تقديم كتاب “الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم”
تمهيد
لطالما كان الأدب الساخر مرآة عاكسة لواقع المجتمعات، ومحرضًا على التغيير والإصلاح. فمنذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، سعى الأدباء والمفكرون إلى استخدام الفكاهة والتهكم كأدوات نقدية، لتسليط الضوء على عيوب السلطة، وتجاوزات المجتمع، وتناقضات الحياة. لم يقتصر هذا الأسلوب على ثقافة بعينها أو حقبة زمنية محددة، بل انتشر في مختلف أنحاء العالم، وتنوعت أشكاله وأساليبه، من الكوميديا اللاذعة في مسرحيات أريستوفان الإغريقية، إلى السخرية المريرة في أعمال غوغول وتشيخوف الروسيين، وصولًا إلى الفكاهة السوداء في أدب كورت فونيغوت وجوزيف هيلر في العصر الحديث. وفي خضم هذا المشهد الأدبي العالمي، يبرز أدب الصادق النيهوم كصوت ساخر، ينهل من هذا التراث الغني، ليقدم لنا رؤيته الخاصة للعالم والمجتمع من حوله.
يأتي كتاب “الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم” للباحث القدير خالد علي إبراهيم، كإضافة نوعية للمكتبة العربية، وإسهامًا رصينًا في دراسة الأدب الليبي المعاصر. يمثل الكتاب رحلة عميقة في عالم الأديب الليبي الراحل، الصادق النيهوم، الذي اشتهر بأسلوبه الساخر اللاذع، وقدرته الفريدة على توظيف الفكاهة في نقد الواقع الاجتماعي والسياسي والديني. يهدف الكتاب إلى تسليط الضوء على هذا الجانب الهام من أدب النيهوم، والكشف عن آليات عمله وأبعاده الفنية والجمالية.
محتويات الكتاب
صدر كتاب “الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم” عن دار تيرا للطباعة والنشر والتوزيع (الطبعة الأولى: 1443 هـ / 2022 م) في حلة أنيقة، حيث يضم بين دفتيه 258 صفحة من القطع المتوسط، مطبوعة بنوع خط واضح ومريح للقراءة. يستهل الكتاب بصفحة الإهداء، تليها صفحة التقديم، ثم المقدمة التي تعرض دوافع الكتاب ومحتوياته. ويلي ذلك التمهيد الذي يضع القارئ في صلب موضوع الكتاب، ثم تأتي الفصول الثلاثة التي تشكل متن الدراسة. ويختتم الكتاب بالخاتمة وقائمة المصادر والمراجع. يتميز الكتاب بتسلسل منطقي في عرض الأفكار والمباحث، مع عناية واضحة بالجانب الشكلي، مما يجعله عملًا أكاديميًا متكاملًا من حيث المضمون والشكل.
قدم للكتاب د. عيسى بن سعيد بن عيسى الحوقاني (باحث وناقد من دولة عُمان). أشاد الحوقاني بالبحث الأكاديمي المحكم الذي قدمه الباحث، خالد علي إبراهيم، حول الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم. وأشار إلى أنّ الباحث قد تمكن من سبر أغوار نصوص النيهوم وكشف ما وراءها، مع التركيز على معالجة الموضوعات الساخرة معالجة نقدية عميقة، وبيان البناء الفني لخطاب النيهوم. كما أثنى على المنهجية الدقيقة التي اتبعها الباحث، وقدرته على المناقشة النقدية لآراء النقاد السابقين.
تستهل المقدمة بالإشارة إلى أهمية الأدب الساخر ودوره عبر التاريخ في نقد المجتمعات والدعوة إلى الإصلاح، مع ذكر نماذج لأدباء ساخرين من ثقافات متنوعة، ثم تنتقل إلى بيان أهمية دراسة الخطاب الساخر في أدب النيهوم، وأهمية هذا الأدب في إثراء الساحة الأدبية الليبية والعربية. بعد ذلك، يتم تحديد عنوان الدراسة بـ (الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم – دراسة نقدية)، وتوضيح دوافع اختيار هذا الموضوع والمتمثلة في الحضور البارز للسخرية في أدب النيهوم، وندرة الدراسات التي تتناول هذا الجانب بالتحديد. كما تبيّن المقدمة أهمية الدراسة كونها تُعنى بدراسة ظاهرة السخرية عند كاتب ليبي أجمع أغلب الدارسين على بروزها في كتاباته دون أن يدرسها أحد دراسة متخصصة. وتستعرض المقدمة أسئلة الدراسة التي تسعى للإجابة عنها، وهي: مفهوم الخطاب الساخر، وموضوعات السخرية في أدب النيهوم، والدوافع التي جعلت النيهوم يلجأ إليها، وكيف بنى نصه الساخر فنيًا، ومظاهر التقليد والتجديد، ورأي النقاد في ذلك الخطاب. كما تحدد أهداف الدراسة، مثل التعريف النيهوم، والوقوف على موضوعات ودوافع السخرية، وإظهار الجوانب الفنية، ودراسة آراء النقاد، وتبيّن المنهج الوصفي التحليلي الذي اعتمدته الدراسة، وكيف أفادت من نظريتي التلقي والتأويل. وتختتم المقدمة بعرض بعض الصعوبات التي واجهتها الدراسة، مثل صعوبة الوصول إلى المصادر والمراجع، لا سيما في ظل انتشار جائحة كوفيد 19، وتحديد مدونة البحث في الأعمال الأدبية التي اعتمدتها الدراسة، وبيان خطة الدراسة وتقسيمها على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة.
