عندما طرح الكاتب والكشفي الأستاذ «يسري بن يعلى» سؤالًا مهمًا في بداية كتابه(رحلات وحكايات ).. لماذا نسافر؟
كأنه من تقاليد الكتابة أن نفتح أمام القارئ نافذة للاكتشاف ما ورائها، والإفصاح عن كل ما يحمله من أسرار ،ليس الركّن على الذاكرة المعرفية فقط، أو ما يخزنه العقل في فترات سابقة، بل أيضًا رصد ما هو موجود والاطلاع على ثقافات جديدة أيضًا، فقارئ التاريخ بقراء الواقع أيضًا، والمصور لا يحمل أرشيفًا بعينه للماضي بل للحاضر أيضًا كي يحدث التناغم في السرد البصري الذي يمكن القارئ من الاستقاء المعرفي المتواصل عبر مراحل متعددة وتنوع يتيحه الراصد ليحمل معه فسيفساء غنية تجعل من المتلقي شغوفًا في أن يضم معارفه التاريخية إلى الجغرافيا حيث يجد هناك مفاهيم أخرى يضمنها في ذاكرته، حاملاً أداته التي سجل بواسطتها شواهده وإجابات أسئلته المتعددة.
أعطى الكاتب «جمعة بوكليب» في مقدمة الكتاب تعريفًا للسفر في لغة الاقتصاد بأنه استثمار تنموي في الذات الإنسانية بهدف توسيع المدارك وفتح الآفاق لتعميق معرفة المرء بنفسه واكتشاف ذاته.. هناك تعريفات كثيرة للسفر بما فيها من فوائد واستثمار حقيقي للذات والكسب، وأن يسري اختار أن يبدأ بنقل مشاهداته وتجاربه من مدن أوروبية زارها، التي كانت أقرب إلى التقرير الصحفي، واعدًا القراء بأن يتبع هذا الكتاب التقرير الصحفي المصور نصفه بلغة الصحافة والمهنة، أحد فنون العمل التي تسعى لتحقيق العديد من الوظائف والأهداف سواء كان ذلك بالنسبة للمؤسسة الإعلامية أو المتلقي. والتي تكون ذات كفاءة عالية باعتمادها بشكل كبير على “الريبورتاجات” المستخدمة، فهو يجيب عن تساؤلات المشاهد: ماذا حدث؟ ما هي التطورات الأخيرة لما حدث؟ ما هي خلفيات القصة التي أدت إلى هذه التطورات؟ ،لماذا يُعتبر ما حدث مهمًا؟ وما الذي يعنيني من كل ذلك؟ تقديم إجابات عن تلك الأسئلة ونقلها إلى المشاهد بطريقة سهلة وجذابة. فعندما نراه مكتوبًا ويُقدم كعمل متكامل يتصف بالمهنية العالية في رصد كل ما هو مرئي مضمن بمعارف وقصص من عين المكان، حتماً نطلق عليه أرشيفًا مصورًا للذاكرة البصرية في عالم الإعلام.
إن طرح الأسئلة وتحديد مسارات الكتابة بعد التحصن بخلفيات معلوماتية جيدة وقراءات تجعل من العقل أن يضع استفهامات ورصدًا أكثر للواقع. ما فعله كتّاب أدب الرحالات من تسجيل لالتقاطاتهم المتعددة أمر دعى من لديه شغف بتدوين مشاهداته في أماكن زارها.
في العرف الصحفي نقوم بجلب المعلومة من مصادرها ولا نسمح – نحن المسؤولين – بغير ذلك، حتى أننا نقف أمام لوحات التحكم الإلكترونية في إمكانية النشر من عدمه كي نقدم حقيقة غير قابلة للشك أو التظليل أو التمويه الخبري والمعلوماتي. وحريصين أن نقوم بدور القارئ في تحديد نوعية ما نقدمه ليتفق مع المنطق والعقل والذائقة العامة. لا يمكن إجازة أي تقرير صحفي إلا بتوافر عناصره الثابتة، ولا نجعل من الجزئيات أن تبلور الصورة الذهنية لدينا. ولهذا تتوقف مهنية العمل في اكتمال هذه الأركان، وعندما تكون الصور الفوتوغرافية مصاحبة للعمل تجعلها أكثر دقة وجمالية وتعزز جودة المضمون ومستوى المنجز الذي يوضع بين يدي القراء.
ما فعله يسري كان أكثر من (ريبورتاج)، لأن المواضيع يمكن أن تكون تقارير مجزأة من اليونان إلى تركيا وسويسرا وإيطاليا والنمسا وألمانيا ومالطا والبوسنة والهرسك وبريطانيا وإسبانيا وفنلندا، ومدن اختلفت ثقافتها وخصوصيتها من فاليتا إلى فيينا وجنيف وباريس وغيرها من تلك البقع والأصقاع التي نقل لنا الكاتب انطباعه وما شاهده وما قدمه من إضافة تاريخية أيضًا ،في تقرير وصفي للمعلومات، ركز بن يعلى حديثه عن المدن في المعمار وثقافة الأكل والفنون وثقافة شعبها، وبالصور أخذنا معه إلى تلك العواصم والمدن. فلم تكن صورة العاصمة الألمانية برلين المكسوة بالألوان أقل وضوحًا من ألوان فيينا مدينة الأحلام والفن والحب. والروح الموجودة في سرد المعلومة هي ذاتها في ملامسة جماليات الأمكنة لديه، ومقاربات أخرى بين بعض المقتنيات الموجودة في المتاحف الأوروبية مثل الساعة السويسرية والعملات القديمة، وبين ما يشابهها في بعض المدن الليبية مثل مدينة صبراته ،وفي أمستردام، حيث مدينة البراح التي وصفها الكاتب كوعاء للحرية، وعرضه لسيرة الكاتب الليبي بهولندا (كمال بن حميدة) التي صدرت له رواية (شركة طرابلس) سنة 2012 وترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وعن فرنسا أتحفنا بتاريخ ارتكن على معلوماته بلغة الأرقام عن مسلة ساحة الكونكورد بباريس والمقاربة بينها وبين مسلة مدينة الأقصر المصرية، بالإضافة للأسماء الليبية لمعالم باريسية ومحطة بئر حكيم نسبة للمنطقة التي جرت بها معركة 1942 في جنوب طبرق، والنصب التذكاري الذي يحمل عبارة بالعربية المرتبط باسم واحة الكفرة الليبية، لم تكن لندن وحدائقها ونوع النباتات غائبة عن ذاكرة الكاتب التي نقلها لنا بكل أمانة وتاريخها ومعالمها، حتى انتقلنا معه إلى إسبانيا تحديدًا من مدريد الصاخبة والقصر الملكي ومتاحفها التي أظهرت شكل معمارها وطابعها الخاص، ومنها إلى المدينة التي وصفها الكاتب الصادق النيهوم في (رسالة من هلسنكي) حيث الثلج والشتاء والسموات تجلس على السياج أثناء إقامته في فنلندا ،وما جمعه لنا بن يعلى من صور تحاكي جزر وساحات وحدائق وواجهات تلك المدينة .
ختم تجربته المصورة بأشياء عن السفر واختار عنوان البساطة في السفر التي تجعل المسافر يشعر بمتعة الأشياء ،كتاب يستحق القراءة فعلاً، فهو رصد في قالب سردي مصور يمثل جزءًا مهمًا من سفره وترحاله وجولاته عبر سنوات، والجميل في ذلك أنه كان لديه النية في تسجيل التقطاته مضيفًا لها معرفته.