الذكرى الـ15 لرحيل الكاتب والأديب الليبي خليفة التليسي
قصة إيطالية بقلم دينو بوتساتي / ترجمة خليفه محمد التليسي
بعد رحلة يوم كامل في القطار، وصل جيوسيبي كورتي، في صبيحة احد ايام مارس، الى المدينة حيث توجد العيادة الشهيرة. كان يحس بشيء من الارتفاع في درجة حرارته، ولكنه صمم ان يقطع الطريق الواقعة بين المحطه والمستشفى على قدميه حاملا وحده حقيبته.
وعلى الرغم من ان اعراض الحالة التي يعانيها كانت خفيفة وفي البداية، فقد نصح بالتوجه الى هذه المصحة المشهورة حيث لا يعالج الا ذلك النوع الوحيد من المرض. مما يضمن تخصصا فريدا بين الاطباء، كما يضمن استفادة كاملة، وناجعة من تنظيمات الاجهزة.
ولما أبصرها من بعيد – اذ سبق أن تعرف عليها حين راها مصورة في احد المنشورات الدورية – كان الانطباع الذي تملكه حسنا. فالمبنى الابيض ذو السبعة اديار كان مفصولا بمداخل منتظمة تخلع عليها مظهر الفندق. وكان يحيط. به طوق من الاشجار العالية.
وبعد ان أجري عليه كشف طبي عام تمهيدا لفحص أدق، وضع ((كورتي)) في حجرة بهيجة منشرحة من الدور السابع والاخير. كان الاثاث نظيفا، فاتح اللون، وكذلك فرش الغرفة. أما الارائك فكانت خشبية. وكانت الوسائد مغلفة بأقمشة ملونة. والمنظر ينبسط على حي من أجمل أحياء المدينة. كل شيء هادئ ومضياف، وباعث على الاطمئنان.
ودخل (كورتي) في الحال الى السرير، فأوقد المصباح الذي يقع عند رأسه.، وشرع يقرأ كتابا كان فد حمله معه. وبعد برهة قصيرة، دخلت عليه ممرضة نسأله عما اذا كانت به رغبة في شيء من الاشياء.
ولم يكن (كورتي) يرغب في شيء. ولكنه أخذ يتحدث الى الفتاة، يسألها معلومات عن العيادة. وعرف منها الطابع الغريب الذي يتميز به هذا المستشفى. فالمرضى موزعون دورا بعد اخر حسب خطورة أحوالهم.
فالسابع أي الاخير، تان مخصصا للحالات الخفيفة، والسادس كان مخصصا للمصابين بمرض غير خطير، ولكن لا يستدعي الاهمال. والخامس تعالج فيه الاصابات الحقيقية. وهكذا بالتوالي من دور الى دور. وفي الثاني ينزل مرضى الحالات الخطيرة. اما الاول فينزل فيه أولئك الذين فقد الرجاء في شفائهم.
هذا التنظيم الفريد، من شأنه – بالإضافة الى التعجيل في تقديم الخدمات بشكل عظيم – أن يحول بين المصاب بمرض خفيف، والتعرض للإزعاج الذي قد يسببه زميل يتجرع غصص النزع الاخير. ويضمن لكل دور من الادوار جوا موحد! في نوعه. ومن جهة أخرى، فان العلاج يمكن ان يتم تدريجيا وبطريقة كاملة.
وقد نتج عن تقسيم المرضى وتوزيعهم على سبعة ادوار، أو طبقات متدرجة، ان صار كل دور عالما منفصلا لذاته، بنظمه الخاصة، وتقاليده الخاصة. ونظرا الى أن كل قسم كان موكولا الى طبيب، فقد نشأ ولو بشكل طفيف، اختلاف ظاهر في طرق العلاج، رغم أن المدير العام قد طبع المؤسسة بوجهة رئيسية واحدة.
وحين خرجت الممرضة، تهيا له ان الحرارة قد زالت عنه. فاقترب من النافذة، ونظر خارجها، لا لكي يلاحظ المنظر العام للمدينة، ذلك المنظر الجديد عليه، ولكنه كان يؤمل ان يرى من خلال النافذة، مرضی اخرين من نزلاء الادوار السفلى. وكان تركيب المبنى بفواصله الكثيرة،
يتيح الفرصة لمثل هذه الملاحظة. وقد ركز كورتي – فوق كل شيء – انتباهه وسلطه على نوافذ الدور الاول التي كانت تبدو له بعيدة، ولا تأخذها العين الا جانبيا. ولكنه لمير شيئا ذا أهمية. فأغلبها قد انسدلت عليه الستائر الخشبية.
وانتبه كورتي الى أن رجلا بطل من النافذة المجاورة له، وتبادلا النظرات في تعاطف بالغ. ولكنهما لم يعرفا سبيلا يزيحان به الصمت.
