قراءة في نص القفص الأسود/ سمية أبوبكر كوري
مقدمة
في صخب الحياة وتقلباتها، تطل علينا بين الفينة والأخرى، أصواتٌ نسائيةٌ تهمس بالوجع وتعلن عن قوة كامنة، أصواتٌ تحمل في طياتها قصصًا من الصمود والتحدي. لكن، قبل الخوض في هذه القصص، لا يمكن إغفال واقع مؤلم يطال مجتمعاتنا، ألا وهو مشكلة الطلاق. نهاية لعلاقة زوجية، وزلزال يهز أركان الأسرة، ويترك وراءه آثارًا نفسية واجتماعية عميقة. المسؤولية عن هذا الخطأ لا تقع على عاتق طرف واحد، بل هي قضية مشتركة يتحمل فيها الرجل والمرأة معًا تبعات قراراتهما. فلكل منهما دور في بناء العلاقة وفي إنهائها، وإن كان لكل منهما نصيب من الألم الناتج عن هذا التجربة. في هذا السياق، يطل علينا صوت الشاعرة “سمية كوري” في نص نثري يحمل عنوان “القفص الأسود“، ينبض بالحياة، ويكشف عن جراح امرأة محاربة في زمن التخلي. نصٌ يجسد لحظة تحول، ولحظة اعتراف، ولحظة انطلاق نحو الذات. في هذا المقال، سنتناول هذا النص الأدبي، ونحلل دلالاته، ونستكشف ما بين سطوره من معانٍ عميقة، آخذين بعين الاعتبار تلك الصرخة التي تتردد بين ثناياه، والتي تثير فينا تساؤلاً مشروعاً: لماذا لم تجد المرأة رجالاً “حقيقيين” في طريقها، وهل كان هذا فقط تعميم أم تعبير عن تجربة قاسية؟
النص
وَلِأَنِّي اِمْرَأَةٌ مُحَارِبَةٌ، فَلَمْ أَلْتَقِ سِوَى الجُبَنَاءِ وَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ فِي طَرِيقِي!
فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنِّي، وَالاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ فَضِيلَةٌ، فَخَطِيئَتِي أَنَّنِي قَبِلْتُ أَنْ أَكُونَ نِصْفاً لِرَجُلٍ!
لَسْتُ كَامِلَةً إِطْلَاقاً، وَلَسْتُ مِنَ اللَّاتِي يَدَّعِينَ الْمِثَالِيَّةَ، أَنَا أَبْسَطُ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِحْوَرَ حَدِيثِ أَحَدِهِمْ، مَا يُمَيِّزُنِي عَنْ غَيْرِي أَنَّنِي امْرَأَةٌ كَاتِبَةٌ، أَكْتُبُ عَنْ كُلِّ خَيْبَةِ أَمَلٍ بَدَلاً مِنَ الشَّكْوَى لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَعَاطَفُوا مَعَ قَضِيَّتِي، أَنَا لَسْتُ إِنَاءً فَارِغاً!
وَاليَوْمَ وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِي فَشِلْتُ فِي دَوْرٍ مِنْ أَدْوَارِ الحَيَاةِ، فَشِلْتُ لِأَنِّي أَعْطَيْتُ لِنَفْسِي الصَّلَاحِيَةَ بِالاسْتِمْرَارِيَّةِ، مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ كَانَتْ كُلُّ الْمُؤَشِّرَاتِ تُشِيرُ أَنَّ الاسْتِمْرَارَ فِي هَذِهِ العَلَاقَةِ لِمَوْتٍ مُفَاجِئٍ، وَإِنَّ عَوَاقِبَهَا وَآثَارَهَا سَتَظْهَرُ رُوَيْداً رُوَيْدا
وَالآنَ أَنَا مُطَلَّقَةٌ، سَأَضَعُ اللَّوْمَ عَلَيَّ بِأَيِّ شَكْلٍ كَانَ، سَأَقُولُ لِقَلْبِي ذُقْ يَا قَلْبَ مَا صَنَعَتْ يَدَاكَ، وَلَا تَرْمِي اللَّوْمَ عَلَى الظُّرُوفِ، فَكُلُّ البِدَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ الفَاجِعَةِ أَمْرٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ.
