السبت, 29 مارس 2025
قراءات

أُمُّ الدَّالِيَا.. أَمُّ الدُّنِيَا

قراءة الكاتب جمعة الفاخري في كتاب (حكايات ام الداليا) للكاتب الناجي الحربي
قراءة الكاتب جمعة الفاخري في كتاب (حكايات ام الداليا) للكاتب الناجي الحربي

حُقَّ لِلمُدُنِ أن تَتَغَلَّى على أَهْلِهَا، أن يَطْغَى حُبُّهَا على أَيِّ حُبٍّ، وأن يَطْفُوَ على سُطُوحِ القُلُوبِ والأَرْوَاحِ، أن تُتْرَعَ بِهِ الجوانحُ، وَتُملَأُ بِهِ الوجدَانَاتُ، وتذرفُ بِهِ القَصَائِدُ، وَتَهْمِي بِهِ الأَحَاسِيسُ وَالْمَشَاعِرُ، وتهذي بِهِ الكلمَاتُ العاشِقَاتُ حَدَّ الوَلَهِ، أن تَكْتَظَّ بِهِ الأعمَاقُ حَدَّ الإِغْرَاقِ والاسْتِغَرَاقِ، وأن نُصْرِفَ فيهِ حَدَّ الإِغْدَاقِ، فالبَائسونَ هم من يَفْتَقِرُونَ لمحبَّةٍ عَمِيقَةٍ صَادِقَةٍ تربطُهُمْ بِالأَمْكِنَةِ الظَّلِيلَةِ الأَثِيرَةِ الِّتي تُؤيهِم وَتَحْوِيهِم وَتُجْزِيهِم وَتُبْقِيهِم. وَالمعُوزُونَ هم من يكتُمُونَ حَبَّهُمْ لأوطَانِهم، من يَئِدُونَ محَبَّتَهُمْ لأماكنِهِمُ المعشوقةِ، وَيُخَبِّئُونَ حُبَّهَم لِمَسَاقِطِ قُلُوبِهِم وَرُؤُوسِهِم، لمَنَابِتِ أَحلامِهِم، ومَرَابِعِ طفولَتِهِم، وَمَرَاتِعِ صِبَاهِم وشبَابِهِم، وَدُرُوبِ حَيَاتِهمُ الأُخْرَى، الَّذِينَ لا يُبْدُونَ عِشْقَهُم لمدنِهِم الحَانيَةِ خشيَةَ إِمْلاقِ، إِمْلَاقِ الحُبِّ لا غيرُ فَهُمُ الفُقَرَاءُ حَقًّا.

فَلَا يَنبَغِي لَنَا أن نُعرِضَ عنِ الافتتانِ بالمدُنِ الِّتِي تَعْرِضُ حُبَّهَا عَلَيْنَا كُلَّ حينٍ، وَتُعْلِنُ جَاهِزِيَّتَهَا المثلَى والدَّائمَةَ لِلْحُبِّ بِلِسَانٍ مُبِينٍ: (هَيْتَ لَكُمْ)، غَيْرَ أَنَّ قُلُوبَنَا الغَافِلَةَ، الغَارِقَةَ في أَلْفِ هَمٍّ، المَهْمُومَةَ بِأَلْفِ أَمْرٍ، المنْشَغِلَةَ بِأَلْفِ شَأنٍ، لا تَلْتَفِتُ إِليهَا، وَتَلْوِي عَلَى عِشْقِهَا.

الأَمْكِنَةُ الَّتِي تَتَغَلَّى عَلَى أَهلِهَا، وَتَسْتَولِي عَلَى المُحَبَّةِ كُلِّهَا، وَعَلَى العِشْقِ كُلِّهِ، وَتَحْلَولِي حَتَّى تُصْبِحَ الحُبَّ كُلَّهُ والأُمنيَاتِ جَميعَهَا، حتَّى تغدوَ التَّفَاصِيلَ الحَمِيمَةَ، واللَّحَظَاتِ الجميلَةَ الفَارِقَةَ، والذِّكريَاتِ المونقةَ التي لا تذبلُ ولا تهزلُ ولا تموتُ.