وأخيرا تشجع كورتي وقال:
– حتى أنت تقيم هنا، منذ قليل؟
فأجاب الاخر:
– كلا، أنا موجود هنا منذ شهرين.
ثم سكت قليلا. ودون أن يعرف كيف يواصل الحديث أضاف:
– إني أنتظر أخي الذي يقيم تحت.
– أخوك..!؟
وأخذ الرجل المجهول يوضح له قائلا:
– نعم، لقد دخلنا معا. إنها لحالة غريبة حقا. إن حالته اخذت تسوء، ولذلك فهو يقيم الآن في الرابع.
– أي رابع؟
– الدور الرابع…
أوضح ذلك الشخص المجهول، ونطق بهذه الالفاظ محملة بالتعبير عن الاسى والفزع. حتى أن كورتي لبث مرتاعا، وسأل في حذر:
– أهم على هذه الحالة من الخطورة، نزلاء الدور الرابع؟
فهز الاخر رأسه بهدوء، وقال:
– يا إلهي ! إنهم لم يفقدوا الرجاء، ولكنهم في الوقت نفسه لا تسمح لهم أوضاعهم بالانشراح.
وسأل كورتي في استهانة ساخرة، كمن يشير الى أشياء فاجعة لا تخصه أو تتصل به.
– إذن.. ماذا يصنعون في الدور الأول؟، إذا كان مرضى الدور الرابع على هذه الدرجة من الخطورة؟
– آه. الدور الأول! هناك يوضع المحتضرون. ليس هناك عمل للأطباء. وإنما القسيس وحده هو الذي يشتغل.. وطبيعي..
ولكن كورتي قاطعه، وفي نفسه خوف من أن يحصل على مزيد من التأكيدات، قائلا:
– لا شك أنهم قلائل، نزلاء الدور الاول. جميع الحجرات تكاد تكون مغلقة.. فأجابه المجهول، وابتسامة رقيقة على شفتيه:
– الان قلائل. ولكن في الصباح كانوا كثيرين. حيث تكون النوافذ مغلقة فهناك ميت ترك العالم منذ قليل. ألا ترى النوافذ مفتوحة في بقية الأدوار؟. ولكن معذرة.
وأضاف وهو ينسحب بالتدريج:
– يبدو لي أن الجو قد أخذ في البرودة، سأعود الى الفراش. تقبل تمنياني الطيبة.
واختفى الرجل من النافذة، التي أغلقت في قوة. ثم لمح ضوءا ينبعث منها، ووقف كورتي قرب النافذة، يحدق في النوافذ المغلقة في الدور الأول. كان يحدق فيها بإلحاح يحاول ان يتخيل أسرار ذلك الدور الأول المخيف – الذي يعزل فيه المرضى لكي يموتوا. وأحس بالراحة تغمر كيانه لبعد عن هذا الدور.
وعلى المدينة كانت تخيم ظلال المساء، وأخذ الضوء ينبعث من النوافذ الالف بالمستشفى، واحدة بعد أخرى. حتى ليمكن ان يتخيله الأنسان من بعيد قصرا تجرى فيه احتفالات. وفي الدور الأول فقط، هناك في أعماق الهاوية، كانت عشرات من النوافذ مظلمة عمياء.
واطمان كورتي الى نتائج الكشف الطبي العام. كان ميالا لتوقع السوء. وكان قد هياً نفسه لتقبل الحكم القاسي. ولم يكن ليفاجأ لو أن الطبيب أعلن له أنه سيوجه الى الدور الذي تحت. ولكن الحرارة لا تنبىء بالزوال. رغم أن أحواله العامة كانت محتفظة بمستوى طيب.
ووجه إليه الطبيب كلمات لطيفة ومشجعة..
– إن الاعراض الأولى للمرض موجودة، ولكنها خفيفة، وفي البداية. ومن المحتمل أن يزول عنك الألم خلال أسبوع أو أسبوعين.
وعند هذه النقطة تساءل في قلق:
– إذن فسوف أبقى بالدور السابع؟
– طبيعي.
أجاب الطبيب وهو يربت على كتفه، في مودة.
– وأين تريد أن تذهب؟ الدور الرابع؟
سأله وهو يضحك. فقال كورتي:
– ذلك أحسن.. ذلك أحسن. أتدري أن الأنسان المريض يتخيل ويتوقع دائما الأشياء السيئة.
وفعلا أقام كورتي في الحجرة التي قررت له في الاصل. وتعرف على بعض زملائه في المستشفى، أثناء الأمسيات القليلة التي كان يسمح له فيها بمغادرة السرير، وتابع بدقة تامة العلاج، والتزم بكل قواه أن يشفى تدريجيا، إلا أن حالته بالرغم من ذلك ظلت ثابتة.