وقد جاءت عناوين الفصول ومواضيع المباحث داخلها كما يلي:
الفصل الأول: “موضوعات الخطاب الساخر في أدب النيهوم”: يتناول هذا الفصل أبرز الموضوعات التي طرقها النيهوم في خطابه الساخر، ويندرج تحته ثلاثة مباحث أساسية:
المبحث الأول: يتناول القضايا الاجتماعية التي تمس حياة الإنسان الليبي اليومية، من خلال صور الفقر والتهميش والطبقية، وإشكاليات العلاقات الأسرية، والعادات والتقاليد البالية.
المبحث الثاني: يتطرق إلى القضايا السياسية التي تنتقد الحكم والسلطة، وتعري صور الفساد والاستبداد.
المبحث الثالث يتناول القضايا الدينية التي تفضح الخرافات والتقاليد البالية، وتنتقد استغلال الدين في تحقيق المآرب الشخصية. يحلل الباحث النصوص المختارة بعمق، مع إبراز دوافع النيهوم للجوء إلى السخرية، وكيف وظفها في معالجة تلك القضايا، وفي خدمة أهدافه النقدية والإصلاحية.
الفصل الثاني: “البناء الفني في خطاب النيهوم الساخر” يركز هذا الفصل على الجوانب الفنية في خطاب النيهوم الساخر، ويندرج تحته ثلاثة مباحث أساسية:
المبحث الأول: يتناول التناص بأنواعه (الديني، والأدبي، والشعبي)، وكيف وظفه النيهوم بأسلوب ساخر لخدمة أهدافه النقدية.
المبحث الثاني: يحلل الصورة الفنية بجمالياتها وتقنياتها، والتصوير الفني وحضوره في نص النيهوم الساخر، وأثر ذلك في إبراز أفكاره ودلالاته.
المبحث الثالث: يتناول البناء اللغوي، وما يتضمنه من أساليب لغوية (الخبر، والإنشاء، والنداء، والاستفهام) وما تحمله هذه الأساليب من وظائف في خدمة السخرية.
طالع: خالد علي إبراهيم: جل من يعرف النيهوم لا يلتفت إلى أدبه الساخر لطغيان الفكر والترجمة على ذلك
الفصل الثالث: “مظاهر التقليد والتجديد في خطاب النيهوم الساخر”: يعرض هذا الفصل لمظاهر التقليد والاتباع في أسلوب النيهوم، ومظاهر التجديد والإبداع، ويندرج تحته ثلاثة مباحث أساسية:
المبحث الأول: يدرس مدى تأثر النيهوم بالموروث الأدبي العربي، ومحاكاته لبعض الأساليب والتراكيب.
المبحث الثاني: يوضح الجوانب التجديدية والإبداعية في كتابات النيهوم، وكيف سعى إلى تقديم رؤية مختلفة ومتجددة في أسلوبه الساخر.
المبحث الثالث: يحلل آراء النقاد في خطاب النيهوم الساخر، ويقدم تقييمًا موضوعيًا لتلك الآراء، ويقف على نقاط الاتفاق والاختلاف، ويوازن بين رؤى الدارسين والباحثين.
يتميز كتاب “الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم” بكونه بحثًا أكاديميًا محكمًا، يتسم بالعديد من المزايا، حيث يتناول موضوعه بعمق وشمولية، متطرقًا إلى مختلف جوانب الخطاب الساخر في أدب النيهوم، معتمدًا على منهجية علمية دقيقة في التحليل والنقد، وتوثيق دقيق للمصادر والمراجع، كما يقدم الكتاب رؤية نقدية متميزة لأدب النيهوم، مع تسليط الضوء على الجوانب الفنية والجمالية في خطابه الساخر، ويتبنى الباحث أسلوبًا سلسًا وواضحًا في الكتابة، مما يجعله في متناول القارئ العادي، والمختص في آن واحد، بالإضافة إلى أنّ الكتاب يتناول موضوعًا غير مطروق من قبل، ويقدم رؤية جديدة في دراسة الأدب الليبي الحديث.
يُوصِي مؤلف كتاب “الخطاب الساخر في أدب الصادق النيهوم” ضمنيًا بإجراء المزيد من الدراسات المتعمقة حول الجوانب الفنية في أدب النيهوم، مع إيلاء مزيد من الاهتمام بالبعد الاجتماعي والسياسي فيه، وتوسيع نطاق الدراسات لتشمل كافة كتاباته، وتحليل أثر الثقافة الغربية عليه، وإجراء مقارنات بين أدبه وأدب الساخرين الآخرين، مع ضرورة تطوير مناهج النقد الأدبي لتناسب خصوصيته، والاهتمام بإبراز البعد الجمالي فيه، ودراسة تأثيره في المتلقي الليبي، والتأكيد على أهميته في الأدب العربي الحديث، وتوجيه البحوث نحو تناول قضايا العبث والوجودية في أدبه.
يُعدّ الباحث خالد علي إبراهيم من الباحثين الجادين في مجال النقد الأدبي، ويظهر ذلك جليًا في هذا الكتاب الذي يعكس إلمامه الواسع بالأدب العربي عامة، والأدب الليبي خاصة، وقدرته الفائقة على التحليل والنقد. يضاف إلى ذلك، أسلوبه المتميز الذي يجمع بين العمق والوضوح، مما يجعله جديرًا بالثناء والتقدير.
هذا العمل يفتح آفاقًا جديدة في دراسة الأدب الليبي المعاصر، ويقدم فهمًا أعمق لأدب الصادق النيهوم، ويسهم في إثراء المكتبة النقدية الليبية بدراسة جادة وموضوعية.