وَمَا الدَّالِيَةُ لِتَكُونَ أُمًّا لَهَا، وَلَهُم؟ إِنَّهَا دَالِيَةُ القُلُوبِ، دَالِيَةٌ لا تُوَفِّرُ ظِلًّا وَعِنَبًا فَحَسْبُ، إنها تَهَبُ حُبًّا وَحَبًّا وَعِنَبًا، ظِلًّا وَدِفْئًا، وَغِذَاءً وَرَحِيقًا، وَسُموًّا وعلوًّا، وَتُهَيِّئُ لأهلِهَا مُتَّكَآتٍ وثيرَةً في قلبِهَا، إنَّها (مَسَّةَ) التي يَرَاهَا أَهْلُهَا، عُشَّاقُهَا المزمِنونَ أَنَّهَا (مَاسَةٌ) نفيسَةُ الحُبِّ، بَاهِظَةُ العِشْقِ، ثمينَةُ المعنى والمبنى، لذا نمَا في قلوبِهِم حُبٌّ ماسيٌّ لها، فجعلوها أُمًّا لهم، وَلِلدَّالِيَا لكثرةِ عرائشِ العِنَبِ فيها، لكنَّ حُبَّهَا المونقَ يُعَرِّشُ أَوَّلًا في القُلُوبِ التي تَعَلَّقتْ بها، وعرَّشَ حُبُّهَا فيها أخضرَ مونقًا دائمَ الإزهارِ والاخضرارِ والإبهارِ. إنهم يرونَ أُمَّ الدَّالِيَا، أَمَّ الدُّنِيَا، ومن حَقِّهِم وَحَقِّهَا هذهِ الأمومَةُ الباذخَةُ الحَقَّةُ الممكنَةُ والمشروعةُ، الفائضَةُ بالحُبِّ والعشقِ،  منذُ أَنْ مَسَّهُمُ العِشْقُ، الذي لا بُرْأَ مِنْهُ، ولا فِكَاكَ من آسَارِهِ، أَعْنِي منذُ أن مَسَّهُم حُبُّ مَسَّةَ فَأَمْسُوا في مَحَارِيبِ هَوَاهَا عُشَّاقًا مُزمِنِينَ.. مُؤَبَّدِينَ..!

د. النَّاجِي الحربي المُمْتَلِئُ حُبًّا بالمكانِ والزَّمَانِ، المأْخُوذُ بِنَقَاءِ الإنسَانِ، بِنَقَائِهِ الَّذِي كانَ، المُفْتَتَنُ بِتَوَاشُجِ الإِنسَانِ والمكانِ والزَّمَانِ، هذا الانْدِغَامُ الحَمِيمُ الَّذِي يَقتَرِحُ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ المدهِشَةَ، هَذِهَ الحيَاةَ الضَّاجَّةَ بِالأَحدَاثِ المثيرَةِ التي قد تَبْدُو لِلآخَرِينَ عَادِيَّةً جِدًّا، أمَّا للحربي، ولأهلِ مَسَّةَ فَلَا؛ فَهْيَ محطَّاتٌ أَثِيرَةٌ من حَيَاتِهِم، يَسْتَعِيدُونَ باستعادَتِهَا جزءًا من حَيَاتِهم وَكِفَاحِهِم، وشطرًا من تاريخِهِم.