وانقضت عشرة أيام تقريبًا، عندما تقدم إلى كورتي رئيس الممرضين بالدور السابع. لقد جاء يلتمس منه فضلا ينجزه بطريقة ودية تماما. وأخبره أنه في اليوم التالي سوف تدخل المستشفى سيدة مع طفلين. وهناك حجرتان شاغرتان بجواره. وتنقصهم الثالثة، إلا يتفضل السنيور كورتي بقبوله الانتقال إلى حجرة أخرى، هي أيضا مريحة؟
ولم يثر كورتي أية صعوبات: هذه الحجرة أو غيرها، كلها سواء. ربما كان من نصيبه غرفة جديدة، وممرضة لطيفة.
قال رئيس الممرضين، وهو ينحني انحناءة خفيفة.
– أني أشكرك من الأعماق. لا يستغرب مثل هذا التفضل الفرساني من شخص مثلك. بعد ساعة إذا لم يكن لديك أي اعتراض. سننفذ الانتقال. أنما ينبغي أن نعرف أنك ستنزل إلى الدور الذي يلي هذا (وأضاف في صوت خفيض كما لو كان الموضوع الذي يريد التحدث عنه، مما ينبغي التغاضي عنه) والسبب أنه لا توجد حجرات خالية بهذا الدور. إلا إنه ينبغي أن يكون على يقين، أنه تدبير مؤقت (وأسرع يوضح حين رأى كورتي يفتح فمه دلاله الاحتجاج ) قطعًا إنه تدبير مؤقت. فلا تشغر أية حجرة حتى تعود، وأعتقد أننا لن نحتاج إلى الانتظار أكثر من يومين أو ثلاثة)..
وضحك كورتي، ضحکة من یرید أن يبرهن أنه ليس طفلا.. وقال:
– أعترف.. بأن مثل هذه النقلة لا تعجبني على الإطلاق.
– ولكن ليس لهذا الانتقال أي مبرر صحي. إني أفهم ما تريد أن تقول، الموضوع يتعلق بمجاملة نقدمها لهذه السيدة، التي تفضل ألا تفترق عن طفليها. أرجوك.
وأضاف وهو يضحك ضحكة قوية..
– لا يخطر ببالك أن هنالك أسبابا أخرى.
قال كورتي:
– ليكن كلامك صدقا، ولكن يتهيأ لي أن الانتقال فأل غير جميل.
وانتقل كورني الى الدور السادس. ورغم اقتناعه بأن هذا الانتقال لا يستند على أي تدهور في حالته الصحية، فأنه كان يشعر بالقلق لمجرد الفترة التي تخالجه بأن هناك عقبة تقوم بينه وبين العالم العادي، عالم الاصحاء من الناس، نزلاء الدرر السابع، ميناء الوصول.
كان له هناك نوع من الصلة بعالم الناس، بل يمكن اعتباره امتدادا للعالم العادي. ولكنه في هذا الدور قد دخل عمليا في قلب الجهاز الصحي للمستشفى. الجهاز الحقيقي. وفعلا، فان عقلية الأطباء والمرضين، ونفس المرضى، تختلف قليلا بشكل ظاهر. فهم مقتنعون بأنهم يستقبلون في هذا الدور المرضى الحقيقيين، ولو أنهم في حالة غير خطيرة.
ومن الأحاديث التي تبادلها كورتي مع جيرانه، ومع الموظفين، والأطباء، أدرك كيف أنهم في هذا الدور، يعتبرون الدور السابع مهزلة، وجناحًا مخصصا لهواة المرضى من المصابين بالنزوات. ويمكن أن يقال، أن الإصابات الحقيقية، لا تبدأ إلا من الدور السادس. وعلى كل حال، فقد فهم كورتي أنه لكي بعود إلى الدور العلوي، إلى المكان الذي يستحقه بحكم الطابع العام الذي يميز مرضه، سيلاقي حتما بعض الصعوبات. لكي يعود الى الدور السابع عليه أن يحرك جهازا كاملا في منتهى التعقيد. ولو بمجهود قليل. فلا شك في أنه اذا لم يفتح فمه بالمطالبة، فلن يفكر أحد في نقله الى الدور السابع. دور الاصحاء تقريبا.
وقرر كورتي ألا يساوم في حقوقه، وألا يستسلم إلى إغراءات العادة. فكان يهتم جدًا بأن يوضح لزملائه في القسم، أنه مقيم بينهم لأيام قليلة، وأنه، هو وحده الذي رغب في النزول مجاملة لامرأة، وأنه سيعود إلى أعلى حالما شغر أول حجرة. وكان الآخرون يصغون إليه في غير اهتمام، وبوافقونه في اقتناع قليل.
