قراءة تفكيكية في قصيدة “القفز نحو هوة الأمل” للدكتور عمر عبد الدائم في سياق المشهد الليبي
مقدمة
في رحاب الأدب، تتسامى النصوص لتتجاوز حدودَ الجمالية، حاملةً نبضَ المجتمع وصراعاته. وفي المشهد الأدبي الليبي، يتردد صدى الشعر كصوت يعكس تجاربَ الاغتراب واليأس والقمع التي تعتصر الإنسان في هذا الفضاء المضطرب. لم يكن الشعر الليبي بمعزلٍ عن الصراعات السياسية والاجتماعية، بل لعب دورًا في التعبير عن آمالِ الشعب ومعاناته. ففي ظل الأنظمة الاستعمارية والشمولية، تحول الشعر إلى سلاحٍ للمقاومة، حيث استخدم الأدباء التصريحَ والرمزَ للتعبير عن رفض الظلم.
برزت أسماء عديدة في سماء الأدب الليبي، مثل أحمد رفيق المهدوي، وعلي الرفيعي، وإبراهيم الأسطى عمر، وغيرهم، أسهمت في إثراء المشهد الثقافي بتجاربها الشعرية المتنوعة وعكست همومَ الوطن والإنسان. ومع مرور الزمن، عكس الشعر الليبي حالةَ التيه والانكسار التي تلت التحولات السياسية، حيث بات الشعراء يتناولون موضوعاتِ الاغتراب وفقدان الأمل، ولكنهم في الوقت نفسه يتمسكون بـ “هوة الأمل” التي تدفعهم نحو المجهول.
من بين هذه الأصوات، تبرز قصيدة للدكتور عمر عبد الدائم، نشرها على صفحته في فيسبوك، لم يضع لها عنوانًا. ونختار لها هنا عنوانًا “القفز نحو هوة الأمل”؛ إذ يمثل هذا العنوان رؤيةً شاملة لمضمون النص الشعري، حيث تتجاوز القصيدة حدودَ التجربة الفردية لتلامس معاناةَ الإنسان المعاصر في مواجهة سلطات القمع وتصدع الهوية. هذا العنوان يجسد القفزةَ الجريئة نحو المجهول، نحو الأمل الذي يظل حاضرًا حتى في أعمق لحظات اليأس. فالقصيدة ليست مجرد مرثية للاغتراب، بل هي صرخة احتجاج ضد الظلم، ودعوةٌ للتمسك بالذات الحرة في وجه القوى التي تسعى إلى طمسها.
نص القصيدة
اِحْمِلْ حَقَائِبَكَ الْمَلِيئَةَ بِالْكَلَامِ
وَارْكُضْ هُنَاكْ
لَعَلَّ رُوحاً شَارِدَهْ
أَوْ نَجْمَةً بَيْنَ الْغَمَامِ
تَرْنُو إِلَيْكَ وَتَبْتَسِمْ
لِتَكُونَ يَوْماً شَاهِدَهْ
اِرْكُضْ هُنَاكْ
اِهْرُبْ بَعِيداً عَنْ مَضَارِبِهِمْ
فَكِلَابُهُمْ آثَارَ حَرْفِكَ تَقْتَفِي
وَعُيُونُهُمْ
تِلْكَ الْعُيُونُ الْحَاقِدَة
تَتْبَعُ خُطَاكَ
اِرْكُضْ هُنَاكْ
اِرْكُضْ
إِلَى حَيْثُ السَّمَاءُ
لَا تَلْتَفِتْ أَبَداً
فَأَرْضُكَ طَارِدَةٌ
التحليل
تنطلق قصيدة “القفز نحو هوة الأمل” من عمق تجربة الاغتراب، متجاوزةً الذات الفردية لتلامس معاناةَ الإنسان المعاصر في مواجهة واقعٍ يدفع نحو الموت البطيء. القصيدة لا تكتفي برصد الحالة، بل تفكك آليات السلطة، مستخدمةً أدواتٍ شعرية مكثفة ورموزًا ذات دلالة. هنا، يصبح “الأمل” هوةً سحيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بالمغادرة نحو المجهول، مع التأكيد على أن “السلطة” تتجاوز الكيان السياسي لتشمل المجتمع والعادات والمفاهيم السائدة.
