الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الكبير أحمد الحريري
حاوره | عبدالله مليطان
للفنان أحمد الحريري حضور فاعل ومكثف في الساحة الفنية الليبية، يتميز أسلوبه بالطرافة والتلقائية والبساطة، والعمق أيضا. كتب ما يزيد على خمسمائة أغنية وطنية وعاطفية وغنى له كبار المطربين العرب، كما عالج النص الدرامي وكتب (السيناريو)، وقدم للتلفزيون عشرات النصوص، إلى جانب عدد كبير من المنوعات المرئية، هذا بالإضافة إلى القصة والرواية والشعر والمقالات الصحفية.
ولد الحريري في أبريل عام 1943م، بطرابلس، واشتغل محررا بجريدتي (الحقيقة) و(الرائد) ورأس تحرير مجلة (الإذاعة) الليبية، إلى جانب عمله مراسلا لجريدتي (الرأي العام) و(الكفاح العربي) اللبنانيتين.
صدرت له مجموعة من الكتب موزعة بين الرواية والشعر، من بينها: (لو تعرفي) شعر 1965م، و(وجدت في عيونكم مدينتي) رواية 1972م، و(خمسينية صائد الرياح) شعر 1995م، و(عزف منفرد على مقام العشق) شعر 1998م.
من أهم وأشهر برامجه وأعماله الدرامية التلفزيونية (السوس)، (سماعي شهدان)، (فكر واكسب) (كلمة ونص)، (علم وخبر)، (خاطيني).
(الفنون) التقت الحريري في زحمة إعداده لعمل جديد لنتحدث حول قضايا الفن والإبداع والحياة.
لكل فنان منهجه ورؤيته للحياة والمستقبل … فما رؤيتك؟
أميل في الغالب إلى الواقعية، وإن كنت بطبعي خياليا وحالما إلى حد ما، لأن بداياتي المبكرة كانت شعرية غنائية موغلة في الكلاسيكية، ولأنني ابن صياد سمك فقير، فقد تأثرت بالإنسان كواقع مضمخ بالعرق والدموع وطعم الملح، وأنا مسكون بغضب البحر وسكونه، والحياة بالنسبة لي لوحة واقعية لا تخلو في بعض جوانبها من شطحات الخيال والأحلام، وهما بطبيعة الحال أساسيان لتلطيف حدة حرارة الحياة بهمومها وأحزانها ومسؤولياتها الكبيرة وفي جملة واحدة أقول، مزيج أنا بين الحلم والحقيقة.
تتحدث دائما عن الالتزام، فما مفهومك للالتزام؟ وكيف ترى واقع الفن العربي إزاءه؟
الالتزام أحد أهم قوانين الحياة كما أفهمه، هو الذي ينظمها ويجعلها موغلة في الدقة، هو الذي يحدد مساحة المرء، ويحدد حجم رسالته الحياتية ويرسم أيديولوجيته، أن تكون لك رسالة تؤديها على نحو إيجابي منظم. وفيما يتعلق بالفن العربي الملتزم، أقول إنه بصفة عامة يتعرض لموجات تجعله مهزوزا في الغالب، ولقد أثرت الحضارة الغربية المادية في معظم الفنون الإنسانية بضجيجها وفوضويتها، فطبول (الجاز) و(الروك)، غير الطبول الإفريقية مثلا، وصراخ الوتريات الحاد المسافر بوحشية في لحم الإنسان وعقله غير وداعة (السنتوري) و(البوزوكي) و(العود)، هناك مؤامرة تحيكها حضارة الغرب المادية ضد التراث الإنساني عربيا كان أو غير عربي، هناك ضجيج غير عادي يصم الآذان ويجعلها غير قادرة على التقاط حلاوة مقام (السيكا) مثلا، وعندما يكون الضجيج في أوجه، فإن المرء لا يمكنه أن يستوعب شيئا، ويفسرون الصراخ حاليا بأنه رفض للواقع الإنساني، لكنه صراخ مرسوم بدقة، ويخضع بالكامل لأسعار البورصة العالمية.