وجد اقتناع كورتي تأكيدا تاما في أحكام الطبيب الجديد. فهو أيضا يعترف بأنه من الممكن جدا تحديد مكان كورتي بين نزلاء الدور السابع. فحالته -قطعا- حالة خفيفة. وكان يقطع كلمات هذا الحكم لكي يسبغ عليه أهمية خاصة. ولكنه في الحقيقة، يعتقد بأن الدور السادس أصلح لكورتي، حتى يحظى بعلاج أدق..
وفي هذه النقطة، تدخل المريض في حزم وإصرار قائلا:
– لا تبدأ بهذه الاساطير. لقد قررت أن مكاني هو الدور السابع.
وأريد أن أعود. قال الطبيب:
– إن أحدا لم يقرر عكس هذا الكلام. ولكني أردت بكلامي هذا، نصيحة بسيطة صادقة ليست من طبيب، ولكن من صديق الى صديق. وأكرر أن أعراضك خفيفة، وليس من المبالغة أن أقول إنك تكاد ألا تكون مصابا بأي مرض. ولكنه في رأيي يتميز عن حالات مشابهة بشيء من الانتشار، هل أنا واضح؟.. حدة المرض في حدودها الدنيا، ولكن إذا اعتبرنا الانتشار والاتساع، فإن التتابع التخريبي للخلايا، وهو على الإطلاق، في البداية، بل لعله لم يبدأ، ولكنه يميل، أقول يميل فقط، إلى إصابة مناطق واسعة من الجهاز. ولهذا فقط، حسب رأيي، يمكنك الحصول على علاج أنجع هنا. في الدور السادس، إذ أن الوسائل العلاجية أكثر دقة.
وفي أحد الايام، نقل إليه أن المدير العام للمصحة، قرر بعد التشاور الطويل مع مساعديه، إجراء تغيير في تقسيم المرضى. فقيمة كل واحد منهم ستنزل نصف درجة أي إنهم سيفترضون أن المرضى في كل دور سينقسمون إلى قسمين، حسب خطورة أحوالهم الصحية. (وهذا التقسيم سيقوم به الأطباء المختصون بقصد الاستعمال الداخلي).. ومن كانت حالته أسوا، في هذين النصفين، أنزل الى الدور الادنى. مثلا، سينقل إلى الدور الخامس نصف المرضى من نزلاء الدور السادس. ممن يشكون حالات أشد خطورة. أما الحالات البسيطة فتنقل من السابع إلى السادس.
وقد سر كورتي لهذا النبأ، إذ أن عودته إلى الدور السابع ستكون سهلة ويسيرة من خلال هذه التعقيدات الناشئة عن التنقلات. وحينها عبر عن أمله هذا للممرضة، كانت المفاجأة التي تدخرها له مريرة جدا. وعرف أنه سيزاح، ولكن ليس إلى السابع بل إلى الدور السفلى.
ولأسباب لا تستطيع أن تشرحها له الممرضة، فقد تقرر وضعه ضمن النصف الذي يعاني حالة خطيرة من نزلاء الدور السادس. وعلى ذلك ينبغي أن يهبط إلى الخامس. وكان كورتي يصغي الى هذه التبريرات بأعياء متزايد، بسبب الحرارة التي أخذت درجتها ترتفع في بدنه، مع المساء. وأدرك أخيرا أن قواه أخذت تخذله، وان ارادة التمرد على هذا الانتقال غير العادل قد أخذت تخبو، ودون أية احتجاجات أخرى انتفل الى الدور التالي.
وكانت التعزية الوحيدة -رغم بساطتها- التي تخالج نفسه هي إدراكه بأن إجماع الأطباء والممرضين والمرضى منعقد على انه أخف نزلاء القسم الخامس حالة مرضية، وفي ذلك الدور يمكنه أن يعتبر نفسه أكبر المحظوظين، ولكن من جهة أخرى كان يعذبه التفكير في أن حاجزين يفصلان بينه وبين عالم الناس العاديين..
ومع تقدم الربيع، أخذ الهواء يزداد فتورا. ولكن كورتي لم يعد يحب أن يطل من النافذة – كما كان يفعل في السابق – اذ أن خوفا مصحوبا برعشة، كان يستولي على كيانه حين يقع بصره على نوافذ الدور الأول، وهي في الغالب مقفلة. وقد اصبحت الان اكثر قربا منه. وبدت حالته المرضية ثابتة. وبعد ثلاثة أيام من الإقامة في الدور الخامس، ظهرت على ساقه بوادر من مرض الأكزيما. ولم يبد في الأيام التالية، ما يدل على اختفائها. وقال الطبيب إنها إصابة مستقلة كل الاستقلال عن مرضه الرئيسي، وهو مرض يمكن ان يتعرض له أسلم الأشخاص في العالم. وينبغي عليه لكي يحد من انتشارها، في أيام قليلة، أن يواصل العلاج بالأشعة.