أَعْلَمُ جَيِّداً وَأَتَفَهَّمُ خَوْفَكَ مِنَ الْمُجْتَمَعِ وَشَمَّاعَةِ مُصْطَلَحِ الْمُطَلَّقَةِ وَسَطَ هَذَا الزَّيْفِ وَالغُمُوضِ، أَتَفَهَّمُ جِدَّاً طَبِيعَةَ مَشَاعِرِنَا نَحْنُ النِّسَاءَ، وَكَيْفَ سَنَخَافُ مِنَ المُحِيطِ مِنَ الوَهْلَةِ الأُولَى كَوْنُكِ فَشِلْتِ فِي أَمْرٍ مَا.
مَعَ ذَلِكَ المَرْأَةُ السَّجِينَةُ لَا تَنْدُبُ نَفْسَهَا، لِلْخُرُوجِ مِنْ أَسْرِهَا. فَهِيَ مُطَلَّقَةٌ وَحُرَّةٌ مِنْ قُيُودِ شَخْصٍ لَمْ يُعِرْهَا انْتِبَاهَاً
التحليل
بعد أن استمعنا إلى صرخة المرأة في أبيات النص الذي يحمل عنوان “القفص الأسود”، لتصف لنا جوهر شخصيتها كامرأة محاربة تواجه الحياة بكل ما فيها من تحديات. هذا النص النثري هو بمثابة شهادة شخصية، تتضمن لحظات من الاعتراف والتحول والانطلاق نحو الذات، والخروج من ذلك “القفص الأسود” الذي كانت تعيش فيه.
يبدأ النص بتوكيدٍ صارخ على هويتها كامرأة محاربة، مؤكدةً أن الاعتراف بالذنب فضيلة، وأن خطيئتها كانت في قبولها أن تكون نصفاً لرجل. هذه الكلمات تحمل في طياتها اعترافًا عميقًا بأنها أخطأت حينما قبلت أن تكون تابعة، وأن قيمتها الذاتية لا تكتمل إلا باكتمالها هي كإنسانة مستقلة. ويبدو أن المرأة في هذا النص تعبر عن رغبة عميقة في التحرر من قيود الماضي ومن أي علاقة قد تنتقص من قيمتها، والخروج من ذلك “القفص” الذي يرمز إلى القيود التي كبلتها.
ثم تنتقل الأبيات بعد ذلك إلى وصف ذاتها بتواضعٍ جم، مؤكدةً أنها ليست كاملة، ولا تدعي المثالية، بل تعترف ببساطتها كإنسانة تخطئ وتتعلم. ثم تكشف عن سر تميزها ككاتبة تعبر عن خيباتها بالكتابة بدلاً من الشكوى، مؤكدةً أنها ليست إناءً فارغاً، بل مليئة بالقوة والقدرة على التعبير.
تتوج هذه اللحظات الصادقة باعترافٍ مؤلم، إذ تقر بأنها، ولأول مرة في مسيرتها الحياتية، واجهت عثرة في أحد أدوارها الأساسية، فقد منحت نفسها الإذن بالاستمرار في طريق كان محكوماً عليه بالفشل. هذا الاعتراف، وإن بدا متواضعاً للوهلة الأولى، إلا أنه يحمل في طياته شيئًا من الغرور الخفي. فقولها: “وَاليَوْمَ وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِي فَشِلْتُ”، يوحي بأنها لم تختبر الفشل من قبل، وكأنها بمنأى عن عثرات الحياة، وهو ما يتناقض مع طبيعة الحياة التي يمر فيها الإنسان بالعديد من المحطات التي يتعثر فيها ويفشل. ربما لم تنتبه المرأة إلى هذا الجانب في نصها، إلا أن الكلمات قد كشفت عن رؤية الذات التي قد تتجاوز حدود الواقعية. هذا يدعونا للتساؤل: هل كانت المرأة حقاً محصنة ضد الفشل طوال حياتها؟ أم أن التجربة المريرة للطلاق جعلتها تنظر إلى نفسها من زاوية مختلفة، وتعتبر هذه المحطة بالذات أول فشل حقيقي لها؟
وها هي اليوم، تقف بشجاعةٍ أمام حقيقة واقعها الجديد، معلنةً أنها مطلقة، وأنها ستتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور. هنا يتجلى لنا وعيها العميق بحقيقة أن بعض العلاقات لا بد لها من نهاية، وأن إلقاء اللوم على الآخرين لن يغير من الأمر شيئًا. بل إن الأهم هو تحمل المسؤولية ومواجهة الألم بصدر رحب. وتختتم المرأة نصها بكلمات تعكس تعاطفها مع ذاتها ومع كل امرأة مطلقة، مؤكدةً أنها تتفهم خوفهن من المجتمع، وأن المطلقة ليست سجينة، بل هي حرة من قيود شخص لم يقدرها.