تختلف المعالجة الفنية للقضايا بشكل عام من فنان إلى آخر، كيف تعالج الموضوعات بشكل فني؟ ماذا تريد أن تقول؟
أعتقد أنني رسام إلى حد ما، فأنا أرسم ولكن من دون فرشاة وألوان وأدوات رسم، أنا أرسم بمادة الكلمة الخام عند معالجتي لأي قضية، وأراعي في ذلك شروط التناغم والانسجام، وأعتمد كثيرا على المرح لأنني أحب الألوان المرحة كما أحب الحياة ببساطتها، نحن جزء من الطبيعة، والطبيعة جميلة حتى في بعض جوانبها القبيحة.
في النقد نستطيع أن نلمس التطور، فما مفهومك للنقد الفني؟ وهل واكب النقد العملية الإبداعية الفنية في رأيك؟ ما مستوى الفن الذي نشاهده وفق المقاييس التي تطرحها؟
النقد نوع من الجراحة، والجراحة لا يمارسها إلا الجراح بكل المفاهيم والمقاييس والقوانين، والمرء الذي لا يجيد مسك المشرط واستعماله لا يمكنه أن يجري عملية جراحية على الإطلاق، وبالنسبة إلي كإنسان واقعي لا أحب أن أتورط في مشاهدة أشياء بعيدة عني.
تمر الأغنية العربية بتطور من حيث الشكل والموضوع فهل، توافق على ذلك؟ وهل تعتقد أن موجة التطوير في الأغنية العربية يمكن أن تضيف شيئا جديدا؟ على مستوى النص هل تطور النص الغنائي؟ هل نقول إن الأغنية الممزوجة بالألحان الغربية هي شكل من أشكال هذا التطور؟
لا أحب أن يكون تطور الأغنية العربية من خارج بيئتها، أنا أحب البيت العربي الأفقي البناء، بأقواسه ونقوشه وتعويداته وتقاليده الهندسية، وبالتالي فأنا أكره العمارة الغربية، أكره ناطحات السحاب والقلاع الإسمنتية، والموجة التي تمر بالأغنية العربية تأتي بها رياح ((برانية) بلغة الصيادين، ولا يمكنك أن تكون أنيقا بقياسات غير قياساتك، ولا يمكنك أن تتطور من خلال تطور بيئة غير بيئتك.
وبخصوص تطور النص في الأغنية العربية، فهذا يبدو واضحا لأنه يرتبط بتطور الحركة الشعرية والأدبية بصفة عامة، أما الموسيقى العربية حاليا فهي تتعرض لرياح غربية عاتية، ونحن إذا أردنا أو رغبنا في سماع موسيقى غربية فالأجدر بنا أن نسمعها من منابعها الأصلية، من أهلها وليس من الذين تركوا موسيقاهم العربية الجميلة وشرعوا يلهثون وراء السراب، هذا ليس تطورا، إنه تقليد أعمى، وللتقليد مخلوقات خاصة غير الإنسان.
كيف يمكن أن يستفيد الفنان من التراث في مجال الأغنية؟ هل بإمكان المتلقي أن يفهم تراث كل الأقطار العربية إذا ظل كما هو، بإيقاعاته المختلفة أم أنك ترى غير ذلك؟
شجرة اللوز وكل الأشجار المثمرة وغير المثمرة تتجدد كل عام من حيث ثمارها وأوراقها وأغصانها وزهورها، لكن الجذع والجذور واحدة وثابتة، وبقدر رعاية المرء للشجرة بقدر ما تزيد نموا وعطاء وهكذا التراث، وشجرة اللوز واحدة في كل الوطن العربي، ولا اختلاف إلا في نوعية جودة الثمار، والإيقاع في البيئة العربية واحد، ولا يختلف إلا في التركيبات الشكلية.
المنوعات المرئية فن قائم بذاته، هل تعتقد أننا كعرب حققنا الهدف من وراء ذلك؟ هل من ملاحظات على المنوعات التلفزيونية العربية؟
صناعة المنوعات المرئية في العالم اليوم من أخطر الصناعات الفنية، لأنها تقوم على دراسات سيكولوجية وقواعد علمية وبأموال طائلة، وهناك في وطننا العربي تقدم ملموس خاصة في المرئية المصرية، لتوافر الإمكانات أولا، ولأن تجربة السينما الاستعراضية قديمة في مصر.
الاحتراف في الفن، قضية يناقشها البعض، بالنسبة إليك، فماذا تقول عن الاحتراف؟ هل هناك محترفون فعلا في وطننا؟
إننا نبدأ هواة، لكننا نتطور، وما أن تشدنا حركة التطور حتى نتفرغ لها بالكامل، والتفرغ يعني الاحتراف، ولا يُحوّل الذهب الخام إلى تحف موغلة في الدقة إلا نقاش محترف، والاحتراف في الفن ليس جديدا في وطننا.