وتساءل كورتي:
– ألا يمكن استعمال هذه الاشعة هنا؟
فأجاب الطبيب:
– بالتأكيد. إن مصحتنا مزودة بكل شيء. ولكن هناك ازعاج وحيد..
– ما هو؟
سأل كورتي وهو يتوقع شيئا غامضا، فتدارك الطبيب قائلا:
– أريد أن أقول أن أجهزة الاشعة مركبة فقط في الدور الرابع، وأنا لا أنصحك بالنزول ثلاث مرات في اليوم، ربما لا يلائم هذا صحتك.
– إذن؟
– إذن. يحسن بك – طالما كانت هذه الاعراض ثابتة – ان تذهب للإقامة في الدور الرابع.
فصرخ فيه كورتي قائلا:
– يكفي. لقد نزلت ما فيه الكفاية، أتريد أن يقضى علي في الرابع؟ لن أذهب.
– كما تريد.
قال ذلك الطبيب في هدوء خشية أن يثيره.
– ولكني كطبيب أسهر على علاجك، أمنعك من النزول والصعود ثلاث مرات في اليوم.
والقبيح في الامر، أن هذا المرض بدلا من ان يتوقف، او يخف أخذ في الانتشار تدريجيا بشكل ملحوظ. ولم يستطع كورتي أن يجد الهدوء الذي كان يبحث عنه، وظل يتقلب في الفراش، واستمر هكذا غاضبا حانقا ثلاثة أيام، ثم استسلم اخيرا. وطلب تلقائيا من الطبيب أن يمارس عليه العلاج بالأشعة، وأن ينتقل الى الدور التالي.
وهنا، في هذا الدور، لاحظ في سرور مكتوم، أنه يمثل استثناء فريدا. فمرضى القسم جميعا، يعانون حالات حادة. ولا يمكنهم مغادرة السرير، ولو دقيقة واحدة بينما كان هو يتمتع بامتياز الحركة على قدميه من حجرته الى قاعة الاشعة، بين مجاملات واستغراب الممرضات.
وحدد الطبيب الجديد، في إصرار، حالته المرضية الخاصة، فهو كمريض من حقه أن يكون في الدور السابع، بينما هو الان في الواقع ينزل في الرابع. وغنه ينوي إن يعود الى أعلى حالما تنطفئ الالتهابات الجلدية. ولن يقبل اي اعتذار أو تعليل جديد. فهو من حقه قانونيا أن يكون في الدور السابع.
وقال الطبيب الذي يعوده في استغراب:
– السابع! السابع. انكم دائما تبالغون أيها المرضى. إنني أنا الاول الذي أعلن اليك أنه ينبغي ان تكون مطمئنا إلى وضعك. فكما يبدو لي من الجدول الخاص، أم يطرأ أي تدهور كبير. ولكن، وأرجوك أن تعذرني على صراحتي القاسية، بين هذا الجدول، وبين الدور السابع خلاف. أعترف بأن حالتك لا تدعو كثيرا الى القلق، ولكنك مريض على كل حال.
قال کورتي، وقد احمر وجهه:
– إذن. في أي دور.. تضعني أنت؟
– آه.. يا إلهي. ليس من السهل الجزم بذلك. لم أزرك الا زيارة قصيرة، لكي أنطق بحكمي ينبغي أن أراقبك مدة اسبوع.
قال كورتي:
– حسنا.. ولكنك ستعرف بعد قليل.
ولكي يدخل الطبيب الاطمئنان على نفسه، تظاهر بأنه يتأمل ويفكر، وأخذ يهز رأسه في هيئة من يتحدث الى نفسه. ثم قال في هدوء:
– آه.. يا الهي. لكي أطمئنك، أقول أنه يمكننا أن نضعك في السادس. أجل.. أجل -وتابع كلامه محاولا اقناع نفسه- السادس يصلح لك.
كان الطبيب يعتقد إنه سيدخل السرور على قلب المريض بمثل هذا التصريح، بينما انتشرت على وجه كورتي تعابير الاستغراب. وادرك المريض أن أطباء الاقسام الاخرى قد خدعوه. وها هو الطبيب الجديد الذي يبدو أكثر خبرة، وأعمق إخلاصا، يقتنع في قرارة نفسه، ان مكانه ليس السابع، وإنما هو الخامس، بل أدنى من الدور الخامس. وأحس بالضيق من هذا الخِداع الذي لم يكن يتوقعه. وفي ذلك المساء ارتفعت حرارته بشكل محسوس.