مع أولى الكلمات، تستهل القصيدة بـ “احْمِلْ حَقَائِبَكَ المَلِيئَةَ بِالْكَلَامِ”، فعلُ أمرٍ يشي بحتمية الرحيل وضرورة الاحتفاظ بالذات. يتحول “الكلام” إلى حمولة وجودية، لا مجرد أداة للتواصل، بل تجسيد للهوية والتاريخ. ويتبع ذلك الأمر “وَارْكُضْ هُنَاكْ”، وهو فعل حركي يكسر السكونَ ويضع النص في دينامية متسارعة. الركض هنا ليس مجرد فرار، بل تعبير عن سعي نحو الذات الحرة في مواجهة منظومة قمعية. يصبح الفعل “اركض” صرخة رفضٍ للواقع، ويجسد القفزةَ نحو “هوة الأمل”.
وفي مشهدٍ يختلج بالحنين، تتجلى غربةُ الذات في قوله “لَعَلَّ رُوحاً شَارِدَهْ أَوْ نَجْمَةً بَيْنَ الْغَمَامِ تَرْنُو إِلَيْكَ وَتَبْتَسِمْ لِتَكُونَ يَوْماً شَاهِدَهْ”، حيث يلتمس الشاعر شهادةً من كائناتٍ غير مألوفة، دلالةً على اليأس من إيجاد التقدير في محيطه. “الروح الشاردة” و”النجمة بين الغمام” تتحولان إلى رمزٍ للذات المنبوذة الباحثة عن صدى. هذه الصورة الشعرية تخلق مفارقةً بين اتساع “الكلام” وضيقه في الواقع، مما يزيد من حدة الإحساس بالاغتراب.
وعلى وقع الصراع، تصل القصيدة إلى ذروة التوتر في الأبيات التي تصف المطاردة: “اِهْرُبْ بَعِيداً عَنْ مَضَارِبِهِمْ فَكِلَابُهُمْ آثَارَ حَرْفِكَ تَقْتَفِي وَعُيُونُهُمْ.. تِلْكَ الْعُيُونُ الْحَاقِدَةْ، تَتْبَعُ خُطَاكَ”. هنا، يتحول الوطن إلى فضاء عدائي، وتصبح “مضاربهم” رمزًا للسلطة القمعية. وتوظيف صورة الكلب هنا يكسر الصورة النمطية للوفاء، لتدل على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه السلطة، حيث تستخدم أدواتٍ حقيرة في ملاحقة المفكرين والأحرار.
وفي لحظة يأس متصاعد، يختتم الشاعر قصيدته بالتوجه “إِلَى حَيْثُ السَّمَاءُ”، استعارةً للملاذ الروحي والسمو فوق القيود المادية. ثم يأتي الإقرار المرير “لَا تَلْتَفِتْ أَبَداً فَأَرْضُكَ طَارِدَةٌ”، ليؤكد أن الأرض لم تعد مكانًا آمنًا، وأن الهروب هو الحل المتبقي. هذا الإقرار يكرس حالة الاغتراب، لكنه في الوقت نفسه يحمل دعوةً للتمرد على الواقع، وللقفز نحو “هوة الأمل”.
وفي الختام
فإن قصيدة “القفز نحو هوة الأمل” للدكتور عمر عبد الدائم ليست مجرد مرثية للاغتراب، بل هي صرخة احتجاجٍ ضد الظلم، ودعوةٌ إلى التمسك بالذات الحرة. إنها نص أدبي يثير وعيَ القارئ ويحفزه على التفكير في واقعه. القصيدة، عبر توظيفها للصورة الشعرية والرمز، تُفصح عن رؤية نقدية للواقع السياسي والاجتماعي، وتؤكد على أهمية الأدب كأداةٍ للتحليل والتغيير. تتجسد فيها ملامحُ المشهد الشعري الليبي الذي لم يتوقف عن طرح الأسئلة الوجودية، والتعبير عن آمالِ شعبٍ يتوق إلى الحرية والكرامة. إنها قصيدة تتجاوز حدودَ الزمان والمكان لتصبح صرخةً إنسانية في وجه الظلم، وتذكير بقوة الكلمة كأداةٍ للمقاومة، والقفز نحو “هوة الأمل” حتى في أحلك الظروف.
الاثنين 27 يناير 2025