كتابة (السيناريو) فن له مدارسه وله أعلامه في وطننا العربي … هل يمكن القول إن لدينا مدرسة عربية في هذا الفن؟ ومن أعلامها لديك؟ هل تستطيع أن تحدد لنا ميزات السيناريو الذي يكتبه العرب؟ وهل واكب التطور في العالم؟
السيناريو تفصيص دقيق للمشهد، وهو صناعة فنية مرتبطة بأحاسيس المرء وبذوقه وبدرجات تذوقه لجمال اللون والحركة وقطعة الإكسسوار والمنظر العام، وليس كل إنسان يصلح أن يكون (سيناريست)، وعلى رغم أن كل إنسان يمكنه أن يدرس قواعد السيناريو، وهناك عباقرة في وطننا العربي يكتبون السيناريو بكل دقة وجمال، وهم في الغالب من المخرجين السينمائيين، والسيناريو إخراج مبدئي على الورق يحركه إبداع المخرج.
نعرف أنك تعاملت مع (حسين كمال) و(أحمد خضر) … ماذا عن ملاحظاتك حولهما؟ هل تعتقد أنهما استوعبا أفكارك: وهل فعلا أنت راض عن إبداعاتهما حيال ما كتبت؟
تعاملت مع أربعة مخرجين عرب كبار، هم المرحوم (فخر الدين صلاح)، و(أحمد خضر)، و(ممدوح مراد)، وأخيرا الأستاذ (حسين كمال)، وتجربتي مع الأستاذ (ممدوح مراد) في مسلسل (السوس) أثمرت الجائزة الثالثة في مهرجان القاهرة الدولي الأول للأعمال المرئية بعد عشر سنوات من إنتاج المسلسل، وأعتبر تجربتي الأخيرة مع الفنان (حسين كمال) مهمة جدا ومثمرة إلى أبعد حد، وبصورة شاملة أقول إن التعامل مع أساتذة الإخراج في مصر بالذات يؤدي في الغالب إلى نتائج باهرة.
تجارينا العربية في مجال الفن، ألا تعتقد أنها تجارب مقلدة للغرب؟ كيف يمكن أن نحمي إبداعنا من هذا التيار؟
الفن العربي امتداد لتراث عظيم وحضارة إنسانية خالدة، الأقواس العربية والنقوش العربية الإسلامية والتراث الأندلسي ومعلقات مكة الخالدة و(زرياب) و(الفارابي) وصولا إلى (الرحابنة) و(عبدالوهاب)، وغيرهم، كل هذا يشكل فسيفساء حضارية إنسانية خالدة … أما عن رياح الغرب فهي تهب على كل بقاع الأرض، لكنها رياح عابرة وتشبه إلى حد بعيد فقاعات الصابون.
ما الهموم الفنية التي تشغلك؟ هل تعتقد أننا استطعنا أن نعبر عن قضايانا العربية فنيا؟
الهموم هي التي تفجر الإبداع وتعطيه درجات متقدمة من النجاح، وهمومي الفنية كثيرة كأحلامي الفنية التي لا تنتهي، أما حكاية التعبير عن قضايانا العربية فنيا، فلا أعتقد أننا اقتربنا بمقدار قيد أنملة من ذلك، خاصة بعد أن توسعت أسواق الكاسيت وأشرطة الفيديو. وبالنسبة إلى السينما فهي حاليا (سينما شباك)، أساسها (الأكشن)، الإثارة والمغامرات الخاصة.
إلى أي مدى تطور العمل الفني في ليبيا، برأيك، في كل مناحيه؟ هل نقول إن الفن في ليبيا في مستوى التطور الذي يحدث في الوطن العربي؟
ليبيا بيئة عربية عريقة وأصيلة، وحيث وجدت العراقة والأصالة وجد الفن، ولا فرق في المستويات بين قطر وآخر إلا بتوافر فرص الانتشار، وقد بدأ العمل الدرامي الليبي يحصد جوائز المهرجانات، والأغنية الليبية اليوم صارت منتشرة والحمد الله والمستقبل يبشر بالخير.
مجلة الفنون | 18، 1 يونيو 2002م.