمنافسة والخالية من الوعكات التشكيلية، كان لزامًا عليّ للأمانة التاريخية أن أسرد الكثير من التفاصيل المهمة التي ساهمت في تكوين حالة فنية ومناخ ثقافي وساهمت بدفع تجربتي الشخصية خصوصا في الرسم إلى محطات متقدمة، وبالكثير من الاجتهاد الشخصي وإصرار على البقاء بمدينة الفن في داخل حدود أسوارها بل دهاليز أزقتها وطرقاتها التي لا تنتهي باتجاه المركز وتحاشي المكوث على الهامش أو التسجيل في قائمة العابرين على عجل دون أسماء أو هويات.
من أهمية هذا السرد أنه وثيقة تاريخية لمرحلة من تاريخ حركة ثقافية بامتياز قبل أن تكون تشكيلية. قد تشكلت في فترات الخواء الثقافي بالمدينة وتحت ظلال أعتى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، مع هذا كانت لها ملامحها الخاصة ومساهماتها الفاعلة حسب المتاح من هامش التعبير عن طريق المعارض الجماعية والكتابة في الصحف المحلية خصوصا صحيفة “الجماهير” بمصراتة والتي ساهمت في تعويض بعض النقص وإضفاء حراك ثقافي على حدود المدينة، تلك السنوات التي انكفأت فيها الحياة وأصبح العيش في الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية برغبة من العقيد كنوع من أسلوب للسيطرة.
سأتجه إلى السرد عبر تقنية الكولاج التي هي في أساسها فن بصري أي أنها تقنية اكتشفت في الرسم قبل أن تنتقل إلى الكتابة والتي عبر بها العديد من الكتاب عن آرائهم وأفكارهم في روايات خصوصا التي تطرح التعدد في المناطق التي يريد الكاتب أن يطأها بأفكاره ونصوصه الإبداعية وإثراء المشهد عنده، كما حدث وأن كانت في الفن التشكيلي حيث ظهرت في مرحلة كانت خانقة للمدارس التشكيلية التي تعددت وأصبحت من الحلول التشكيلية في الربع الأول من القرن العشرين في مراحل بيكاسو وبراك وتجاربهما في الرسم ما بعد التكعيبية.
أحلام ما بعد الحرب:
وتنوعت تجاربي الفنية منذ تسعينات القرن الماضي وتعددت، في البدايات تمهلت ورسمت لوحة بورتريه ابن رامبرانت، في حينها شعرت أني امتلكت العالم بنوره، وعلى مر السنين توالت تجارب متنوعة أخرى تصدح بأنفاس الانطباعيين خارج جدران مراسمهم إلى غمغمات أصحاب مدرسة نيويورك فوق أسطح لوحاتهم وعنفوان آدائهم الفني، بفشل البعض من هذه التجارب ونجاح البعض الآخر والأهم من هذا كله أنها موجودة في مرسمي وجديرة بالوجود رغم مرور أكثر من 25 سنة على رسمها.
واليوم تجربة أخرى بدأت تتشكل ملامحها منذ أكثر من 5 سنوات، هي رؤوس وحروف أجساد مبتورة وأحلام تحولت إلى كوابيس رسمت بالأبيض والأسود والقليل من الأحمر وبعض ألوان الفرح المؤجل عما صدم الأوطان وذبح الآمال وحطم الأحلام وقتلها، رسم بمثابة إعلان عن انتكاسة البشر الطامحين إلى الارتفاع فكان السقوط المدوي موازيا لتلك الآمال العالية في أحلامهم بوطن ينعم بالحرية وبعض الحقوق والمساواة.
مدونات الجدران من حرف ورسم، من وشم وأثر، كلام بالمعلن للمطالبين بالحقوق وهمسات للمحبين، غمغمة اللون وحنو الخطوط باستقامتها وانكساراتها على أشكالها المرسومة، ظلال وخدوش، رائحة الطلاء! في الأمكنة الخاوية ولهفة الحنين إلى كل الأشياء الضائعة، وجوه الأبطال وقصصهم الشخصية بكل انكساراتها، مراكب خارج الخدمة، انطباعاتنا على الموجودات، كل هذه الأشياء صنعت مفردات أخرى عما أنتجته في السابق، بعيدة عن زمن الثيران وبعيدة عن المؤثرات المباشرة من التقاط المعارض وكتالوغات المشاهير، في حقيقتها هي “خبرة وتفاعل” ثم احتراق طموحات أغلبها كانت رغبة في الارتفاع نتج عنها سقوط للأوطان في زمن النظام العالمي الجديد الذي بشر العالم بالانكسارات والأحلام الموؤودة.
ترميم الذاكرة:
مدن الذاكرة المرسومة بواجهات مضاءة ناصعة، تتنوع مفرداتها بتفكير هندسي للفرشاة والأقلام تارة وفي أحيان أخرى بتعبيرية والكثير من التلقائية لفتح المجال أمام الدهشة والمفاجآت غير المتوقعة في مشاركة تكوين العمل الفني المرسوم وبنائه من مناطق المتبقي في مخيلة وذائقة الرسم غير الخاضعة للحدود والتعليمات الأكاديمية المنضبطة، بل هو وثبة في عالم مجهول يجوبه الكثير من الفنانين التلقائيين الذين ركنوا إلى فن الرسم بدون المرور بالمؤسسة الأكاديمية بل كان الشغف الملازم منذ البدء.
وإلى جانب الدراسة الأكاديمية في تخصص الهندسة الصناعية، أصبح المجال أكثر قربا من الأساسيات الأولى في مبادئ الرسم الهندسي والصناعي وقوانين المنظور وشروطه مع الاحتفاظ بالذاكرة الناصعة وغير المخدوشة بتعليمات الغير، بل هي عملية خضوع للقوانين الداخلية الخاصة والتي تراكمت بفعل الخبرة والاطلاع على ما تم إنتاجه عبر قرون من عمر تاريخ الرسم والعمل المتواصل الذي لا ينقطع في مجال الرسم والكتابة النقدية.
جاءت هذه التجربة بالحبر على ورق والكثير من الأقلام، صورت أبوابا موصدة، أقفالا وعلامات مهترئة في طريقها إلى الزوال، شبابيك مرتفعة وحيطانا عالية تعلوها نخلات سامقات، ولون الجير يكسو البيوت وحواف الطرقات كأنه رداء فضفاض رخو ناصع البياض انسدل على أطرافها.
رسمت نساء بالفراشية في طرقات تملؤها حكايات زمن مضى وآمال زمن قادم، ورجالا في رحلة السوق اليومية، وحروفا وغمغمة بالكتابة الليبية القديمة، وبقع الحبر المنتشر من فعل البلل والرطوبة وتحلل الأيام والسنين، وتآكل الكلام والوعود، والصدق والكذب، والخير والشر، والسلم والحرب، والنضارة والشحوب، ومآذن وقباب، والنور إلى جانب العتمة، والأبيض والأسود على الورق.
كل هذا وأكثر في وضح النهار حيث كل الألوان عارية عن خداع عتمة الليل وسواده، دفعني إلى الرسم بأبسط ما يمكن من أدوات وبعيدا عن غواية الألوان وجوقة أطيافها كتخطيط مبدئي لترميم الذاكرة واستعادة صور حياة قرى ومدن ليبية متشابهة في أنفاسها متحدة في روحها تكاد ﻻ تختلف في طابعها الإنشائي إلا في ظروف بيئتها، فالساحلية لها ملامحها والصحراوية عندها خصوصيتها وتأنقها.
صحيفة العرب | السنة: 47، العدد: 13364، الجمعة 2025/01/10.