تجارب

زيغنيات (2)

صورة قديمة للدكتور عبدالقادر الفيتوري في الزيغن
صورة قديمة للدكتور عبدالقادر الفيتوري في الزيغن

في قرية نائية بالجنوب الليبي ، صحراء فزان، اسمها “الزيغن”، تفتحت عيني على الكون والحياة.. الزيغن حيث ولدت، واحة الجذور، اكواخ الطين والقش متقاربة، ودروب وأزقة ضيقة ملتوية، اشبه ببيت النمل، ضنك العيش والعوز لا يستثني احد منهم، واناس تغالب الوجع بابتسامة باهتة.

الزيغن، واحات فزان، أحضان الصحراء، محط التقاء القوافل العابرة للصحراء العابرة شمال جنوب، غرب شرق، “الزيغن، سمنو، تمنهنت”، قرى وادي البوانيس، تحفه ديان الشاطئ، مرزق، زويلة، تمسة،، أشكده، قيره، براك، الثغر الشرقي لوادي الشاطي، مدينة سبها حاضرة الإقليم الثغر الجنوبي،  واحات الجفرة، هون، ودان، سوكنه، زلة، الثغر الشمالي، تواصل مع كل هذه المناطق المترامية أشبه ما يكون بـ “بوابة الصحراء” أو بداية الطريق إلى الجنوب حيث فزان وبلاد السودان (أفريقيا السمراء).

في واحة الزيغن، القرية تتوسط غابات النخيل التي تنتشر على مساحات شاسعة وممتدة الى مئات السنين، حيث شكل التمر إلى جانب الحبوب الغذاء الرئيسي والطابع المميز للنشاط الاقتصادي، إضافة إلى الرعي الذي تيسر مهمته توافر الكلأ من عشب العقول والضمران التي تغطي هي الأخرى مساحات مناسبة للرعي، وإن لم تكن تثني الأهالي عن التوجه شمالاً نحو مناطق سرت والهاروج في حالات الندرة، لنفس المهمة، ولمهمة المقايضة بمنتجات تلك المناطق.

بين الصخور والكتل الجبلية ذات اللون الأسود الغالب، والتي تهدي لك بين الحين والأخر تحفة من المتحجرات النباتية أو الحيوانية، وبين الكثبان الرملية التي هي أشبه بالأمواج وقد توقفت في بحر الرمال، ترى همساً يؤيد الفرضية القائلة بأن رمل الصحراء من إنتاج البحر. ومهما كان أكيداً أن الماء قد أوجد الكثبان في الصحراء، فإنه أكيدا أيضا أن الرياح هي التي منحتها شكلها الخارجي ومنحتها لقبها، عرق – سيف – خشم.

بين هذا وذاك، وحيث لا يبقى لك إلا الصوت البعيد للأشياء غير المحدودة، تقف شجرة النخيل، هبة الطبيعة للحياة في الصحراء، تصارع قسوة الطبيعة لترسم دورة التناغم بين الحياة والموت، في لوحة ربانية رائعة الجمال، يملؤها الوفاق والتنافر، فاللون الأخضر لون الأمل والحياة في طلع النخيل يداعب كثبان الرمال وقفر الماء.

حواضر الصحراء، البراري المقفرة.. البراري الممتدة،  تبعث السكينة في النفس، والرغبة لأن تنعم من الصحراء بتلك الخلوة التي تحرر الذاكرة من ضغط الشعور بأشياء العالم، فلا شيء أكثر وقعاً في النفس من ذلك الصمت الذي يغلف الصحراء. حقاً، إذا كانت الدهشة أول المعرفة فالصحراء الدهشة بعينها.

عمر السادسة نذهب إلى المدرسة صباحا، وفي المساء عادة ما نكلف برعي الماشية (الغنم)، هناك بالمزرعة القزمية طرف الواحة، وبواقي الحصيد، وفي البراح وفرة عشبة العقول الصحراوية.

البدايات، الستينات، مدرسة من فصل واحد وحجرتين ادارة ومخزن، ومع تزايد عدد الطلبة، عند باب البر احد ابواب القرية، بيت طيني، كنت بالصف الثاني الابتدائي ، صارت المدرسة جوار بيتنا، فترة الاستراحة ضمنا اذا سمعت امي عركة عويله، ادير طله بركن عين عند الباب، الابن الثاني في الصف الثاني، الاساتذة، عبداللطيف الصادي من زله،.الهادى اعريبى من زليتن،  قديح  من برقن، السائح، الزروق التيتيوي من ودان الجفرة، يوسف من زواره،  صالح الرياني من الرياينه، احمد جابر من سوكنه. الخ.