كانت الإقامة في الدور الرابع من أسعد الفترات التي أمضاها كورتي منذ دخوله المستشفى، كما كانت أكثرها اطمئنانا. فشخصية الطبيب كانت لطيفة، بادية العطف والاهتمام. كان يمكث عنده ساعات طويلة يتجادلان حول مواضيع مختلفة، وكان كورتي يتحدث برغبة قوية، ويفتش عن مواضيع تتصل بحياته العادية كمحام، ورجل مجتمع. ويحاول أن يقنع نفسه بأنه ما يزال يهت لعالم الأعمال بأقوى الصلات، وانه مهتم بالوقائع العامة. كان يحاول ذلك، من غير توفيق. إذ أن الحديث على تنوعه كان ينتهي دائما الى الوقوف عند المرض. وأصبحت الرغبة في أي نوع من التحسن هوسا متسلطا على كورتي. واذا كانت الاشعة قد استطاعت ان تحد من انتشار مرضه الجلدي، إلا أنها لم تكن كافية للقضاء عليه. وكان كورتي يتحدث طويلا، كل يوم، مع الطبيب، ويجهد في أن يظهر قويا، في هذه الاحاديث، ويعمد الى المزاح في بعض الاحيان، ولکن دون أن یفلح.
قال للطبيب في أحد الايام:
– أخبرني يا دكتور.. كيف حال الدور التخريبية للأنسجة؟
فلامه الدكتور في لهجة مازحة:
– آه. ما أقبح هذه الكلمات! أين تعلمتها، إنها لا تليق. لا تليق فوق كل شيء بإنسان مريض. لا أريد أن أسمع منك أبدا مثل هذه الاحادیث.
فرد كورتي:
– حسنا، ولكنك بهذه الطريقة، لم تجبني.
فقال الدكتور في لطف:
– سوف أجيبك في الحال. إن الدورة التخريبية للأنسجة، رغبة في تكرار تعابيرك المفزعة، إنها في حالتك تمثل الحد الادنى. قطعا، الحد الأدنى. ولكني أصر على وصفه بأنه مرض عسير..
– عسير، تقصد إن مداه سيطول؟
– لا تنسب إلي ما لم أقل، أردت أن أقول أنه عسير. وعلى كل فإن تلك هي الصفة الغالية على جميع الحالات، حتى الإصابات الخفيفة غالبا ما تكون في حاجة الى علاج قوي وطويل.
– ولكن، أخبرني يا دكتور.. متى أستطيع أن أؤمل التحسن؟
– متى؟.. إن التكهن في مثل هذه الحالات شيء عسير. ولكن اسمع ٠.
وأضاف بعد وقفة تأملية:
– أرى أنك تنطوي على رغبه قوية وحقيقية في الشفاء. ولولا إني أخشى إغضابك، فهل تدرك بماذا أنصحك؟
– قل.. قل أيضا يا دكتور… وعلى كل حال، فإني أضع أمامك السؤال، في حدود واضحة جدا فلو فرضنا أنني جئت الى هذه المصحة، ولعلها أفضل مصحه، وأنا مصاب بهذا المرض ولو في أعراضه الخفيفة، وأنت تحدد لي تلقائيا، منذ اليوم الاول، منذ اليوم الأول، أتفهم؟ أحد الأدوار السفلى، فتضعني مباشرة في؟ الاول؟ (وأضاف هذه الكلمة الاخيرة، وهو يحاول ان يستدرج الطبيب اليها).
فأجابه الطبيب مازحا:
– كلا.. الدور الأول.. كلا، هذا لا يمكن… ولكن الثالث أو حتى الثاني بالتأكيد. إن العناية في الأدوار السفلى أحسن. اني اضمنها. الأجهزة اتم وأقوى. والموظفون أكثر خبرة. أنت تعرف أن روح هذا المستشفى هو..
– أليس البروفسور داتي؟
– أجل. البروفسور داتي. إنه مكتشف العلاج الذي يمارس هنا. وهو مصمم هذه الأجهزة بكاملها. وهو على أستاذيته إنما يقيم بين الأول والثاني، ومن هناك تشع قوته التوجيهية. ولكني أؤكد لك أن تأثيره لا يصل الى أبعد من الدور الثالث. أما أبعد من ذلك فان أوامره تصغر، تفقد ارتباطها بشخصيته وتحرف عن الخط المرسوم. أن قلب المستشفى تحت. وهناك يجب ان تبقى لكى تحصل على علاج أحسن.
قال كورتي في صوت مرتجف:
– الخلاصة إنك تنصحني..
وتابع الدكتور كلامه في غير خوف:
– أضف الى ذلك شيئا آخر. انه في حالتك ينبغي الحذر أيضا من هذا المرض الجلدي. أقرك على إنه شيء لا أهمية له. ولكنه مزعج، وقد يضعف فواك المعنوية مع طول الزمن. وأنت تعرف مدى أهمية الراحة النفسية في تحقيق العلاج. ان استخدامي للأشعة في علاجك كان نصف شهر، والسبب؟ ربما كان ذلك نتيجة صدفة خالصة، أو من المحتمل أن تكون الاشعة غير حادة. ومع ذلك، فآلات الاشعة في الدور الثالث قوية جدا.. واحتمالات الشفاء من الاكزيما ستكون أعظم. ثم تأمل، أنه متى تم توجيه الشفاء، فقد انتهت الخطوة الصعبة. عندما تأخذ في الصعود، يصعب ان تعود الى الوراء. وعندما شعر حقا بالتحسن، فلن يحول حائل دون صعودك الينا هنا، أو الى أعلى منا، حسب استحقاقاتك، حتى الخامس، والسادس، بل أقول حتى السابع.. – ولكن، هل تعتقد: هذا سوف يعجل في العلاج؟
– ليس هناك شك. لقد قلت لك ماذا أفعل لو كنت في وضعك.
