مجد العماري
في البدء كان الهروب وعدًا.
حمل سامر صندوق ذكرياته المثقوب، وسار نحو حافة العالم، حيث تنتهي الأرض إلى بحرٍ يبلع الأسماء. لكن الريح، بخبث شفاهٍ تعرف سر المساءات البائسة، همست له: “أنت تحمل وطنك في جفنيك”. فأغلق عينيه، ورأى ظلها يمشي قدامه، كأنما الأرض تنثني تحت قدميها دونه.
كانت تشبه وهْمًا تخطو على حافة الكلام. ليلى: اسمٌ ينزف ملحًا على لسانه كلما جرب نطقه. في المدينة الجديدة، حيث تتشظى الوجوه إلى ألواحٍ مجهولةٍ، بدا له أن الزمن قد انكسر. ساعات الليل كانت تتسلل إلى غرفته، تراوغ نومه، تلقى بصوتها في أذنه: “هل تذكر كيف كنا نختلق الخطوات؟”. فيستيقظ على صوت نفسه يرد: “كنت أختلقك”.
في اليوم السابع، وجد نفسه واقفًا على شاطئٍ يشبه حلمًا ناقصًا. البحر هناك لم يكن بحرًا، بل مرآةً معتمةً ترفض إلقاء انعكاسه. حين غاص في أمواجها، اكتشف أن النسيان ماءٌ سامٌ. كل حركةٍ كانت تجره إلى قاعٍ تشعل فيه ليلى سرجها. “متى ستفارقيني؟” صرخ. فأجابته الأمواج: “أنت من صنعتني من رماد صمتك”.
عندما عاد إلى المدينة في ليلة عيدٍ، كانت الأضواء تلعق جراح السماء. احتضن الوحدة كراقصٍ في مهد كذبٍ، وتظاهر أن ضحكته قادرةٌ على ملء الفراغ الذي تتركه يداه حين تلامس الهواء. لكن الكأس سقطت منه حين رأى عينيها تلمعان بين الحشود. “هي تراقب تذوبك” همست له ذاكرته. فأجابها: “أنا ما كنت إلا ظلًا لذكراها”.
في آخر المشهد، واجه البحر مجددًا. هذه المرة لم يحاول الهروب، لأنه فهم أن كل خطوةٍ هي إما نحوها أو عنها. ألقى برسالةٍ كتبها في طفولته إلى الليل: “لو كنت أعرف أن الحب سرقةٌ، لتعلمت أن أكون لصًا أفضل”.
الريح احتضنت الكلمات، وحولتها إلى نغمٍ ترنم به البحر: “ما أجمل أن تسرقك من تحب… فتصير السرقة وطنًا”.
وصولا للنهاية ..
مشى نحو المدينة، وهو يحمل في جيبه قطعةً من البحر. ليلى كانت تنتظره على عتبة بيته، تحمل قطعةً من ظله. فتح الباب، ودخلا معًا إلى لعبةٍ جديدةٍ:
“هل تسرقينني أم أسرقك؟”.
صمتت الأجوبة، وبقيت الأسئلة ترقصن في فضاء الغرفة.