المحضرة جوار المسجد العتيق، تحفيظ القرآن، وعند اذان العصر، “سلم سيدي سرحنا.. حط اعظامك في الجنة “، قيلولة صيف فزان ، قسوة الشمس الحارقة هي كل شيء، عصبية المعلم “الفقيه” وتعكر مزاجه، تفضي الى عقاب الجماعي، “الفلقة” ، شد الحبل عند كاحل القدم بأمر الفقيه، زملائك يتولون المهمة، تدوير العصا بقوة. إحكام القبضة كي تتهيأ صفحة باطن الرجل بشكل أفضل، ضربات عصا الفقيه، تتألم بما يكفي،  تعتاد الامر، كنت أتلكأ في الذهاب.

يملى الفقيه آيات قرآنية، ترتيب الحفظ ، سورة تلو اخرى، ندونها على صفح اللوح، أفضل الألواح ما كان مصنوعا من جذوع شجر الزيتون، قوي وأملس السطح، سهل المحو، خفيف النقلة، الطين الأبيض ممحاة، وفي حضرة الفقيه، تسميع وعرض، “عرض على الفقيه وأجازه”، عندها يؤذن لك بمحو ما خططت وحفظت،  قليل من الماء وتدليك لسطح اللوح، مسح وسوم، ويتوهج صدر اللوح بياضا ناصعا، نتركه لمدة ربع ساعة عرضة للشمس ، استعداد للجلوس ثانية في حضرة الفقيه، وإملاء آيات قرآنية جديدة تلي ما كنا قد حفظنا عن ظهر قلب وإقرار الفقيه له.

الطين الابيض، الصمغ حبر الكتابة، اللوح ، أدواتنا ، مقلع الطين الأبيض طرف الواحة “طين رباب”، نحضر ما يلزمنا لمحو اللوح، عيدان القصب أقلامنا وريشة الكتابة ، الترشيم لتلاميذ مبتدئين لم يجيدوا بعد كتابة الأحرف والكلمات، ظلف ريشة قصب متينة، يكتب الفقيه على صدر اللوح الناصح بطريق الحفر في الطين، التلميذ يتتبع بصمات خط الفقيه، إلى أن يتعود مع الزمن على الكتابة بالإملاء الشفهي.

حبر الكتابة نصنعه بأيدينا، تختلف مهارات التلاميذ في إتقان جودته ونصاعة سواده، نجمع الودح، عبس الأغنام العالق بأهداب الصوف، مع قليل من الماء، نتركه يغلي لمدة طويلة، نضيف قطرات ماء كلما شح الإناء، مخلفات عوادم تنك او فخار، ننتظر أكثر لحبر أفضل.

مدرس بالمساء يتمشى ببراح الواحة او شوارع القرية، يهرع التلاميذ للاختباء، بؤس الحظ أن يأتي تلميذ في اليوم التالي ولم يكمل واجباته المدرسية، ويكون المدرس قد لاحظ انغماسه باللعب بالشارع.

بالمدرسة، كل شيء مجاني، الكتاب، الكراسة، علب التلوين والرسم، الحبر، ريشة الكتابة “بينه”، بداية اليوم الدراسي، المشرف يتفحص المحابر، تلميذان ومقعد خشبي، أمام كل واحد منهما “محبرة”، إناء صغير من الخزف به فتحة أعلاه لولوج ريشة الكتابة، مثبت بخرم سطح المقعد، حذار أن تغمس الريشة بالمحبرة دون أن تنفض زوائد الحبر عنها قبل ملامستها الورقة،  كثيرا ما لطخنا الكراسي، وملابسنا، وكراسات الكتابة.

“البشماط” خبز جاف تقدمه إدارة التغذية المدرسية بوزارة المعارف لتلاميذ المدارس بالمناطق النائية، لا وجود لمخابز عامة، مع قليل من سمك التونة المعلب، او الحلوى الشامية، إفطار التلميذ ساعة الاستراحة، مرتين بالأسبوع تأتي سيارة الخبز من سبها يقودها “العكشي”.

مقالات ذات علاقة

تجربتي الشعرية باللغة الأمازيغية: من الكتابة إلى الترجمة والأغاني العالمية

صلاح انقاب

علاقة ود قديم

سعيد العريبي

كتاب: حيوات العرب لا ينصف العرب

سعيد العريبي

اترك تعليق