أحاديث من هذا النوع، كان يرددها الطبيب يوميا على كورتي. وأخيرا جاء الزمن الذي اصبح فيه المريض متضايقا من الام الاكزيما. فقر أن يتبع نصائح الطبيب وينتقل الى الدور الثالث، رغم مقاومته الغريزية للنزول.
ولاحظ في الحال، أن نوعا خاصا من المرح يسود الدور الثالث سواء بين الاطباء والممرضات، رغم ان حالات المرضى الذين يعالجون هناك تبعث على القلق الكثير. بل انه أدرك ان هذا الانشراح قد أخذ يتزايد من يوم الى اخر، فدفعه الفضول، بعد ان تعرف على بعض الممرضات، الى ان يسألها عن السبب في هذا المرح الذي يشمل الجميع.
أجابت الممرضة:
– آه.. ألم تعرف؟ بعد ثلاثة أيام سوف نذهب في إجازة.
– كيف.. نذهب في إجازة..!
– نعم. خمسة عشر يوما. سيغلق الدور الثالث، وسيخرج الموظفون للإجازة. ان الاستراحة هنا تقع بالتناوب بين الأدوار.
– والمرضى.. ماذا تفعلون بهم؟
– حيث أن العدد قليل نسبيا، فسنصنع من الدورين دورا واحدا.
– كيف؟ أتجمعون مرضى الثالث والرابع؟
فأسرعت الممرضة تصحح:
– كلا.. كلا. من الثالث والثاني. المقيمون هنا ينزلون الى الدور التالي.
فقال، وقد ارتسم على وجهه شحوب بشبه شحوب الموتى:
– ننزل إلى الثاني؟.. أنا أنزل الى الثاني؟
– مؤكد. وماذا في ذلك من غرابة؟ عندما نعود، بعد خمسة عشر يوما، ستعود أنت الى هذه الحجرة. لا يبدو لي أن هناك ما يفزع.
وهاجم كورتى خوف عنيد، ولكنه حين أدرك أنه ليس في إمكانه إيقاف الموظفين عن الاجازة، واقتنع بان العلاج الجديد بالأشعة الحادة، قد أثر عليه تأثيرا طيبا وان المرض الجادي يكاد يجف تماما، لم يجسر على اثارة اعتراضك شكلية ضد النقل الجديد. رغب فقط –غير مهتم بتهكم الممرضات- أن تعلق على باب غرفته الجديدة، لافتة كتب عليها (جيوسيبي كورتي.. من الدور الثالث – إقامة عابرة). حدث كهذا لم يكن له نظير في تاريخ المصحة. ولكن الاطباء لم يعارضوا مدركين أن من كان في حالة عصبية كحالة كورتي فان أقل مقاومة تسبب له هزة خطيرة. وكان عليه أن ينتظر خمسة عشر يوما بلا زيادة ولا نقصان. وأخذ كورتي يعد الأيام في بخل عنيد، ماكثا الساعات الطويلة في فراشه، وعيناه تحدقان في الاثاث. وهو في الدور الثاني أقل جدة وانشراحا من الادوار العليا، ولكنه يحتل امتدادات أكبر، وتحمل خطوطه طابع الابهة والجهامة.
وكان يرهف السمع من حين الى اخر.. اذ يخيل اليه انه يصغي الى صدى حشرجات غامضة، في النزع الاخير، ثانية من الدور الاول، دور المحتضرين، دور المحكوم عليهم بمغادرة هذا العالم.
وبالطبع، فقد كان كل ذلك يساهم في توهين عزمه. فالاطمئنان القليل كان يضاعف المرض، ودرجة الحرارة تتجه الى الارتفاع، والاعياء العام يزداد عمقا. ومن النافذة – كان ذلك في عز الصيف، والزجاج يظل دائما مفتوحا – لم يعد يشاهد سقوف المنازل، ولا يرى الا السور الاخضر من الاشجار التي تحيط بالمستشفى.