الحربي يؤرِّخُ – بِحُبٍّ كبيرٍ- للمكانِ والإنسانِ والزَّمَانِ، يكتبُ سَيَرةَ قريتِهِ، يُدَوِّنُ تاريخَهَا، يرصُدُهُ، يترصَّدُ حَيَاتَهَا، وَحَرَكَاتِ الأفرادِ والجَمَاعَةِ فيهَا، يحتفي بِالإنسَانِ والزَّمَانِ والمكانَ، ويتمسَّحُ بقلَبِهِ بالجدرَانِ، بالعُمْرَانِ الَّذِي يُبْدِعُهُ الإِنسَانُ الَّذِي يَصْنَعُ المكَانَ وَتَارِيخَهُ وَجُغْرَافِيَّتَهُ، وَيَرُشُّ عليهِ من عبيرِ الوجودِ، من عطرِ الحيَاةِ؛ فلولا الإنسانُ لم تكنِ الحيَاةُ بكِلِّ مَبَاهِجِهَا وَبَهَارِجِهَا وَنَمَاذِجِهَا وَمَدَارِجِهَا وَمَعَارِجِهَا، ومن خِلالِ حَكَايَاهُ الشَّائقَةِ الرَّائقَةِ يَغُوصُ في أَعْمَاقِ تَفَاصِيلِ أُمِّ الدَّاليَةِ، يَجُوسُ في حَنَايَا الأَمْكِنَةِ، وفي ثَنَايَا الأَزْمِنَةِ، يُفَتِّشُ في جُيُوبِ اللَّحَظَاتِ عَنِ التَّفَاصيلِ الحميمَةِ الآسِرةِ، يَسْتَقْرِئُ حَرَكَاتِ وَسَكَنَاتِ أَهْلِهِ الماسيِّينَ، يَرْسُمُ لنَا ملامِحَ (مَسَّةَ) الِّتي كانت، والَّتي تكونُ، والَّتي ستكونُ.. خَائِضًا في تاريخِهَا الاجتماعِيِّ الزَّاخِرِ بالعَطَاءِ بتنويعَاتِهِ وتمثُّلَاتِهِ، رَاصِدًا حركةَ الحيَاةِ وَكِفَاحَ النَّاسِ من أَجْلِ البَقَاءِ، وَركضَهم وَرَاءَ لُقْمَةِ العَيْشِ، مُبْرِزًا القِيمَ والأَخْلَاقَ الَّتِي كَانَتْ تَسِمُ تِلْكِمُ الحُقبَةَ المضيئَةَ من تَاريخِ أَهْلِنَا، حيثُ ظَلّت القُرى والأريافَ مَوْئِلَ البَسَاطَةِ والعفويَّةِ والمرُوءَاتِ والحِشْمَةِ والإِيثَارِ والاحترامِ والشَّجَاعَةِ والصَّبرِ والقَنَاعَةِ والكِفَاحِ وأشياءَ أخرى لا حصرَ لَها.

الحربي يقفُ على تُخُومِ المكَانِ وَالزَّمَانِ يَسْرُدُ مآثرَ النَّاسِ، يستعرضُ حياتَهم وأخلاقَهُم وَعَادِاتِهِم وتقاليدَهُم ودِرْبَتَهُم وأَعْرَافَهُم، مُتَّخِذًا من (سَدَّينَا) أَيقونِتِهَا العفويَّةِ الصَّادِقَةِ شَخْصِيَّةً مِحْوَرِيَّةً تُصَادِفُنَا في أَغلَبِ صَفَحَاتِ هذا الكِتَابِ، يجعلُهَا الذَّاكِرَةَ الأَمِينَةَ التي تمطرُ بِكُلِّ تَفَاصِيلِ القَريَةِ، وَتُخْبِرُ بِكُلِّ شَيءٍ؛ الحِكَمِ وَالنَّصَائحِ وَالأَمْثَالِ والتَّعَابِيرِ وَالغَنَاوي والشَّتَاويِ، وَالعَادَاتِ والتَّقاليدِ وَالحَكَايَا وَالخَرَارِيفِ العتيقةِ.