ولكن، بالعودة إلى بداية النص، تتردد في أذهاننا كلمات المرأة حين قالت: “فَلَمْ أَلْتَقِ سِوَى الجُبَنَاءِ وَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ فِي طَرِيقِي!”. هذا التعبير القوي، الذي تفتتح به الشاعرة نصها، يطرح تساؤلاً هامًا. ككاتب منتمي إلى جنس الرجال، أتساءل: هل كان هذا التوصيف مجرد رد فعل عاطفي ناتج عن ألم التجربة، أم أنه يعكس حقيقة مؤلمة عن تجاربها مع الرجال؟ وهل يمكن اعتبار هذه الكلمات بمثابة اتهام موجه لفئة معينة، أم أنها دعوة للتأمل في معاني الرجولة الحقيقية في مجتمعاتنا؟ هذه التساؤلات تظل مفتوحة، وربما هي دعوة من المرأة لنا جميعًا للتفكير بعمق في هذا الموضوع، وفي القيود التي تفرضها علينا العلاقات الإنسانية، والتي قد تتحول إلى “قفص أسود” يقيد حريتنا.
وقولها ” أَنَّ الاسْتِمْرَارَ فِي هَذِهِ العَلَاقَةِ لِمَوْتٍ مُفَاجِئٍ”، يحمل معنىً قويًا ومؤلمًا. يبين لنا أن العلاقة تحمل في طياتها عوامل مدمرة ستؤدي حتمًا إلى انهيارها بشكل غير متوقع ومؤلم للطرفين. وهي تحذر من الاستمرار في علاقة سامة أو غير صحية، حيث أن الاستمرار فيها سيؤدي إلى نتائج وخيمة.
حملت على عاتقها عبء علاقةٍ لم تُكتَب لها الحياة. خذلتها أحلامها الوردية، لتجد نفسها وحيدةً في ساحةِ معركةٍ خاسرة. ” وَحُرَّةٌ مِنْ قُيُودِ شَخْصٍ لَمْ يُعِرْهَا انْتِبَاهَاً”، ولا يكترث لأحاسيسها المتدفقة نحوه كالنهر. تجاهل كل إشارات الحب والاهتمام التي أرسلتها إليه، فزرع في قلبها بذور الخيبة والألم. ومن جهة أخرى لم تستطع رؤية العطب فيها، بل رأتْ فيه سبب كل هذا الشتات. هو من أهمل، هو من قسا، هو من تركها تتخبط في بحر الوحدة. رسمت لنفسها صورة الضحية، القوية المستقلة التي تحملت كل شيء بصبرٍ وجَلَد.
لكن، في أعماقها، تخفي حقيقةً مؤلمة. حقيقة أنها لم تنظر يومًا إلى المرآة لتسأل نفسها: “أين كان دوري في هذا الفشل؟”. استسهلت إلقاء اللوم كله عليه، وتجاهلت نصيبها من المسؤولية. ربما فعلت ذلك لحماية نفسها من الاعتراف بالضعف، أو ربما لعدم قدرتها على مواجهة حقيقة أن العلاقة لم تكن مثالية من جانبها أيضًا.
تصرّ على البقاء حرةً من قيود شخصٍ لم يقدرها، لكنها لا تزال أسيرةً لفكرة أنها المظلومة الوحيدة في هذه القصة. فمتى ستتحرر حقًا، وتعترف بدورها في هذه النهاية المؤلمة؟ ومتى ستنظر إلى الداخل، لتبدأ رحلة التعافي الحقيقي؟
خاتمة
في هذا النص، “القفص الأسود”، تقدم لنا الشاعرة “سمية كوري” شهادة حية عن قوة المرأة وقدرتها على تجاوز الألم والنهوض من جديد. من قصة شخصية، إلى صرخة في وجه مجتمع؛ لا يزال يرى في المرأة نصفًا، وتذكير بأن الحرية الحقيقية تكمن في الاعتراف بالذات والتحرر من القيود. هذا النص الأدبي سيظل شاهدًا على قوة الكلمة وقدرتها على التعبير عن أعمق المشاعر وأصدق التجارب الإنسانية. هذا النص، أرى فيه صرخة مدوية لكل امرأة عاشت تجربة مماثلة، وتأكيداً على أن القوة الحقيقية تكمن في الاعتراف بالذات، وتحمل المسؤولية، والانطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقًا، والتحرر من أي “قفص أسود” يحاول تقييدها.
الأحد، 16 شباط، 2025