وبعد سبعة أيام، وفي إحدى الأمسيات، عند الساعة الثانية، دخل عليه فجأة رئيس الممرضين، وثلاثة ممرضين يدفعون سريرا متنقلا، وسأله رئيس الممرضين في لهجة من الدعابة الطيبة:
– هل نحن مستعدون للانتقال؟
سأل كورتي في لهجة مجهدة:
– أي انتقال؟ ما هذه المهازل الجديدة؟.٠.! ألا يعود بعد سبعة أيام، جماعة الدور الثالث؟
فاستفسر رئيس الممرضين، كما لو كان لا يفهم شيئا: (أي دور ثالث؟ لقد تلقيت التعليمات بأن أقودك الى الأول. انظر هنا) وأطلعه على استمارة مطبوعة، خاصة بنقله إلى الدور الاول، موقع عليها من البروفسور داتي نفسه.
وانفجر الرعب، والغضب الجهنمي، في صرخات طويلة، تردد صداها في أرجاء القسم. وأخذ الممرضون يلتمسون منه الهدوء.. (مهلا.. مهلا.. من فضلك. أن هناك مرضى في حالة سيئة) ولكن هيهات.
وأخيرا هرع اليه الطبيب الذي يدير القسم، وكان شخصا لطيفا ومهذبا واستفهم عن الامر، وراجع الاستمارات. ثم اخذ يوضح لكورتي، ثم التفت الى رئيس الممرضين في غضب، معلنا أن هناك خطأ محققا، وانه لم يصدر تعليمات من هذا النوع، وانه منذ زمن قد اصبحت تسود المستشفى فوضى لا تطاق، وانه قد أخفى عليه كل شيء. وأخيرا..
أملى تعليماته غلى الموظف، واتجه الى المريض يعتذر اليه في عمق وبلهجة لطيفة، ثم أضاف قائلا:
– من المؤسف أن البروفسور داتي، قد سافر منذ ساعة، في إجازة قصيرة، ولن يعود إلا بعد يومين تقريبا. انني متأسف، ولكن أوامره لا يمكن أن تتجاوز، سوف يكون البروفسور أول من يأنف لهذا الحدث، أؤكد لك أنني لا أستطيع ان أفهم كيف يقع خطأ من هذا النوع.
وانتابته رعشة محزنة أخذت نهزه، ونخلت عنه قدرة السيطرة على نفسه، وإحاله الرعب الى طفل صغير، وکان نحيبه بتردد هادنا يائسا، في أركان الحجرة:
وهكذا، وصل بسبب ذلك الخطأ الى المحطة الاخيرة، الى قسم المحتضرين، وهو الذي يملك الحق بأن يكون في الدور السادس بحكم طبيعة مرضه، وبحكم شهادة أكثر الاطباء تشددا وصرامة.. هذا ان لم يكن في الدور السابع.
وأصبحت حالته غريبة، حتى أنه كان يحس في بعض الأوقات، رغبة في البكاء، دون تحفظ. كان مضجعا على الفراش، بينما كان المساء الصيفي الحار يمر ببطء فوق المدينة الكبيرة. وكان يتأمل اخضرار الاشجار، من خلال النافذة، وفي نفسه انطباع بانه قد بلغ عالما غير حقيقي، صنع من جدران سخيفة، وأحجار عقيمة، ومن وجوه بشربة بيضاء خالية من الروح. وطاف بذهنه، ان الاشجار التي يلمحها من خلال النافذة، ليست حقيقية، بل انتهى الى الاقتناع بذلك، وهو يلاحظ ان اوراقها لا تتحرك على الاطلاق.
وأقلقته هذه الفكرة، فضغط على الجرس، ودعا الممرضة، وطلب منها أن تقدم اليه نظارته الطبية التي لا يستعملها في العادة، عندما يكون في الفراش. وحينذاك فقط استطاع ان يرتاح قليلا، وبمساعدة العدسات استطاع ان يتأكد إنها اشجار حقيقية، وان الاوراق كانت تتحرك مع الريح، ولو انها كانت حركة خفيفة.
وحين خرجت الممرضة، أمضى ربع ساعة في صمت تام.. سبعة أدوار.. سبعة أدوار خطيرة – ولو ان ذلك بسبب خطأ شكلي – تقع بوطأتها كلها فوق كاهله. كم من الاعوام؟. أجل. ينبغي ان يفكر في الأعوام. بعد كم من الاعوام يمكنه ان يصعد الى حافة تلك الهاوية؟.
ولكن كيف أظلمت الحجرة في عينيه على حين غرة، والوقت ما يزال في عز الظهيرة؟
وبمجهود فائق، نظر (كورتي) الساعة التي تقع الى جوار سريره، فوق دولاب صغير، كانت الثالثة والنصف. وأدار رأسه الى الجهة الاخرى، فرأى الستار الخشبي يهبط على النافذة تدريجيا، كأنما ينصاع لأوامر خفية، لكي يسد منافذ النور.
البيضاء – ليبيا
مجلة الآداب | رقم العدد: 8، 01 أغسطس 1963م.