السبت, 29 مارس 2025
طيوب البراح

مقهى القمر الأخير

من أعمال المصورة التونسية سلوى الجوادي
من أعمال المصورة التونسية سلوى الجوادي

في زاوية من زوايا المدينة، كان هناك مقهى غريب اسمه “القمر الأخير”. لم يكن أحد يعرف لماذا سُمّي بهذا الاسم، لكنه كان هناك، يعكس نوره الباهت على الأرصفة المزدحمة، وكأنه عالم منفصل عن صخب الوجود.

كان رواد المقهى قلة، وكل منهم يحمل على وجهه قصة خاصة ترفض الحديث.

اقترب رجل نحيل من عمره تجاوز الثلاثينات، يحمل ملامح التعب والقلق. جلس مقابل شابٍ كان يرتشف القهوة التي أمامه كأنه يبحث عن شيء ضائع.

في الزاوية البعيدة، بينما كانت الموسيقى الكلاسيكية الممتعة من جهاز قديم تملأ الأجواء، جلس العجوز مراقبًا طاولات الزبائن وشعوره الأحمر يتأرجح بين الحيرة والإرادة. كان ينظر نحو الباب كأنه كان ينتظر منذ زمن.

“هذا المقعد شاغر؟” سأله الرجل النحيل.

“بالطبع”، أجاب دون أن يرفع عينيه.

جلس بهدوء، وربتت شفتاه بحركاته المعدنية الصغيرة. للحظة، شعر إيهاب بشيء غريب؛ كأن وجودها في المكان لم يكن صدفة.

“هل تؤمن بالحظ، إيهاب؟” سألته فجأة.

“كيف تعرفين اسمي؟” قالها بلهجة حادة.

“لم أكن أعرفه، لكن بدا لي أنني سأعرفه قريبًا”، أجابت بابتسامة خفيفة.

شعر بشيء غريب يتسلل إلى قلبه؛ مزيج من الخوف والفضول. قرر أن يتجاهل سؤالها.

“هذا المكان غريب، أليس كذلك؟” قال محاولًا تغيير الموضوع.

“إنه يشبه مكانًا تقفلت فيه الأرواح. هو مثل تلقيك ضوءًا من الأمل حين فقدت طريقها”.

ابتسم إيهاب بسخرية، لكنه لم يقل شيئًا. كانت كلماتها تحمل ثقلًا غريبًا، كأنها تعرف ما يخفيه قلبه.

مع مرور الساعات، تبادل الحديث عن أشياء بدت عادية، ولكنها كانت تحمل بين السطور رسائل مشفرة. تحدثت عن الذكريات التي تخاف أن تختفي، وعن الذكريات التي تمنّت لو لم تكن أحيانًا.

في النهاية قالت له:

“لديك خياران فقط: أن تبقى هنا، عالقًا في هذا المقهى إلى الأبد، أو أن تواجه العالم بالخارج”.

نظر للحظة مترددًا، كأن كلماتها تنمو كأنها امتحان لحياته بأكملها. لكنه لم يقل شيئًا. غادر المقهى، لم ينظر خلفه، ولم يعرف أحد ما حدث له بعد ذلك.

أما المقهى، فقد اختفى كما ظهر.

كل ما بقي منه كان ذاكرة غامضة، وقصصًا ترويها الرياح لمن يستمع.

مقالات ذات علاقة

رحـلة أشـواقي

المشرف العام

وعرباه ….!!!!

خالد الجربوعي

المُفكر

المشرف العام

اترك تعليق