لا ينسى الحربي أن يَغُشَّنَا غِشًّا حَميمًا بأن يَدُسَّ لنا بينَ ثَنَايَا حِكَايَاتِهِ بعضَ الأَمْثَالِ الشَّعبيَّةِ الرَّائقَةِ، الرَّائِجَةِ، الموَجِّهَةِ، وبعضَ الأشعَارِ وغناوي العَلَمِ، وبعضَ الأَقوَالِ الدَّارِجَةِ الذَّاهِبَةِ مَجْرَى المثَلِ. ذَلِكَ كَانَ لِازمًا وَضَرُوريًّا لِتَكْتَمِلَ فِتنَةُ السَّرْدِ، ورُوَاءُ التَّفَاصِيلِ، وَنُضْجُ الحَكَايَا الدَّافئَةِ، وَرَوعَةُ الأَحْدَاثِ، لتكونَ مِلْحًا عَلَى مَائدَةِ تذكُّرَاتِهِ البَاذِخَةِ، وحَكَايَاهُ الأَثيَرَةِ المثيرَةِ، إِنَّهُ لا يُذَكِّرُنَا بِهَا فَحَسْبُ؛ بل إِنَّهُ يُعْلِمُنَا أَنَّهَا لا تَبِيدُ ولا تُسْتَقْدَمُ، وَأَنَّ كَثِيرًا منَها أَعْرَافٌ غَدَتْ مَنْهَجَ حَيَاةٍ لا يَبْلَى، لا سِيَّمَا تِلْكُمُ الَّتي يُمْلِيهَا عَلَى لِسَانِ بَطَلَةِ حَكَايَاهُ الحَكِيمَةِ العَاقِلَةِ النَّاصِحَةِ (سَدَّينَا)، عَينِ القَرْيَةِ وَلِسَانِها وَقَلْبِهَا وَذَاكِرَاتِها النَّاضِحَةِ بِالحَكَايَا الدَّفِيئَاتِ.

ثمُّ يضمُ إليهِ بَعْضًا من أَعْلَامِهَا، مَشَاهِيرِهَا، شُيُوخِهَا وَعُقَلَائِهَا وحُكَمَائِهَا، وَحَتَّى دَرَاويشِهَا وَصَعَالِيكِهَا، وَالوَافِدِينَ إِليهَا من كُلِّ أَقْطَارِ الأَرْضِ.

كما يَسْرُدُ في كَثِيرٍ من مَوضُوعَاتِ الكِتَابِ تَجَارِبَ شخصيَّةً لَهُ لا تَخْلُو مِنْ طَرَافَةٍ وَتَشْوِيقٍ، يَقُصُّهَا عَلَيْنَا بِأُسْلُوبٍ سَاخِرٍ – في بعضِ الأَحيَانِ – جَرْيًا بِنَا نحوَ فِخَاخِ التَّتَبُّعِ، وَلِذَاذَاتِ القِرَاءَةِ العَذْبَةِ حَدَّ الارْتِوَاءِ.

(حِكَايَاتُ أُمِّ الدَّالِيَا) تُعَدُّ أَدَبًا تَسْجِيلِيًّا احْتِفَائِيًّا ضَرُورِيًّا لاستقرَاءِ تاريخِ قريَةٍ حَبِيبَةٍ عَلَى أَهْلِهَا وَعَلَيْنَا، وَهِيَ أنموذجٌ مُصَغَّرٌ لِقُرًى وَمُدُنٍ أُخْرَى تَتَقَاسَمُ مَعَهَا التَّفَاصِيلَ نَفسَهَا، والأَحْوَالَ وَالأَجْوَاءَ ذَاتَهَا، وَلِتَتَبُّعِ نُشُؤِهَا وَارْتِقَائِهَا، والتَّذكِيرِ بِمَنْ مَرُّوا بِهَا، أَوْ مَرُّوا مِنْهَا، والوُقُوفِ على تَفَاصَيلِ حَيَاتِهَا وَسِيَرِ أَهْلِهَا الحَمِيمَةِ.

(حِكَايَاتُ أُمِّ الدَّالِيَا) جَدِيرٌ بِالقَرَاءَةِ، قَمِينٌ بِالاحْتِفَاءِ، حَقِيقٌ بِالوَقْتِ الَّذِي سَنَهِبُهُ لَهُ كُرْمَى لِعَيْنَي أُمِّ الدَّالِيَا وَأَهْلِهَا الرَّائِعِينَ.

مقالات ذات علاقة

إنّي أُصغي لندائك

مهند سليمان

تحت مجهر الفنادي

رامز رمضان النويصري

الأدب وثورة فبراير.. ما بين الاستعجال وتوثيق الحدث

المشرف العام

اترك تعليق